يعيش الشعب الجزائري أجواء إحياء أحدى أهم ذكرياته"8 مايو" وعندما نذكر الثامن مايو 1945م،يتبادر إلى أذهان الجزائريين مشهد ذو صورتين متضاد تين في ساحة الصراع الفكري المادي في العصر الحديث، صراع بين نضال مرير للشعب الجزائري من أجل التحرر والإنعتاق من جهة،وهمجية المحتلين الفرنسيين في سعيهم لإبادة شعب واحتلال وطن من جهة أخرى، وهو ما يمكن وصفه بصراع الحق والباطل.صدام الخير والشر.
ذلك الصراع،سبق فكر المبهور ومشاعر الفرد المقهور معا،وكان محصلة لواقع،فمنذ الثلاثينيات، يوم وضع تفاؤل الجزائريين بالمستقبل على المحك،وأدركوا أن عليهم استخدام السياسة كوسيلة إدراك لا أداة انطلاق، و الابتعاد بل والتخلي عن الأفكار الميتة، التي سكنت جسم المجتمع لحقبة طويلة من الزمن،فبالنظر إلى الوضع في الجزائر قبل مجازر 8 مايو 1945 م التي يحلو للبعض تسميتها -أحداث- نجد أن جهود الحركة الوطنية السياسية تركزت على المطالبة بإلغاء نظام البلديات المختلطة والحكم العسكري في الجنوب وجعل اللغة العربية لغة رسمية، ثم المطالبة بإطلاق سراح الزعيم السياسي مصالي الحاج.
وفي المقابل كان انشغال الفرنسيين آنذاك منصبا على تحرير بلدهم ، من النازيين الألمان، ما أدى إلى كتمان غضبهم وظلوا يتحينون الفرص ويتربصون بالجزائريين وهم يستعدون للقضاء على الحركة الوطنية.
وفور إعلان نهاية الحرب العالمية الثانية أخذ زعماء الحركة الوطنية يحضرون للاحتفال بانتصار الحلفاء على النازية،عن طريق تنظيم مظاهرات أرادوها أن تكون وسيلة ضغط على الفرنسيين بإظهار قوة الحركة الوطنية ووعي الشعب الجزائري بمطالبه، فضمنوا برنامج الاحتفال:المطالبة بإطلاق سراح مصالي الحاج، واستنكار الاضطهاد واستقلال الجزائر، وعزموا على رفع العلم الوطني.
كانت تواريخ وارقام سير الأحداث كما يلي: الثلاثاء 01مايو مظاهرات سلمية في المدن الكبرى بدعوة من حزب الشعب ،احداث طفيفة في بجاية واغتيال شرطي فرنسي. الأربعاء02 مايو توقيف 32 مناضلا وتشديد الرقابة على الحركة في مختلف المدن. الخميس03 مايو بعد سقوط مدينة برلين -سطيفعنابةالجزائر العاصمة تنظم مظاهرات – والأمور تزداد تعقيدا والسلطات تزيد من تشددها. الجمعة04مايو استدعاء 20مناضل ومشبوه من طرف نائب الحاكم بمدينة قالمة واستنطاقهم. السبت05مايو إمضاء بيان تنديد من طرف ممثلي الحركة الوطنية ضد تصرف سلطات الاستعمار.والإجراءات البوليسية والاضطهاد التي تعرض لها المتظاهرون والمناضلون.
الاحد06مايو اعداد وتوزيع بيان ومناشير باسم حزب الشعب وفرحات عباس والحركة الوطنية تدعو المناضلين والمواطنين لحمل الرايات الوطنية واللافتات المطالبة بالاستقلال،وقد قوبل هذا الإجراء بعزل النشطاء عن الشعب تحسبا لجديد. الاثنين07مايو وقوع صدامات بين المواطنين وقوات البوليس بسطيف ووادي ألزناتي نم خلالها تمزيق العلم الفرنسي بعد سحبه من ساحة البريد بوادي ألزناتي.
الثلاثاء08مايو انطلاق شرارة الأحداث، بعد المجزرة المرتكبة وسط مدينة سطيف حيث اتجه المتظاهرون إلى وضع باقة ورد على ضريح الجندي المجهول مرددين نشيد" يا شباب حيوا الشمال الإفريقي" وشعارات الحرية، وحين وصل المتظاهرون إلى الساحة حيث المسرح البلدي الحالي قابلتهم الجند رمة والبوليس وطالبهم الضابط " اشياري" بتعيين ممثلين ، فاختاروا أصغرهم ورفضه وعينوا له ممثل آخر معه وقدموا المطالب الممثلة في الاستقلال وإطلاق سراح المعتقلين وكفل الجمع لبداية الافتراق.، لكن اشياري هدد بان الرد سيكون عنيف على أي حركة اخرى يقومون بها.
