مع بلوغنا القرن الحادي والعشرين، ورغم أن العلم شمل شتى مناحي الحياة، ورغم التقدم المتسارع في مهنة الطب، وبشكل خاص تخصص "النساء والولادة"، فإن مهنة "الداية"، التي تتولى توليد النساء دون دراسة أو إمكانات كافية، ما زالت لها اليد الطولى في مصر، وبخاصة في الريف والمناطق الشعبية، حتى أن وزارة الصحة أعلنت أن 20% من الولادات في مصر تسيطر عليها "الدايات"، رغم أن أغلبهن ما زلن يتمسكن بأساليب بدائية خطيرة في عملهن، فهناك قطاع عريض من النساء ما زلن لا يثقن إلا بالداية، وأخريات يلجأن إليها لضيق ذات اليد. حاولت تناول أسباب انتشار "الدايات" رغم التقدم الطبي الهائل، وكيفية مواجهة المخاطرة الناجمة عن عملهن، بعض عرض وجهات نظر الأمهات في هذا الموضوع. الخوف من التعامل مع الأطباء تقول "صباح جابر" (27 سنة): "كانت ولادتي الأولى على يد "الداية" التي نثق بها كثيرا في قريتنا بالمنوفية، ورغم أن بإمكاني الذهاب إلى المستشفى فإني أخاف من التعامل مع الأطباء؛ فالداية تكون أكثر حذرا على الحالة، ولديها المقدرة على بث الطمأنينة في القلوب، وعلاوة على ذلك فهي تسكن بجوارنا، ومستعدة للعمل في أي وقت، وترضى بأي أجر، كما أنها تقدم الاستشارات مجانا، وتعرف مواعيد الولادة، وأيضا أفضل الوسائل لتنظيم الأسرة". انخفاض أجر "الداية" وتؤكد "عفاف السويفي" (35 سنة): "أنجبت أربع مرات على يد "الداية" الموجودة بمنطقة سكني بمنشأة ناصر؛ وذلك لعدم وجود مستشفى قريب أو عيادات طبية للنساء والولادة، وكذلك بسبب قلة أجر "الداية"؛ فالولادة الأولى كانت مجانا (مجاملة)، أما أجرها في الولادات الثلاث اللاحقة فكان 100 جنيه فقط للمرة الواحدة، ورغم أن "الداية" تسبّبت قبل ذلك في وفاة جنين أثناء ولادتي له؛ فإني لم أفقد الثقة بها، لأن هناك عشرات المواليد يتوفون أثناء الولادة في المستشفيات، وعلى يد كبار الأطباء". "الدايات" يراعين الظروف الاقتصادية الصعبة لبعض النساء دايات يعملن في كل شيء أما "الدايات" فكانت لهن أيضا آراؤهن في طبيعة عملهن وتمسّكهن به، فتقول الداية "انتصار محمود"، التي تشتهر في منطقة بولاق الدكرور ب"أم شلبي"، إنها تقوم بعمل بعض الأشياء الأخرى؛ مثل إخراج الرطوبة من جسد الراغبات في الحمل عن طريق "كاسات الهواء"، وتحصل في المقابل على 70 حنيها، أما مقابل عملية الولادة فلا يزيد على 300 جنيها، مؤكدة أن "الدايات" يراعين الظروف الاقتصادية الصعبة لبعض النساء، فأحيانا تكون تكلفة الولادة 100 جنيه فقط، وأنه لا توجد أي رقابة على عملها من أي جهة، وضميرها هو الرقيب الوحيد على عملها. الموس والخيط في الولادة! وأضافت: "في البداية كنت أستخدم "الموس والخيط" في عملية الولادة، ثم استعنت مؤخرا بالمشرط والمقصّ وخيط ومشبك مخصص لربط الحبل السري للطفل، ولم يحدث يوما أن تسببت في وفاة أمّ أو طفلها، وحتى الآن لم ينخفض الإقبال على طلبي للتوليد كداية مشهورة بالمنطقة، وهناك كثيرات يلجأن إليّ بعد ذهابهن للمستشفى؛ فالأطباء يؤكدون لهن أن ولادتهن لن تكون طبيعية في حين أقوم بتوليدهن بطريقة طبيعية". الإجهاض وتجارة الأطفال "سميحة الشاعر" والتي تعمل كداية منذ 27 عاما بمركز الواسطي بالفيوم تشير إلى أن هناك بعض الدايات "معدومات الضمير"؛ يتوسطن لبيع أطفال السِّفَاح لتجار الأطفال، وما أكثرهن وما أكثر الراغِبات في الإجهاض أو التخلص من الأطفال بعض ولادتهن. وتقول: "لا يقتصر عملي على التوليد فقط، فالداية يتسع عملها ليشمل "الطهارة"، ومحاولة علاج العقم، مستخدمة في ذلك خلطة توضع في قطعة قماش من "الصوف" لإزالة التهابات الرحم؛ مكونة من الشيح والبصل والملح، وتأتي بنتيجة مذهلة، وزادت من صيتي بالمنطقة، بل وصلت شهرتي إلى مناطق بعيدة". ضمير "الداية" هو الرقيب الوحيد على عملها خطوات الولادة على يد الداية