راعي الغنم، اللتاتة، الخبازة، الطحان، مهن تختبئ بين جدران الحارات المصرية، قاربت على الاندثار ولكنها ما زالت تتنفس في الخفاء، ومع التطور التكنولوجي والتحول إلى كل ماهو أحدث وأيسر، أصبح ممتهني هذه المهن في قلق بالغ بل وتركها معظمهم ليبحثوا عن بدائل تضمن لهم قوت يومهم. وإلى تفاصيل هذه المهن : "محمود"الطحان هو الشخص المعني بطحن الحبوب في القرية ويأتيه الزبائن ويأخذ الأجر إما أشياء عينية من الطحين، أو نقود في فترات متأخرة، أو من خلال أعمال مقابل أعمال. الحاجة فوقية زوجة الحاج "محمود" الطحان، أكدت أنه قضى كل حياته في طحن الغلة وتحويلها إلى دقيق، مستعينا بماكينة عبارة عن "موتور" متوصل بسير موصل بحجرين مستطيلين في "قادوس" له فتحة من فوق يصب فيها الغلة، لتخرج دقيق من الجهة الأخرى. وأضافت أنه كان يعمل من الساعة 8 صباحا إلى الساعة 8 مساء، وفي مواسم الأعياد يعمل من الساعة 6 صباحا إلى الساعة 10 مساء وهكذا الحال لمدة 35 عام إلا أنه اعتزل المهنة في أواخر التسعينات وباع الماكينة بسبب انتشار أفران الخبز، خاصة أنها كانت مهنة صعبة جدا ومتعبة للغاية. "بشرى"اللتاتة والعجانة في العقود الماضية، كانت ربة المنزل من أصحاب الأعيان تستدعي الخبازة الخاصة بالمنزل لتتفق معها على معاد الخبيز، ومن ثم تعد عدتها لتصبح على يوم شاق، وبعد انتهاء مهمة الخبازة، تعطيها السيدة ما تستحق من مال وبعض الطعام والعيش المخبوز. وهذه بشرى الخبازة تجلس أما فرنها البلدي المصنوع من الطين تشعل "المحمى" بالحطب وتقلبه بجاروفها الحديدي لتحافظ على توهج النار بداخله، تجلس جوارها الست أم محمد "صاحبة المنزل" أمام "ماجور" العجين، تغمس يديها فيه لتنتشل قطعة كروية من العجين وتضعها على "مطرحة"، وتقوم بشرى ب"رّح" قطعة العجين كما يطلق عليه أهل بحري أو كما يطلق عليها أهل قبلي "ردف" العجين ثم تلقيها بداخل الفرن منتظرة أن ينضج، وتخرجه بواسطة عود حديدي لتضعه على عمود العيش. تقول بشرى إن مهنة الخبيز تحتاج مجهود ومشقة بالغة، فهي تجلس أمام حرارة الفرن ونيرانه لساعات بانتظار خبزها، مؤكدة أنها تعلمت من مهنتها الصبر والالتزام حيث أنه عندما تتفق مع زبونة عليها أن تفي بكلمتها معها معلقة بقولها "العجين ما بينضحكش عليه"، وعلى الرغم من ذلك فهي سعيدة بهذه المهنة التي تعد مصدر رزقها وتساعدها على إعالة أولادها الأربع. وتصف بشرى عملية الخبز قائلة: "يسبق الخبيز عملية أخرى تعرف بالعجن حيث يتم إحضار الدقيق المنخول من الذرة والقمح ونضعه في قدر العجين ونحفر بداخله حفرة ثم نصب بداخله ماء دافئ وبعض الملح ندوبها في الماء ثم نعجن، ومن ثم "نلت" العجين جيدا ونقلبه حتى يختفي الدقيق تماما، نغطي قدر العجين ونتركه في مكان دافئ لمدة ساعتين حتى يخمر". وتتابع قائلة: بعد أن يخمر العجين نحمله إلى الفرن ولابد من وجود شخص آخر يساعدني فالخبيز مهنة تعاون حيث تجلس معي ابنتي أو سيدة المنزل تقوم ب"التقريص" عليا وهو عبارة عن انتشال قطعة من العجين بشكل كروي ثم وضعها على المطرحة، ومن ثم أقوم بردف العجينة أي تحريكها إلى أعلى لتتمدد قطعة العجين وتنفرد لتأخذ شكل العيش البلدي الدائري وبعد ذلك ألقيها بداخل الفرن، وبين الحين والآخر استخدم بعض الحطب المبلول وأدخله في المحمى لتبقى مشتعلة..