وغير بعيد طلب الضابط أوليفي من الشاب الكشاف" سعال بوزيد" أن ينزل العلم الجزائري الذي يرفعه ويقدمه له، لكن الشاب رفض فاخرج أوليفي مسدسه وأطلق عليه النار فأرداه قتيلا وسط الجمع. مما زاد سخط الجزائريين التهابا، وقابلوا الرصاص بصدورهم. وانتقلت الاحتجاجات والصدامات إلى مدن أخرى وما جاورها- خراطة قالمةتبسه وادي ألزناتي،..الخ،وهكذا سخرت فرنسا ازيد من 4000شرطي ,اكثر من2250دركي وتدخل الطيران ب:150 طائرة حربية لقصف القرى والمد اشر بمعدل 300غارة يوميا،القت خلالها 450 طنا من القنابل.
منها 18طائرة تقنبل مدينتي قالمة وسوق أهراس وتلقي على رؤوس العزل 150 قنبلة من 1000كغ. ودمرت أكثر من 40 قرية وفي ولاية سطيف وحدها حرق العدو الفرنسي 91 قرية ب 2580 منزلا،. وما يزال إلى اليوم البعض ممن مستهم الآلة الاستعمارية في المجازر بالسجن والتعذيب والجرح يمثلون الشهادات الحية على الجرائم الشنعاء في حق الإنسانية على يد العصابات الإجرامية الفرنسية التي أعلنت الحرب على كل ما يرمز للحياة وكل من يتطلع إلى الحرية،
هذه الصدمات كانت بسبب تربص القوات الفرنسية وحلفاؤها بالمناضلين وعزمها على القضاء على كل ما هو وطني، استبدال شعب مسلم بشعب لفيف ودين الإسلام بدين الظلم والطغيان ، كانت العملية مهيأة حتى لو لم يخرج الجزائريون في مظاهرات سلمية صباح 08 مايو 1945 م كغيرهم من شعوب العالم، ليعبروا عن فرحتهم بانتصار الحلفاء، - انتصار الديمقراطية على الدكتاتورية ؟؟؟-،
وبعد أن تلقوا إذنا من الإدارة الفرنسية للمشاركة في احتفال انتصار الحلفاء،واستغلوا التعبير عن شعورهم بالفرحة ،وطالبوا باستقلال الجزائر،وتطبيق مبادئ الحرية التي رفع شعارها الحلفاء طيلة الحرب الثانية انطلقت تلك المظاهرات في مدينة سطيف باعتبارها المقر الرئيسي لحركة أحباب البيان والحرية،تبعتها مدينة خراطة،وقالمة وعمت بعد ذلك مختلف أنحاء الوطن.فكانت المظاهرات عارمة وكان رد الاستعمار عنيفا.
وأما عن نتائج الانتفاضة وما قابلها من رد همجي فقد تضاربت التقارير حولها:- وزير الخارجية الفرنسي يصرح ب 1200 الى1500، بين قتيل اعدم اغلبهم على يدي الحاكم العسكري و 2400 معتقلا في الجانب الجزائري88قتيلا و150جريح أصيب جراء هجمات المسلمين،على الفرنسيين.جاء ذلك في الكلمة التي أذاعها "تيكسيه" في 29 يونيو بعد التحقيق المزعوم حول أسباب ونتائج الانتفاضة والتي قال فيها: "ان المسلمين الذين قتلوا لا يتجاوز عددهم 1500 نسمة".
لكن معظم المصادر المعتمدة تقدر بان عدد القتلى أعلى من ذلك بكثير،حتى المصادر الفرنسية تذهب صراحة إلى أن العدد الحقيقي يتجاوز ما أكدته السلطات الفرنسية برئاسة الوزير " تيكسيه . -وجاء في التقديرات الجزائرية " 45.000-100.000،"قتيل. أما التقديرات الأجنبية فإنها تشير الى عدد:"50.000-70.000" وهي الأقرب إلى الحقيقة.
