فى حلقة الأسبوع الماضى كشف السفير بسيونى عن نجاح المخابرات المصرية فى حصولها على معلومات خطيرة متعلقة بأنظمة الصواريخ، ومحطات البث والإرسال والتشويش وفك الشفرات نتيجة تحليل ودراسة تصريحات جنرالات إسرائيل وعلى رأسهم ديان الذى أحس بالزهو بعد يونيه 67، كما حصلت عناصر المخابرات على خريطة «سريوس» التى كشفت تفاصيل خطة الهجوم الإسرائيلى المضاد فى 8 أكتوبر وقصة قتل «مندلر»، الذى أصبح أثراً بعد عين إثر إصابته بقذيفة قاتلة جعلته فى عداد الأموات. وفى حلقة اليوم يؤكد السفير بسيونى على عبقرية الرئيس السادات الذى اكتشف مبكراً أن تحرير سيناء لن يكون بإرادة الاتحاد السوفيتى الذى دفع عبدالناصر لدخول حرب 67 بعد تأكيده على وجود حشود عسكرية إسرائيلية على الجبهة الشمالية فى سوريا والجنوبية فى مصر فحدثت النكسة، والتى مازلنا نعانى من آثارها حتى اليوم. كما اكتشف الرئيس السادات مبكراً أن أمريكا بيدها 99% من أوراق اللعبة وأنها الدولة الوحيدة التى بإمكانها التأثير على إسرائيل من باب «لا ضرر ولا ضرار» وبناء عليه فقد أقام جسورا للتقارب مع الرئيس الأمريكى نيكسون بطرق مباشرة، ممثلة فى القنوات الدبلوماسية ومسئولى الخارجية بين البلدين، إلا أن تلك المحاولات المباشرة باءت بالفشل ومنها مبادرة روجزر والتى وافق عليها الرئيس عبدالناصر قبل موته، ومحادثات «يارنج» ممثل السكرتير العام للأمم المتحدة فى 1971، بعد أن رفضت إسرائيل فكرة المحادثات من أساسها، رغم موافقة مصر على الشروط التى وضعها ممثل الأمين العام لتوافقها مع قرار مجلس الأمن رقم 242 والذى يقضى بانسحاب إسرائيل إلى حدود4 يونيه 67، ومن المحاولات التى رفضتها إسرائيل محاولة الجنرال سيسكو - مساعد وزير الخارجية الأمريكى والذى عاد بعد زيارته لتل أبيب بخفى حنين لرفض إسرائيل التخلى عن تحصينات خط بارليف، أو ترك شاطئ القناة للمصريين مرة أخرى. وعندما رفض العدو كل محاولات السلام، وبالتحديد محادثات سيسكو، والذى كان صاحب كلمة مسموعة عند قيادات جيش الدفاع نظراً للعلاقة الوثيقة التى ربطته بموشيه ديان، قرر الرئيس السادات فتح قنوات سرية بعيداً - كما قلنا- عن الطرق الدبلوماسية المعهودة بعد أن تأكد له عجز روجرز وزير الخارجية الأمريكى فى إحراز أى تقدم، أو تسديد أى هدف يمكن أن ينهى المباراة بالتعادل، وكان يسعى آنذاك إلى فتح أية قناة للتحاور مع مهندس السياسة الأمريكية هنرى كيسنجر مستشار الأمن القومى والذى أطلقوا عليه فى دوائر الاستخبارات «الثعلب المكار» بعد نجاحه فى حل مشكلة فيتنام، وذوبان الجليد بين واشنطن وموسكو، والاتصالات السرية بين أمريكا والصين الشعبية. وكيسنجر - كما هو معلوم - لدوائر الاستخبارات أيضاً كان بمثابة صداع فى رأس الخارجية الأمريكية، لتدخلاته المستمرة فى صحيح عملها، ونقده اللاذع لسياسة ويليام روجرز وزير الخارجية الأمريكى. واللافت للنظر أيضاً أن سياسة أمريكا قبل حرب أكتوبر، وحتى بعدها كانت تتميزبالخشونة، وأن وزير الخارجية الأمريكى كان يعامل أقرانه من وزراء الدول الأخرى، وكأنهم عبيد عند الولاياتالمتحدة، وهو الأمر الذى رفضه الرئيس السادات قلباً وقالباً، كما رفضه د. محمود رياض وزير الخارجية المصرى آنذاك والذى كان بمثابة مدرسة فى فنون الدبلوماسية. ولأن كيسنجر كان لا يختلف كثيراً عن الثعلب المكار فى الذكاء والدهاء والمناورة فقد فتح قنوات سرية كثيرة مع أجهزة استخبارات عالمية من وراء ظهر الخارجية مما أثار حفيظة وليم روجرز. وقد ازدادت شوكة كيسنجر عندما أقنع البيت الأبيض بتكوين لجنة أطلق عليها «لجنة الأربعين» وكانت لجنة مستقلة عن كل المؤسسات الأمريكية تكون مهمتها الرئيسية رسم السياسة الخارجية