لمحة علي المشهد الدبلوماسي عشية حرب أكتوبر عبدالرءوف الريدي لقد كتب الكثير عن الجانب العسكري في الإعداد لحرب أكتوبر المجيدة... ولكن لم يكتب الكثير عن الجانب الدبلوماسي أو الإعداد السياسي والإعلامي للحرب... ويندرج ذلك القصور ضمن ظاهرة افتقاد توثيق ونشر التاريخ الدبلوماسي لمصر... خاصة تاريخ ربع القرن الذي شهد سلسلة الحروب الخمس مع إسرائيل بدءا من حرب فلسطين عام48 مرورا بحرب السويس عام56 وحرب67 المأساوية وحرب الاستنزاف(68 70) ثم حرب أكتوبر المجيدة. وليس من شك أن قصة الإعداد الدبلوماسي لهذه الحرب الأخيرة هي قصة تستحق أن تروي, خاصة لأن مصر السادات كانت فيه قارئة جيدة لمواقف الأطراف, وممسكة بزمام المبادأة الدبلوماسية طوال الوقت حتي عشية العبور يوم6 أكتوبر... وبطبيعة الحال فإن الإعداد السياسي للحرب إنما يرتبط بقرار الحرب ذاته بعد أن تلاشي الأمل في التوصل إلي حل سلمي وفشل مباحثات جوناريانج ممثل السكرتير العام للأمم المتحدة طبقا لقرار مجلس الأمن رقم242 وفشل مبادرات وزير الخارجية الأمريكية وليم روجرز التي أجهضها كيسنجر مستشار الأمن القومي بالمشاركة أو بالتواطؤ مع رئيسة وزراء إسرائيل جولدا مائير. ثمة محطة هامة كان لها تأثيرها علي تبلور القرار المصري. وتمثل ذلك في اجتماع القمة السوفيتية الأمريكية برئاسة كل من الرئيس نيكسون ومعه كسينجر وليونيد برجنيف سكرتير عام الحزب الشيوعي والرجل الأول في الاتحاد السوفيتي في موسكو في مايو1972. وفي البيان المشترك الصادر عن هذا الاجتماع جاءت العبارة الشهيرة التي تفيد أن الطرفين سيعملان علي أن تكون هناك حالة استرخاء عسكري في منطقة الشرق الأوسط. كانت عبارة الاسترخاء العسكري من بنات أفكار هنري كيسنجر مستشار الأمن القومي الذي كان ينظر إلي قضية الشرق الأوسط باعتبارها إحدي قطع الشطرنج في المباراة بين القوتين الأعظم, واعتبار إسرائيل في خانة الحليف مع أمريكا, واعتبار مصر محسوبة علي الاتحاد السوفيتي, القوة العظمي الثانية التي كان كيسنجر عازما علي حرمانها من أي دور في المشاركة لتحقيق التسوية السلمية في الشرق الأوسط والتي كان يعمل علي أن تحتكرها الولاياتالمتحدة. وفي سبيل ذلك كان يسعي إلي ترسيخ الاعتقاد لدي العرب أن عليهم أن يتحولوا إلي الولاياتالمتحدة التي وحدها تستطيع أن تضغط علي إسرائيل, وإقناعهم أن المبادرات الخاصة بتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم242... ليست إلا محاولات ساذجة من جانب وزير الخارجية روجز لن توصلهم إلي أي شيء!! كان كيسنجر يرمي أيضا إلي إفهام العرب أن الاتحاد السوفيتي نفسه في جيب الولاياتالمتحدة, وذلك بسبب تلهف الاتحاد السوفيتي علي حالة الوفاق مع الولاياتالمتحدة مما يجعله مستعدا للإعلان عن سياسة مشتركة للاسترخاء العسكري, أي معارضة القيام بأي عمل عسكري لاسترداد الأرض, وهو ما يعني بالضرورة عدم تزويد مصر بالسلاح القادر علي تمكينها من شن حرب لتحرير الأرض, شهدت الفترة مابين يوليو1972 