لا يمكن فهم وإدراك المخاطر التي شكلتها انتفاضة الأقصى المبارك على كيان العدو الصهيوني إلا إذا علمنا ما أحدثته من تغييرات على صعيد المجتمع والواقع الفلسطيني الجماهيري والفصائلي، سياسياً وعسكرياً وفكرياً وثقافياً وما حققته من تطور وتجديد في الخطاب السياسي للفصائل الفلسطينية المقاومة، والتكتيكات والأساليب والوسائل العسكرية التي ابتكرته وغيرها، أما خسائر العدو في جميع ميادين الصراع في فلسطين والعالم أجمع وعلى جميع الصُعد فإنه مذل، وهنا تكمن قوة وخطورة الإنجازات والتغييرات التي أحدثتها وكرستها واقعاً معاشاً في الحياة اليومية الفلسطينية وحركة الجماهير السلمية ومقاومة الفصائل العسكرية، التي ضاعت كلها في الصراع على كؤسي! ومن الصعوبة بمكان أن نذكر كل الإنجازات ولكننا سنذكر بعض العناوين الرئيسة التي أصبحت معالم بارزة في الواقع الفلسطيني. أولاً: التوحد خلف خيار المقاومة لم يعرف المجتمع الفلسطيني في تاريخه الحديث معنى للوحدة والتماسك على اختلاف اتجاهاته الفكرية والفصائلية ومواقعه السياسية سواء سلطة أو مقاومة كما حدث في انتفاضة الأقصى، فقد اصطف الجميع خلف خيار الانتفاضة والمقاومة التي غدت جزء من الحياة الفلسطينية اليومية للفصائل والجماهير وخيارها الأول لما حققه من توحيد للصف الفلسطيني وجمع لكلمته، ففي ندوة في نابلس بمناسبة مرور أربعة أعوام على انتفاضة الأقصى عقدها مركز "حواء للثقافة والفنون" بنابلس، تحت عنوان "حصار أربع سنوات من الانتفاضة الممارسات (الإسرائيلية) وسبل مواجهتها"، أجمع ناشطون سياسيون وأكاديميون متخصصون في القضايا السياسية والاقتصادية أن الاحتلال بات يكلف العدو الصهيوني الكثير وهو يبحث الآن عن مخرج لأزمته، وأن المقاومة وحدها صحابة الحق في تحديد طبيعة الوسائل النضالية المستخدمة لمواجهة الاحتلال. قال الدكتور (يوسف عبد الحق) أستاذ الاقتصاد بجامعة النجاح الوطنية خلال الندوة: إن مراجعة بسيطة للمعايير الاقتصادية (الإسرائيلية) والفلسطينية توضح أنه لا يمكن مقارنة خسائر الاحتلال البسيطة بالكوارث الاقتصادية التي تكبدها الفلسطينيون، لكن الأهم من ذلك هو أن الاحتلال يخسر ويدفع ثمناً لبقائه في الأراضي الفلسطينية". وأشار عبد الحق إلى أن الرسالة الفلسطينية الواضحة من خلال انتفاضة الأقصى هي: أن الفلسطينيين ما عادوا يطيقون بقاء احتلال على أراضيهم وأن هذا الاحتلال بدأ البحث عن مخارج له بعد ارتفاع تكلفة بقائه في الأراضي الفلسطينية، وبدأ يدرك بوضوح أن الفلسطينيين مستعدين لتحمل أقسى الخسائر في سبيل رحيله. أما النائب في المجلس التشريعي الدكتور (حسن خريشة) فقد قال: أنه لا يحق للفلسطينيين تقييم انتفاضة الأقصى بعد أن أصبحت خياراً بأيديهم، وبعد أن سقطت خيارات التسوية وأثبتت فشلها ليبقى خيار المقاومة والصمود وحده ممكناً وعملياً، ولكن المطلوب هو الحديث حول انتفاضة الأقصى لمواصلة النضال والصمود وتجنب الظواهر السلبية. مضيفاً أن انتفاضة الأقصى عمقت الشعور بالتخلص من عقدة الخوف وأحيت الروح الوطنية للذاكرة والشباب العربي وأشعرتها مجدداً أن القضية الفلسطينية ما زالت حية. كما أشار إلى أن القيادة الفلسطينية لا تمتلك رؤية واضحة للخروج من الأزمة، مشيراً إلى أهمية وقف الحديث عن مبررات الاحتلال لتنفيذ عملياته العسكرية قائلاً: "جميع الذين تحدثوا عن صواريخ القسام كذريعة (إسرائيلية) لاجتياح قطاع غزة اخطئوا حين أعلنوا أن (إسرائيل) تريد وقف إطلاق الصواريخ وهي لذلك اجتاحت غزة في حين أن الحقيقة هي أن (إسرائيل) تمارس عدوانها بوجود الصواريخ وبغيابها". ودليل أن المقاومة أصبحت خيار الجماهير الفلسطينية التي لا تترك مناسبة أو حدثاً للتعبير عن دعمها وحمايتها للمقاومة إلا وعبرت فيه عن موقفها بوضوح، وعن الالتحام العضوي الذي يربط الجماهير بالمقاومين، ما حدث في العدوان الصهيوني على محافظات شمال قطاع غزة، في عملية "أيام الندم"، حيث قام أهالي مخيم جباليا بتغطية شوارع وأزقة المخيم بقطع من القماش الكبيرة والبطانيات من أجل حماية المقاومين من عمليات الرصد التي تنفذها طائرات الاستطلاع الصهيونية لمواقعهم. ولم يعد هذا الخيار وقفاً على الجماهير الفلسطينية أو هو رأي بعض المفكرين والمتخصصون الفلسطينيون وحدهم ولكنه أصبح خياراً عربياً وشبه محل إجماع بين المفكرين العرب، وذلك ما عبر