وهكذا إلى أن ينتهي الخبز." "موسى" الغنام يأتي رعي الأغنام على قائمة المهن المعروفة الذي يتميز بها الريف المصري، حيث أن الأغنام من أقدر الحيوانات الزراعية على المعيشة في الظروف المناخية المتباينة، وأكثرها إنتاجا. "لم تتغير ملامح الرعي في قرى مصر كثيرا عن ذي قبل"، هكذا أوضح العم محمد أبو موسى راعي غنم بقرية شبرا، الذي يقف بعصاه الخشبية يراقب غنماته قائلا:" أقوم برعي الأغنام منذ نعومة أظافري، فقد ورثتها عن آبائي وأجدادي ولا أجيد غيرها." ويتابع أبو موسى قائلا:" الرعي مهنة تعلم الجدية والالتزام حيث نستيقظ كل يوم منذ طلوع الشمس ونرجع مع المغيب." وعن تغذية الأغنام، أشار موسى أنها تتغذى على البرسيم والحطب و"الدريس"، فبعد أن يتم حصاد البرسيم وتنشيفه على أسطح المنازل في القرى والخبز الناشف، كذلك يتم تسريحها في الأراضي الزراعية بعد أن يتم جني المحصول من الغلة أو الذرة لتتغذى على بقاياه وترعى أيضا على جسور الترع ومصارف الري. ويضيف: " قطيعي يضم 100 رأس تقريبا، كلهم بلدي، يتراوح أسعارها من 1500الى 2000 جنيه على حسب الوزن حيث يتم شرائها صغيرة ومن ثم تتم عملية التكاثر." "أم أحمد" الداية مهنة قديمة قدم البشرية على وجه الأرض، إلا أنه نظرا لتقدم العلم والتكنولوجيا في مجال التوليد، فقد تم الاستغناء عنها ومازالت بعض المناطق الشعبية والقرى الريفية تستعين بها في الولادة والطهارة وكذلك الاستشارات الطبية الخاصة بالنساء. وتلجأ بعض سيدات الريف إلى الاستعانة بتلك المرأة تفاديا لمبالغ الولادة الطائلة في المستشفيات حيث تتقاضى الداية 300 جنيه في أسوء الأمور في حين تصل الولادة في المستشفيات وعلى أيدي الأطباء إلى آلاف الجنيهات. الست أم أحمد 65 سنة "داية" من قرية بمحافظة الشرقية، أشارت إلى أنها ورثت المهنة عن والدتها حينما كانت تلازمها في معظم عمليات الولادة والطهور حتى تمكنت من اتقانها تماما، مستكملة "وعندما توفيت والدتي أصبحت النساء يستدعونني في مثل هذه الأمور فأنا الوحيدة التي بإمكانها دخول المنزل في أي وقت من الليل حيث كان من العيب أن تلد المرأة على يد الطبيب، وولادتها في المنزل على يد الداية يكون أكثر سترا وعفة ومريحة لها نفسيا واجتماعيا"، بحسب قولها. وتابعت: "كان هناك طقوس ليوم الولادة حيث يتم خروج الرجل من المنزل وتجتمع النساء بجوار المرأة ويقمن بمساعدتها وتقف وبجواري امرأة تساعدني في تناول الماء الساخن والقماش وغير ذلك من أدوات الولادة، ثم أقوم بتعتيم الغرفة والاكتفاء بضوء "السراج" المصباح، وتستخدم بعض الأعشاب لتسهيل الولادة مثل الشيح وعندما تضع الأم مولدوها أزف البشرى إلى الزوج، وفي اليوم التالي أأتي لأطمئن على سلامة الأم والمولود." وأضافت أم أحمد:" لاتقتصر مهمة الدايات على التوليد فقط بل تمتد لتشمل إجراء عملية الطهارة، وكذلك علاج العقم باستخدام وصفات وخلطات طبيعية توضع في قطعة صوف لإزالة التهابات الرحم مكونة من الشيح والبصل والملح وتتشكل على هيئة أقماع يحقن بها رحم المرأة مباشرة والداية كانت أكثر صبرا خاصة في توليد البكرية، ففي هذه الأيام لايصبر الأطباء فيقمن بإجراء الولادة القيصرية." شددت أم أحمد أن مهنتها تتطلب الصبر والقوة والأمانة والتقوى، "ففي أحيان كثيرة جاءتني فتيات لإجهاضهن خوفا من الفضيحة، وأحيانا كانت أخريات يطلبن مني أن اكتب اسم المولود بأم أخرى لكن ضميري كان لا يسمح لي بفعل هذه الجرائم ." أما عبير محمد "ممرضة" تطرقت لما هو على النقيض، حيث أفادت أن الولادة علي يد الداية عرضة للمخاطر فالأدوات المستخدمة غير معقمة مما يعرض الجرح للتلوث، كذلك في بعض الأحيان تكون الحالة متعسرة أو يكون هناك مشاكل لا يمكن مداهمتها في المنزل مما يعرض الأم أو الجنين للخطر وأحيانا الوفاة. "عبدالحليم"صانع الجريد تعتبر الكراسي المصنوعة من الجريد ذات الطابع الكلاسيكي القديم أكثر صحة من نظيرتها البلاستيكية، وأكثر اقتناء في الحدائق والمزارع والشواطئ والاستراحات العامة. وفي "عشة" من القش والخوص بقرية البلشون بمحافظة الشرقية، يجلس العم عبد الحليم على الأرض بجواره كومة من الجريد، يمسك مخرطة من الحديد ليصنع "طرابيزاته" وكراسيه الجريد يجلس بجواره أخوه وليد يساعده على إنجاز "طلبياته". يقول عبد الحليم سعيد: "تعلمت هذه الحرفة من والدي فقد خرجت من المدرسة في سن صغير لأتعلم الحرفة، حيث نقوم بصناعة الكراسي والترابيزات والأقفاص من الجريد وذلك على حسب طلبيات الزبائن، وقد غطت مصانع الأثاث على مهنتنا فمعظم الناس أصبحوا يفضلون الأثاث الجاهز الحديث ولا أحد يكترث لمصنوعات الجريد." وأضاف:"مهنتنا متعبة وعائدها قليل فسعر الجريدة الواحدة يتجاوز الجنيه ونصف وربما يزيد في بعض الأحيان، كذلك النقل والمواصلات قد أصبح مرتفع للغاية، ففي نقلة الجريد الواحدة قد يطلب مني السائق أكثر من خمسين جنيه". اقرأ فى هذا الملف * مهن انقرضت وعفي عليها الزمن * "الفتونة" حماية و جدعنه قبل أن تتحول لبلطجة * مهن تصارع من أجل البقاء * المفروشات الجاهزة تهدد مهنة "المنجد" بالانقراض * "أم باسم " أول سيدة تترك مرمغة الميري وتمتهن السباكة * فني «الريسيفر».. مهنة صنعتها التكنولوجيا * «سهير»..أشهر «كوافير رجال» في وسط البلد * «الراوتر مان».. موزع الانترنت غير المعتمد لمحدودي الدخل * سقا الجراكن ل"محيط" : الحكومة وفرتلي وظيفة بشكل غير مباشر * «حلاق قرفص» و«متسلق النخل».. مهن تحكي قصة كفاح ** بداية الملف