نكون مغالين في التفاؤل, لو اننا توقعنا حدوث كل ما نتمناه في مفاوضات واشنطن التي تبدأ غدا. فما يجري هناك عمل من أعمال السياسة, والسياسة عند كل طرف ليست مجرد رغبة في تحقيق هدف. لكن الأهم: ماهي أدواتك التي تدخل بها حلبة نزال في لعبة توازن قوي؟ وهي لعبة تحكمها عند أمريكا قواعد وأحكام, في حالة النزاع العربي الاسرائيلي, وهي عند اسرائيل عملية مارستها, وأتقنت قواعدها التي تعاملت بها علي امتداد عشرات السنين من عمر هذه المفاوضات. ان إدارة السياسة في هذه العملية تلقي علي عاتق كل طرف من اطرافها الثلاثة مسئوليات وأعباء وأدوارا, ومع التسليم بأن الرئيس الأمريكي أوباما يريد حلا للقضية الفلسطينية, علي أساس قراءة ما أبلغه أوباما لنيتانياهو في آخر مكالمة تليفونية بينها قبل اجتماع واشنطن, من أن استمرار هذا الوضع بغير حل, يعرض المصالح الأمريكية في المنطقة للخطر, كذلك ما عبرت عنه هيلاري كلينتون عن أملها في الوصول لاتفاق نهائي خلال عام إلا ان المسلم به أن إدارة السياسة الخارجية في واشنطن, تحكمها طبيعة النظام السياسي الذي ينفرد بخصائص لا يشاركه فيها أي نظام آخر في العالم. هذا النظام هو من وصفه لي مسئول كبير بالخارجية الأمريكية, بقوله نحن مجتمع الضغوط. وهي مقولة تعبر عن هوية هذا النظام, الذي قنن هذه المقولة عمليا, بما أتاحه لجماعات وقوي في الداخل بأن تضغط لصالح أي طرف تريد أن يصدر قرار السياسة الخارجية في النهاية لصالحه, بما في ذلك دول أجنبية, وهو الدور الذي تلعبه قوي الضغط. ان ما يجري علي مائدة المفاوضات ليس صياغة مواقف لحساب طرف له حقوق مشروعة, في موازنة مع سلوكيات طرف مغتصب, وينكر عليه حقه, لكنها مسألة لعبة توازن قوي, وحيث يقوم طرف منها بتعبئة مالديه من امكانات الضغط والتأثير ليأتي القرار لصالحه. فالرئيس يتحرك فوق خريطة سياسية, قسمت مساحتها, الي أركان تنشط فيها مجموعة من القوي ذات المصالح والانتماءات المختلفة, صحيح أن الرئيس هو صاحب القرار, وواضع الاستراتيجية العليا للدولة, لكنه أيضا متأثر بمدي ما تمارسه عليه هذه القوي من ضغوط, واضعا في حساباته في نفس الوقت, ما يمكن ان تحدثه هذه القوي من تأثير علي فرصته في إعادة انتخابه. ان اسرائيل لديها أنصار في الداخل تمثلها منظمات يهودية, ومراكز بحوث, ومؤسسات اعلام, وآليات للدعاية والترويج اليومي لأفكارها, وهي تحرك هذه الكيانات, في وقت واحد للتأثير علي موقف أوباما, وتساندها الحملات التي يديرها الجمهوريون المعارضون, من خلال مؤسساتهم السياسية والاعلامية. واذا نحن تصورنا كيفية صدور قرار السياسة الخارجية بالشكل الذي سبق أن شرحه لي مساعد سابق لوزير الخارجية الأمريكية, فإنه قال: علينا ان نتصور ان الرئيس يمسك في يده بميزان من كفتين, وكل طرف مهتم بصدورالقرار لصالحه, يريد ان ترجح كفته, فهو يلقي فيها بكل ما لديه من أثقال. والثاني يفعل المثل, ومن ترجح كفته هو الذي يميل القرار لصالحه وهذا هو أدق تشبيه لمعني كلمة مجتمع الضغوط. اذن اسرائيل جاهزة بكل ثقل في جعبتها, في وقت صناعة القرار فما الذي يفعله العرب في مثل هذا الوضع؟ هل لديهم استراتيجية جاهزة لسياستهم الخارجية؟ بالمعني العلمي لكلمة استراتيجية؟ أو علي الأقل هل لديهم استراتيجية حد أدني يتصرفون بها في إدارة المفاوضات مع اسرائيل؟ ومستخدمين كل ما لديهم من إمكانات واوراق ضغط ومساومة اقتصادية, وسياسية, واعلامية؟ أضف الي ذلك ان العرب في حاجة ملحة للتحرك داخل الساحة الأمريكية, ومخاطبة الرأي العام الأمريكي, في بلد لديه استعداد لان يسمع للآخرين. فالساحة الأمريكية تنشط فيها بحكم الدستور, وتقاليد الممارسات السياسية, سبع قوي, مسموح لها بأن تكون شريكا مؤثرا علي قرار السياسة الخارجية و بدرجات متفاوته لكل منها, فبجانب الرئيس والكونجرس, هناك النخبة في مراكز البحوث جماعات المصالح قوي الضغط الإعلام والرأي العام, وهي قنوات أبوابها مفتوحة لمن يريد أن يأتي ويوجه خطابه من خلالها. وبالرغم من ان الضغوط اليهودية تمارس تاريخيا وبشكل منهجي منظم علي الرؤساء الأمريكين, فإن هناك منهم من تصدي لحملات الضغوط اليهودية, وتمسك بموقفه, وأرغم رؤساء حكومات اسرائيل علي الانصياع له معبرا عن مصالح الأمن القومي لبلاده, ومنهم علي سبيل المثال ايزنهاور(1957), وجيرالد فورد (1975), وجورج بوش الأب (1991). ان أولي مسئوليات اي دولة, ان تحمي المصالح الوطنية ومصالح الأمن القومي لشعبها, بناء علي استراتيجية, تتحرك بها في ادارة مختلف شئونها ابتداء من حماية حدودها من اي اعتداء خارجي, وحتي ادارة مفاوضات في حالة كالنزاع العربي الاسرائيلي. وفي هذه الحالة فإن هناك طرفين من الثلاثة يملك كل منهما استراتيجية, ومن يملكها فهو الذي يحرك الأمور في الاتجاه الذي يريده! أقصد الاستراتيجية بمعناها العلمي الشامل المتكامل. نقلاً عن صحيفة "الاهرام" المصرية