هذا المشهد وما يعبر عنه من معاني استغلته الحركة الوطنية فيما بعد وسخرته لتعزيز المقاومة السياسية وبعث المقاومة العسكرية قبيل انطلاق ثورة التحرير ،وعندما انطلقت شرارة الثورة التحريرية في 01 نوفمبر 1954 م،ازدادت أعمال القمع والإجرام بهدف قمع الثوار وإخماد نارالثورة ، وعرف تاريخ الجزائر خلال النصف الثاني من القرن العشرين أحداثا ومجازر لا تختلف عن سابقاتها إلا من حيث شمولية المكان و تقدم الزمان..
فإذا علمنا ان الاحتفالات الرسمية بنهاية الحرب كانت يوم 07 مايو وقاطعها الجزائريون رغم إيذان السلطات الفرنسية بالسماح لهم بالتظاهر،وبدل الاحتفال وزعت مناشير تدعو الشعب للاتحاد من اجل استرجاع الحق المغتصب.،فالشعب لبى النداء وقاطع واتحد في تحد كبيرين فإن ذلك يزيدنا يقينا أن الذي حدث هو جريمة من أفظع جرائم الاستعمار الفرنسي منظمة ضد انتفاضة شعبية تحريرية(جيش بكامل معداته وكل حلفائه ضد شعب أعزل أصابه الدهر بويلاته.
هذه صورة صغيرة لقضية كبيرة لا يمكننا الاضطلاع بكل جزئياتها وحيثياتها إلا بالبحث والتنقيب وقراءة كل ما كتب عنها. وما نريد الإشارة إليه في هذه العجالة ، ونحن نحيي الذكرى 64 لمجازر الثامن من مايو وفي ظروف جد حساسة ،هو التركيز على ضرورة تصور المشهد بما حمله من فظاعة لنستشف من خلاله،أن الثامن من مايو بداية لمعركة الحسم طرفاها،مناضلون أخلصوا لمبادئهم، ومن ورائهم تعزيزات شعبية،يريدون تحرير البلاد و تخليص العباد من مظالم الاستعباد وشناعة الاستبداد من جهة،وجيش عرمرم من اللفيف الأجنبي تجره السياسة الفرنسية الوحشية التي خرجت تجر اديال الهزيمة في حربها مع الألمان.
بين إصرار المحتلين الفرنسيين على البقاء، وعزم الجزائريين على التحرر، ظل الصراع قائما وما يزال الى اليوم، باعتراف المجتمع المدني الفرنسي ومثقفيه، إذ رغم مطالبتهم بكشف المتسببين في تلك المجازر وإحالتهم على المحكمة الجنائية الدولية مازالت فرنسا الرسمية تتنطع وتتستر على جرائمها وماضيها القبيح. والأهم من كل ذلك،إن ثورة نوفمبر عكست بكل صدق قدرا من إرادة أبناء الحركة الوطنية ، قادة ومناضلين، وفضحت مستور عفونة الاستعمار الفرنسي البغيض .
لقد تحقق الاستقلال بمزيد من الضحايا وجليل التضحيات واستبشرالجزائريون بحلم الاستقلال واستنشقوا نسيم الحرية بفضل تلك الجهود الحميدة ،بعد أن طالت الحرب، وتعب الشعب، وخربت الديار جراء ما لحقها من حرب مدمرة، واليوم حان الوقت لتضميد الجراح، ورص الصفوف، والشروع في إعادة السلم ووقف النزيف الداخلي،والخروج من دوامة العصبيات المقيتة ونبذها،وترك هوى التنازع وداء الفرقة ، وتسريع إتمام البناء،آمالاً كهذه لا يكمن لها ان تتحقق دون الشفافية السياسية في تحمل مواجهة المتطلبات والمصالح الاجتماعية الحقيقية.
ولا أود هنا تحليل النواحي السلبية والايجابية لبعض الممارسات في قلب السلطة وإدارتها بالذات. لكن آمالاً كهذه لا يمكن لها ان تتحقق دون تحمل مواجهة المتطلبات والمصالح الاجتماعية الحقيقية.ففي اعتقادنا أننأ مطالبون اليوم أكثر من أي وقت مضى بالاستقامة والتخلي عن الدوافع الذاتية للأفراد والجماعة والتنازل لصالح الجميع لحسم المعركة التي كانت بدايتها انتفاضة 08 مايو 1945م ومسارها ثورة نوفمبر الخالدة.