حتي أكتوبر1973 أهم خطوات الإعداد للمعركة, والتي كان من بينها الاجتماع الهام بين الرئيس السادات والرئيس حافظ الأسد في برج العرب في أغسطس72, واتفاق الرئيسين علي خوض الحرب معا وإنشاء المجلس العسكري المصري السوري المشترك.. ثم الاتفاق بعد ذلك علي توقيت الحرب. وسار الرئيس السادات في تطبيق خطة الخداع الاستراتيجي الكبري التي استهدفت في النهاية أن يكون لمصر وسوريا ميزة توجيه الضربة الأولي والاستفادة من عنصر المفاجأة وهو ما حدث بالفعل. كانت الفترة ما بين إعلان موسكو في مايو72 وبدء الحرب في أكتوبر73 هي أخصب الفترات التي نشطت فيها القناة السرية بين القاهرة وواشنطن وقد تتابعت وتكثفت هذه الاتصالات حتي كانت اللقاءات السرية بين حافظ إسماعيل مستشار الأمن القومي المصري وكيسنجر في فبراير ويوليو1973 علي التوالي, وليس من شك أن هذه اللقاءات قد زادت من اقتناع كيسنجر أن مصر ليست في وضع يسمح لها بالحرب... وأنها لذلك تستميت في العمل علي التوصل إلي حل سلمي, وأن تصريحات الحرب ليست إلا من قبل التهويش, وليس من شك أن مما عزز لدي كيسنجر هذا الاقتناع هو شعوره بأنه قد نجح في تطويع الموقف السوفيتي مستخدما في ذلك تلهف السوفيت وتمسكهم ب الوفاق بين القوتين الأعظم أكثر من أي شيء آخر. إلا أن الفترة ما بين يوليو72 وأكتوبر73 لم تشهد فقط تغلب كيسنجر علي وزير الخارجية وليم روجز وإظهاره بمظهر العاجز. بل شهدت أيضا نجاح كيسنجر في إزاحة روجز من منصبه كوزير للخارجية بتوليه هو للمنصبين معا, منصب مستشار الأمن القومي, ومنصب وزير الخارجية وذلك في إدارة الرئيس نيكسون الثانية التي بدأت عام73... وهو وضع لم يحدث لا من قبل ولا من بعد في تاريخ الدبلوماسية الأمريكية... إلا أن كيسنجر لم يكتسب نفوذا من هذا الوضع الاستثنائي فقط بل أيضا من ملء الفراغ الذي أوجده انشغال الرئيس نيكسون بعد تفجر فضيحة ووتر جيت والتي جعلت الرئيس الأمريكي غارقا حتي أذنيه في هذه الأزمة وتداعياتها طوال عام74,73 إلي أن اضطر إلي الاستقالة من منصبه قبل انتهاء ولايته الثانية بعامين. في هذه الفترة كانت يد كيسنجر طليقة إلي حد غير مسبوق في توجيه وإدارة السياسة الخارجية الأمريكية... وقد استغل كيسنجر هذا الوضع إلي أبعد الحدود وكانت المستفيدة الأكبر منه بالتبعية هي إسرائيل. في هذه الفترة أيضا, وتحديدا في سبتمبر1972 عين الرئيس السادات وزير خارجية جديدا هو المرحوم الدكتور محمد حسن الزيات... وكان اختياره للزيات راجعا لأمرين أولهما الخبرة الإعلامية التي كان الزيات قد اكتسبها كمتحدث رسمي عقب حرب67, ونجاحه الكبير في تحسين الصورة الإعلامية لمصر في هذا الوقت, وثانيهما لخبرته في الأممالمتحدة حيث كان مندوبا دائما لمصر من69 حتي عام73 وقبلها كان مندوبا مناوبا. وكان السادات يعتزم طرح القضية برمتها علي مجلس الأمن, وإظهار أن مصر قد استنفدت كل السبل للتوصل إلي حل سلمي, وقد اختار السادات المناسبة التي طرح من خلالها القضية أو بالأحري طرحت