للبيت الأبيض بعد توافق أعضاء المخابرات الأمريكية «ال CIA» والبنتاجون، ولجنة شئون الدفاع والأمن القومى بالكونجرس. ورجل بهذه المواصفات كان يحتاج إلى عقلية جبارة، وكانت هذه العقلية هو الرئيس الراحل أنور السادات الذى أثبتت الأيام أنه كان رجلاً خارق الذكاء - رغم ما قيل عنه - وأنه كان يخطط لمائة سنة قادمة، ويكفى أن مصر بقيادة السادات هى الدولة الوحيدة التى استردت أرضها كاملة، وبسطت سيطرتها على شبه جزيرة سيناء رغم الانتقادات التى وجهها البعض لاتفاقية السلام، والتى يمكن تعديلها بعد الاتفاق مع الطرف الآخر، والذى - كما تؤكد الشواهد أنه يرغب فى تعديلها أيضاً لزيادة القوات النظامية على الحدود، لمواجهة الفكر الجهادى الذى ظهرت بوادره مؤخراً بعد عزم بعض العناصر على تحويل العريش إلى إمارة إسلامية مما شكل خطراً حقيقياً على الحدود المصرية الإسرائيلية، ودعا القوات المسلحة إلى الاستعداد للقضاء على تلك العناصر فى التحركات المعروفة بالعملية «نسر». وعوداً على بدء يقول السفير بسيونى: لأن الرئيس السادات كان يعرف - كما ذكرنا أن أوراق اللعبة فى يد أمريكا فقد أمر بإنشاء قناة سرية بمعرفة اللواء أحمد إسماعيل مدير المخابرات العامة ومستر «ترون» مسئول شبكة المخابرات الأمريكية فى مصر، والذى كان ينقل المعلومات المطلوب توصيلها إلى إدارة المخابرات الأمريكية فى واشنطن، ومنها بالطبع إلى مجلس الأمن القومى والذى يقوده الثعلب المكار «هنرى كيسنجر». ولم يكتف الرئيس السادات - رحمه الله- بالقناة السرية بين مصر وواشنطن. بل فتح قنوات اتصال أخرى بالرئيس الأمريكى نيكسون وهنرى كيسنجر عن طريق حافظ إسماعيل مستشار الأمن القومى المصرى، هذا الأن كيسنجر كان بمثابة «فرخة بكشك» لدى الإدارة الأمريكية. وفى أول لقاء جمع كيسنجر وحافظ إسماعيل- كما يقول السفير بسيونى من خلال أوراقه القديمة- أن الثعلب المكار تعمد الهجوم على حافظ إسماعيل معتقداً أنه فريسة سهلة يمكن الانقضاض عليها، أو صيد يمكن إيقاعه وكانت أسلحة الهجوم عبارة عن حرب أعصاب بدأت بالتلميح عندما قال يجب أن يعيش السادات فى عالم الواقع بعيداً عن الأحلام والأمانى، وانتهت بالتصريح المباشر عندما قال: يجب أن يدرك السادات أنه مهزوم أما إسرائيل فهى منتصره ومتفوقة على الجيوش العربية مجتمعة؛ وبالتالى فلا يمكن أن يتساوى هذا مع ذاك ويجب أن تقدموا تنازلات حتى نستطيع المساعدة، ثم ضاعف كيسنجر من هجومه قائلاً: إذا فكر السادات فى تغيير الوضع العسكرى، ودخل فى حرب جديدة، فستنتصر إسرائيل مرة أخرى، وبالتالى لن ننفعكم فى شىء، وكأنه يريد أن يقول له: «وعلى نفسها جنت براقش». وفى لحظة من لحظات الغضب كشر الثعلب المكار عن أنيابه قائلاً لحافظ إسماعيل مستشار الأمن القومى المصرى إذا أردت أن تكون العلاقة بينى وبينك يجب أن تكون هناك ثقة متبادلة، والابتعاد عن التدليس والغش ومراعاة السرية الكاملة فى المباحثات والمداولات. وفى لغة لا تخلو من خشونة قال كيسنجر وكأنه يريد أن يقدم لحافظ إسماعيل دروساً فى الدبلوماسية: إياكم أن تدقوا إسفيناً بين القوتين العظميين، وإذا حدث هذا فإن أمريكا لديها الأدوات والوسائل فى معرفة كل شىء أولاً بأول، وفى يدها أيضاً تغيير خريطة الشرق الأوسط بكاملها. وفى نهاية اللقاء أراد الثعلب المكار توجيه طعنة إلى قلب الفريسة - من وجهة نظره - بغرض القضاء عليه، أو شل حركته فقال: يجب أن تعلموا فى مصر أن أمريكا لا تستطيع فرض أى شىء على إسرائيل، رغم امتلاك أمريكا لوسائل ضغط كثيرة، والتى لا تستخدمها إلا إذا استدعت الحاجة ذلك. وفى المقابل كانت قيادات أمريكا ممثلة فى الرئيس الأمريكى نيكسون ووزير الخارجية روجرز ومستشار