ميزان العلاقة مع أمريكا عاطف الغمري كانت لعبة توازن القوي وستظل, عنصرا حاضرا في إدارة أمريكا علاقتها مع مصر. فأمريكا قوة عظمي تتجاوز استراتيجيتها العالمية حدودها كدولة, حين تعمل من أجل أهداف مصالحها في العالم, وفي منطقتنا العربية علي وجه الخصوص. وهي استراتيجية تعبر عن مصالحها الوطنية ومصالح أمنها القومي, لكن قدرتها علي تحقيق أهدافها, ليست مطلقة, حسب قواعد عمل ميزان القوي, بل هي متوقفة علي قدرة الطرف الآخر في هذه العلاقة, علي أن تكون له سياسات, مستندة الي قدرات ذاتية, في السياسة والاقتصاد والبحث العلمي, ومتانة الجبهة الداخلية وعافيتها, تسمح بتحييد أو تقليص قدرة الدولة العظمي علي فرض ما تريد. هكذا كانت علاقة مصر بأمريكا ورؤسائها, والتي تراوحت بين الصعود والهبوط, أو التحسن والتوتر. .. ولعبة توازن القوي بدأتها أمريكا مبكرا عام1953, حين أطاحت وكالة المخابرات المركزية, وجهاز المخابرات السرية البريطاني, بالدكتور محمد مصدق رئيس وزراء ايران, وأعادت الشاه الي عرشه, لتصبح الحليف الاستراتيجي لأمريكا في المنطقة لربع قرن. ومارست اللعبة في العراق بتأييدها حزب البعث عام1963, ثم وضع ثقلها وراء عودة البعث الي الحكم عام1968, ومارسته بقوة في الحرب العراقية الايرانية( من1980 1988), بتوليها مهمة تسليح صدام حسين, ووضع معلومات أجهزة مخابراتها وأقمارها الصناعية في حوزته, بينما رتبت لاسرائيل, دعم الكفة الأخري, بتسليح ايران في حربها مع العراق. وفي ممارسة لعبة توازن القوي مع مصر وبحسابها لأهداف فرض سياساتها في المنطقة العربية دون عائق. كان احتواء حجم مصر إقليميا في الحدود المطلوبة, هدفا سواء تحسنت العلاقات أم توترت. صحيح أنها تساعدها اقتصاديا, لكن بحساب, وبالطريقة التي لا تخرج بمصر من دائرة الدولة المعتمدة اقتصاديا علي الاستيراد خاصة في السلع الاستراتيجية كالقمح, الي رحابة دور الدولة المتمتعة بالاكتفاء الذاتي زراعيا وصناعيا, والقوة الاقليمية التي تنهض وتؤثر في محيطها الاقليمي. وفي اطار لعبة توازن القوي, كانت حرب67, فرصة لاضعاف مصر, وتقليص دورها الاقليمي وانسحابها من مركزه, طبقا لكتابات عديدة تناولت هذا الموضوع في أمريكا وإسرائيل, الي ان استطاعت مصر ترجيح كفتها في ميزان القوي مع اسرائيل في حرب1973, مما دفع أمريكا الي تغيير موقفها من دبلوماسية كيسنجر التي لخصها بقوله علي الخاسر أن يدفع ثمن خسارته, الي قبول دبلوماسية المفاوضات بين مصر وإسرائيل في هذه الفترة التي تحول فيها ميزان القوي بالضربة العسكرية المصرية لاسرائيل في73, ظهر احترام أمريكا للأقوياء, وكان من مظاهره, اعلان جيمس شليزنجر وزير الدفاع الأمريكي نحن نحمي أمن اسرائيل ولا نحمي توسعها. وفي مختلف حالات الصعود والهبوط, كان هناك سعي أمريكي لحصار العلاقة بين مصر وأمريكا, حتي بعد معاهدة السلام في1979, في إطار مسار العلاقة الثنائية بين مصر وإسرائيل, ومحاولة جعل علاقة أمريكا بمصر, أسيرة لحالة العلاقة بين مصر وإسرائيل, بصرف النظر عن ممارسات اسرائيل ضد الفلسطينيين, وتعويقها عملية السلام. وفي أوقات معينة خاصة في عهد كل من الرئيس بوش الأب, وكلينتون, نجحت ادارة الرئيسين في الإفلات بالعلاقة العسكرية بين مصر والبنتاجون, من تأثيرات الضغوط التي حاولت جعل العلاقة بين مصر وإسرائيل محورا للعلاقة الأمريكية المصرية. ولا يمكن التسليم بأن قدرة أمريكا علي الضغط أو تكبيل قدرات أي دولة, ومنعها من التحول الي قوة اقليمية ناهضة ومؤثرة, هي قدرة مطلقة, وهو ما أكدته تجربة الهند, حين أبصرت عن وعي, قواعد العصر الدولي الجديد بعد انتهاء الحرب الباردة, وأمسكت بمفاتيح قيام دولة ناهضة اقتصاديا, عفية سياسيا, قادرة علي فرض وجودها ومكانتها في المجتمع الدولي, فمضت في البناء الداخلي والديمقراطية, معا يدا بيد, لتوجد دولة متينة البناء الاقتصادي في الداخل, ولديها مشروع, أبطلت به عمل مبدأ أساسي في استراتيجية حكومة بوش, وهو عدم السماح بقيام اي قوة اقليمية منافسة, ومنع ذلك بكل السبل, ورجحت الهند كفتها في ميزان القوي مع أمريكا, مما دفع الرئيس بوش للذهاب اليها ليس كزائر فقط, وإنما معترف بوزنها ودورها الاقليمي والدولي, ومبرم معها اتفاقات تعاون في الاقتصاد, والتجارة والعلوم, والتكنولوجيا النووية. ان لعبة توازن القوي التي أعاد كيسنجر تأكيدها في صميم ادارة السياسة الخارجية للولايات المتحدة, في أواخر الستينيات, وأوائل السبعينات, سوف تظل مقياس ادارة أمريكا علاقتها بمصر, التي تنظر اليها من زاويتين: حسابها لمصر كدولة, وحسابها لها كقوة اقليمية في العالم العربي. ولما كانت الأسباب التي تحكم هذين الجانبين مازالت قائمة, وهي تحديد أمريكا لمصالحها الاستراتيجية فائقة الأهمية في المنطقة علي أنها: البترول, واسرائيل, ثم ما أضيف اليها بعد الحادي عشر من سبتمبر, بتصورهم للارهاب, فإن انسحاب الاهتمام الأمريكي بمصر, هو أمر مستبعد تماما, خاصة اذا وضعنا في الاعتبار, المفهوم الذي سيطر علي صانع قرار السياسة الخارجية الأمريكية في السنوات القليلة الماضية, وهو انتقال خط المواجهة مع العدو السوفيتي القديم, الي المنطقة العربية, عندئذ لن ينسحب نظرهم بعيدا عن حالة مصر, ودورها وقدراتها داخليا وإقليميا, وإن كان يحسن التذكير بأن ما قد تسعي اليه أمريكا في اطار لعبة توازن القوي, ليس قدرة مطلقة في كل الحالات. عن صحيفة الاهرام المصرية 30/1/2008