هذه المناسبة نفسها... عندما قامت إسرائيل بعمليتها الشهيرة باغتيال القادة الفلسطينيين الأربعة تحت جنح الليل في مساكنهم في بيروت في أبريل1973. أثارت هذه العملية الوحشية الرأي العام العالمي... فانتهز الرئيس السادات هذه المناسبة وكلف وزير الخارجية الجديد بأن يتوجه إلي نيويورك ويطرح قضية أزمة الشرق الأوسط برمتها... وقد شكل الدكتور الزيات فريق عمل من أعضاء الخارجية لهذا الغرض كان من بينهم المرحوم الشافعي عبدالحميد وعبدالحليم بدوي ونبيل العربي وعمرو موسي وكاتب هذه السطور... وكان المندوب الدائم في نيويورك آنذاك هو الدكتور عصمت عبدالمجيد, وقد اجتمع مجلس الأمن بشكل مكثف, وسافر الدكتور الزيات ومساعدوه أربع مرات ما بين أبريل ويوليو73 إلي نيويورك مقر الأممالمتحدة, وكان السؤال هو ما الذي ستطلبه مصر في النهاية من مجلس الأمن؟... وبعبارة أخري ما هو القرار الذي سيصدر عن المجلس في ضوء الموقف الأمريكي المعروف والمستعد دائما لاستخدام حق الفيتو لمنع صدور أي قرار لا ترضي عنه إسرائيل... وقد حكي الدكتور عصمت أنه عندما ذهب مع الدكتور الزيات لمقابلة الرئيس السادات وأخبراه بأن أي قرار يقوم علي مبدأ الانسحاب من الأراضي المحتلة مقابل إقامة سلام تطبيقا للقرار242, سيكون عرضة لاستخدام حق الفيتو بواسطة الولاياتالمتحدة... فكان رد الرئيس السادات هو: إنني أريد هذا الفيتو... أريد هذا الفيتو!!, وبالفعل فإنه عند التصويت في المجلس في شهر يوليو كان هناك إجماع من كل أعضاء مجلس الأمن عن فيهم حلفاء أمريكا مثل إنجلترا وفرنسا صوتوا لصالح القرار وكان الصوت المعارض الوحيد الذي استخدم الفيتو هو صوت الولاياتالمتحدة... وكان الأثر الإعلامي لذلك كبيرا لصالح الموقف المصري. كان السادات يريد أن يظهر للعالم أننا طرقنا كل أبواب الحل السلمي داخل وخارج مجلس الأمن, ولكن الطرف الآخر( أمريكا وإسرائيل) هو الذي أوصد هذه الأبواب, فلم يكن أمامنا إلا أن نلجأ للقوة لنحرر أرضنا, وكان ذلك يجري في مجلس الأمن بينما القناة السرية المصرية الأمريكية واللقاءات السرية بين حافظ إسماعيل وكيسنجر قائمة علي قدم وساق... وفي نفس الوقت الذي كان يجري فيه الإعداد للحرب. كان السادات في نفس الوقت يقوم بتحرك سياسي علي امتداد العالم كله لكسب تعاطف الرأي العام العالمي فذهب إلي القمة الإفريقية وقمة عدم الانحياز, وزار أغلب الدول العربية وفتح قناة اتصال مع شاه إيران... ورغم الأوضاع الصعبة التي كانت مصر تواجهها آنذاك إلا أن هذا التحرك الواسع قد استطاع في النهاية أن يتخطي حاجز الوفاق بين القوتين الأعظم اللتين كانتا تراهنان علي الاسترخاء العسكري, كما أدت مناورة السادات إلي ترسيخ الاعتقاد لدي كيسنجر بأن السادات لن يحارب, وكانت مفاجأته الكبري عندما استيقظ علي أخبار الحرب صباح السادس من أكتوبر بتوقيت نيويورك, وهنا يسدل الستار علي فصل ويبدأ فصل جديد ربما كان أكثر إثارة وأكثر تعقيدا وأبلغ أثرا... عن صحيفة الاهرام المصرية 6/10/2007