وأوضحت أن هناك بعض الخطوات التي تتبعها "الداية الشاطرة" قبل أن تقوم بعملية الولادة؛ ففي البداية أتأكد من سلامة الجنين حتى لا أتحمل المسئولية، إذا كان قد مات قبل الولادة؛ بحيث أجعل الأم تتمدد على الأرض كاشفة عن بطنها لأقوم بوضع قطعة قماش مبللة بمياه بمثلجة عليها، فإذا لاحظت عدم وجود حركة للطفل فهو ميت، وبالتالي فلا حيلة لي في ذلك؛ حيث أنصحها بالذهاب للمستشفى؛ لأن حياتها تصبح في خطر. أما إذا لاحظت حركة الطفل فهو سليم، وأبدأ عملية التوليد بإعطاء الأم أقراصا مليّنة، وأخرى لتوسيع عنق الرحم وتحفيز الولادة، وحينما يأتي موعد الولادة يتم تجهيز بعض المياه الساخنة لغسل يديّ، وتطهير أدواتي وتنظيف المولود. وتصف "سميحة" الأطباء بالجشع؛ لكثرة لجوئهم لعمليات الولادة القيصرية، حتى وإن كانت الحالة لا تستدعي ذلك. الموهبة والخبرة في العمل وفي منطقة منشأة ناصر التقيت بالداية "عائشة أبو العزم" والتي قالت: "بدأت عملي قبل 15 عاما، ورغم عدم معرفتي بالقراءة والكتابة استطعت اكتساب معرفة طرق الولادة؛ إذ عملت لفترة طويلة بإحدى عيادات النساء والتوليد، وعمل "الداية" يحتاج إلى الموهبة والخبرة معا، وقد تتفوق "الداية" على الطبيب نفسه في بعض الأحيان، ومهنة "الداية" متعبة جدا؛ فعليها أن تكون مستعدة في أي وقت لممارسة عملها، وتتحمل وحدها أي مخاطر أو مضاعفات قد تصيب الأم أو الجنين، ويجب على "الداية" أن تكون أمينة، ولا تفشي أسرار زبائنها، وأن يكون وجهها بشوشا متفائلا، وتمتلك القدرة على حساب وتوقع موعد الولادة". "الدايات" يتهمن الأطباء بالجشع لكثرة لجوئهم لعمليات الولادة القيصرية أدوات غير معقّمة وفي هذا الإطار يوضح الدكتور "مدحت عبد السلام" -استشاري النساء والتوليد بكلية طب الأزهر- أنه على الرغم من الأخطار التي تظهر في عمليات الولادة عن طريق "الداية" -خاصة أنها تستخدم أدوات غير معقّمة، وتتم الولادة بالمنازل في أجواء غير مناسبة أو مجهّزة، فإن الإقبال عليها موجود بكثرة. وقال إن هناك العديد من الحالات تحضر إلى المستشفيات بعد إصابتهن بأضرار بالغة أثناء ولادتهن على أيدي "الدايات"، وأغلبهن يكنّ مصابات بالنزيف أو التسمم؛ بسبب عدم خبرة "الداية" في التدخل الجراحي، الذي قد يكون ضروريا أثناء الولادة. الصحة تحارب الدايات بالدورات التدريبية وكشف الدكتور "خالد نصر" -رئيس الإدارة المركزية للرعاية المتكاملة بوزارة الصحة- عن أن "الدايات" يسيطرن حاليا على 20% من سوق الولادة في مصر، وأنهن يستخدمن أدوات غير معقّمة كالأمواس، مؤكدا تورّط بعضهن في قضايا اتّجار بالأطفال، وهو ما دفع وزارة الصحة إلى السعي لإبعادهن وإحلال ممرضات مدربات محلهنّ، ووجدنا أنه من الصعب منع "الدايات" ممارسة عملهن الذي احترفنه منذ سنوات، فتم وضع استراتيجية تقوم على أساس تجديد خبرات "الدايات"، علاوة على تدريب الممرضات وإعطائهن رخصًا لمزاولة المهنة، والهدف من تدريب الدايات هو تعريفهن بطرق النظافة في الولادة، والتي تقي من 50% من الأمراض التي تصاب بها الأم أو جنينها أثناء الولادة. وأضاف: "بالفعل يتم تدريجيا السيطرة على الأساليب البدائية في الولادة بعد تدريب 12 ألف "داية"، علاوة على تدريب 2000 ممرضة على عمليات الولادة السليمة". إذن.. فعلى الرغم من قيام وزارة الصحة بتقديم دورات تدريبية للمرضات، كحل للتخلّص من "الدايات"، فإن الأمر ليس بهذه السهولة؛ فيجب أولاً: العمل على تغيير العادات والتقاليد الراسخة عند الكثير من السيدات على الثقة في "الداية" رغم مخاطرها، ثانياً: يجب توفير خدمات آدمية بالوحدات الصحية المنتشرة بالمناطق الفقيرة بالريف والأحياء الشعبية؛ لتستطيع جذب النساء إليها، بدلاً مِن أن يقعن فريسة في براثن "الداية" التي لا تعرف شيئاً عن أساسيات النظافة عند القيام بعملها.