الأمن القومى هنرى كيسنجر.. كانت تعامل إسرائيل وكأنها طفل مدلل، رغم الهجوم الذى كانت تشنه رئيس الوزراء الإسرائيلى جولدا مائير على السياسة الأمريكية مستغلة حالة الوهن أو الضعف التى أصابت الرئيس نيسكون بعد فضيحة ووتر جيب. ومما يؤكد ازدواجية المعايير والانحياز الأعمى للعدو الإسرائيل يكشف السفير بسيونى عن سر - ربما يذاع لأول مرة - هو أنه بعد زيارة حافظ إسماعيل لأمريكا قامت جولدا مائير بزيارة مماثلة، وتم منح إسرائيل بموجب هذه الزيارة أكبر صفقة تسليح بعد حرب 67، وركزت فيها على طائرات الفانتوم و«سكاى هوك»، وتذكر أوراق السفير بسيونى أن القيادات العسكرية فى مصر كانت ومازالت تدرك أن أمريكا ترعى مصالح إسرائيل أكثر من مصالحها نفسها، على أساس أن دولة العدو تعد من وجهة نظر أمريكا هى بودى جارد الولاياتالمتحدة فى منطقة الشرق الأوسط، ويجب أن يتسلح هذا البودى أو الحارس بأسلحة تفوق جيوش الدول العربية مجتمعة. وبعد اشتعال الحرب، وظهور تباشير وملامح النصر اعتقد كيسنجر - أن الحرب ستكون نقطة الانطلاق لتأكيد الدور الأمريكى فى المنطقة ودحر السوفيت بعد هزيمة العرب والسلاح الروسى، حيث تخيل كيسنجر - كما كان يحلم دائماً - أن إسرائيل ستحسم المعركة خلال 48 ساعة، وأن العرب سيطلبون الحماية وربما اللجوء إلى الأممالمتحدة أو الولاياتالمتحدة، وقرر أن يبنى مجداً شخصياً على جثة العرب، يضاف إلى أمجاده السابقة، ولكن عندما عبرت القوات المسلحة المصرية قناة السويس فى أقل من 6 ساعات واقتحام أكثر من 80 ألف جندى حصون خط بارليف فى سيمفونية قلما تتكرر فى التاريخ العسكرى ورفع العلم المصرى على الضفة الشرقية للقناة ورفع جنود العدو الراية البيضاء، وسقوط الطائرات الإسرائيلية والأمريكية كالذباب فى سماء المعركة.. بعد هذا كله استيقظ كيسنجر على كابوس رهيب مفاده أن العرب أصبحوا وحوشاً كاسرة، و أسوداً متنمرة، أما إسرائيل فقد تحولت فى نظره بين يوم وليلة إلى حمل وديع.. وقد تأكدت هذه الشواهد عندما اتصلت به جولدا مائير فى ثانى أيام الحرب طالبة النجدة قبل هدم المعبد على من فيه، وزوال هيكل سليمان وحائط المبكى، واجتثاث دولة إسرائيل من الوجود. عندها تحول الأسد الهصور إلى أسد جريح، تحول الأسد الذى كان يزبد ويتوعد، ويهدد، إلى طائر مكسور يطير بجناح واحد بعد أن كسرت القوات المسلحة المصرية جناحه الثانى المتمثل فى جيش إسرائيل الذى لا يقهر. وكانت المفاجأة، فعندما رأى كيسنجر اليهودى المتعصب صراع الجنرالات فى إسرائيل، وتهاوى حصون خط بارليف تحت أقدام المصريين فاق من سباته وكأنه يقول: وإذا لم يكن من الموت بد، فمن العار أن تموت جبانا، اجتمع على الفور بأعضاء مجلس الأمن القومى، ولجنة الأربعين والرئيس الأمريكى نيكسون واتفقوا جميعاً على قرار تاريخى، كان علامة فارقة فى تغيير مجرى الحرب، حيث أقروا ً دعم إسرائيل مادياً ومعنوياً وعسكرياً، وتعويضها عن الخسائر المتلاحقة التى مُنى بها الجيش الإسرئيلى فى الأيام الأولى للقتال، وتعطيل أى قرار يصدر عن مجلس الأمن، حتى تتمكن إسرائيل من سحق القوات المصرية والسورية على الجبهة، وتوصيل رسالة عاجلة للقيادة المصرية مفادها تخلى أمريكا عن أى مباحثات للسلام فى حالة استمرار الحرب، وإقناع السادات بعدم جدوى الهجوم المصرى أمام آلة الحرب الإسرائيلية الجبارة التى احتلت أراضى 4 دول عربية فى 6 ساعات، وردع الاتحاد السوفيتى حتى لا يتخذ قرارات منفردة من شأنها ترجيح كفة المصريين والسوريين على جبهة القتال.ولأن الرئيس السادات كان يعرف ما يجرى فى المطبخ الأمريكى.. فقد استعد لالتهام الوجبة,, وهذه قصة أخرى فى الحلقة القادمة الرئيس السادات يكشف ألاعيب الثعلب المكار