عنه الدكتور (حسن نافعة) أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، من أن المقاومة الفلسطينية وهي تخوض وحدها الصراع التاريخي على مستقبل المنطقة قد أصبحت هي والمقاومة العراقية خط الدفاع الأول ضد مشروع الهيمنة الأمريكية على العالم والهيمنة (الإسرائيلية) على المنطقة. صحيح أننا لا نتوهم أنها يمكن أن تحقق نصراً عسكرياً حاسماً على الأمريكيين في العراق أو (الإسرائيليين) في فلسطين، لكن من الصحيح أيضاً أنها قادرة بصمودها على إفشال مشروعهما، وهذا هو الدور الذي يسجله التاريخ لتلك المقاومة . لقد عززت ثور الأقصى ثقة الجماهير الفلسطينية والأمة من خلفها بقدراتها وطاقاتها وعدالة قضيتها، وكسرت حاجز الخوف في قلوب الجماهير والمجاهدين والمقاومين، وقضت على حالة اليأس والإحباط التي حاول العدو الصهيوني زرعها في قلوبهم عندما اختار مجرم الحرب والإرهابي شارون رئيس وزراء له. ثانياً: التنسيق بين الفصائل الفلسطينية إن كان غلب على مسيرة النضال الفلسطيني قبل انتفاضة الأقصى طابع الخلاف والتنافر والصراع بين الفصائل الفلسطينية، والتناقض الفكري والأيديولوجي الذي كان في بعض الحالات يؤدي إلى الصدام المسلح بين بعضها، وإن كانت عجزت عقود النضال السابقة في توحيد القوى السياسية والمقاتلة أو تحقيق درجة من الوفاق والوئام والتنسيق بينها تدل على تماسك حقيقي وقوي داخلياً، فإن الوضع بعد انتفاضة الأقصى عكس ذلك وإن كان لم يصل إلى حد الاتحاد والاندماج والاتفاق على برنامج سياسي واحد، إلا أنه حقق درجة متقدمة جداً من الوحدة الميدانية والتنسيق بين الفصائل وتنفيذ عمليات عسكرية مشتركة بينها رغم التناقض الفكري والأيديولوجي واختلاف البرامج السياسية، إلى جانب انتشار روح التنافس فيما بينها وخاصة بين كتائب شهداء الأقصى وكتائب عز الدين القسام في تنفيذ العمليات النوعية سواء داخل الأراضي المحتلة عام 1948 أو 1967. كما أن انتفاضة الأقصى أعادت الاعتبار إلى حق الجماهير الفلسطينية في مقاومة الاحتلال الصهيوني لوطنها سواء داخل الأراضي المحتلة عام 1948 أو 1967 استناداً إلى قرارات ما يسمى (الشرعية الدولية)، أعادت إحياء الخطاب الوطني التحرري المطالب بالحرية والاستقلال وحق تقرير المصير، بعد أن توارى عن الأسماع بعد اتفاق أوسلو. أضف إلى ذلك أنها أعادت صياغة ذلك الخطاب على أسس دينية بين جميع فصائل المقاومة الوطنية والإسلامية، ما أعاد أيضاً لقضية الأمة المركزية بعدها الديني والإسلامي بعد أن اختزل الصراع في مفاوضات ماراثونية بين الفلسطينيين والعدو الصهيوني، أصبح يطلق عليها – الصراع الفلسطيني - الصهيوني. فقد جاء في دراسة أجراها الكاتب الفلسطيني (صالح النعامي) حول التنسيق والتعاون بين الفصائل الفلسطينية وتآكل الفروق الأيديولوجية بينها وغلبة الخطاب الديني على بياناتها: "إذا أخفي التوقيع الذي تذيل به بيانات الفصائل، فإن من يقرأ بيانات كتائب شهداء الأقصى الجناح العسكري لحركة فتح سيعتقد للوهلة الأولى أنه يطالع بياناً صادراً عن حركة المقاومة الإسلامية حماس أو الجهاد الإسلامي، فبعد أربع سنوات على انطلاقة انتفاضة الأقصى فإن المضامين الأيديولوجية للخطاب السياسي لكتائب الأقصى يماثل المضامين الأيديولوجية لخطاب كل من حماس والجهاد". ويضرب الكاتب أمثلة على ذلك بالقول: "أصبح الجهاز العسكري لفتح الذي من المفترض أن يتبع تعليمات قيادة السلطة الوطنية الفلسطينية يهاجم مبدأ التفاوض بين السلطة و(إسرائيل)، ويطعن في شرعيتها ويشكك في دوافعها، إلى حد وصف هذه الاتصالات بالخيانة. لم تتآكل الفروق الأيديولوجية بين الفصائل المقاومة فحسب بل تآكلت الفروق في وسائل وأشكال المقاومة. فبعدما كان اعتماد العمليات الاستشهادية حكراً على الحركات الإسلامية أصبحت الحركات العلمانية ابتداءً من فتح وانتهاء بجبهات اليسار تعتمد هذا الأسلوب كأحد أهم أساليب عمليات المقاومة". وعن الصواريخ يقول: "توالى تطوير حماس لمزيد من الصواريخ فكان تطوير صاروخ البتار والبنا في نفس الوقت طورت كتائب شهداء الأقصى نسختين من صاروخ الأقصى في حين طورت لجان المقاومة الشعبية ثلاث نسخ من صاروخ الناصر".. ويختم بقوله: "خلال انتفاضة الأقصى حدث ما لم يسبق حدوثه في تجربة العمل الفلسطيني المقاوم وهو اشتراك أكثر من فصيل في عملية عسكرية واحدة، أو ما اصطلح على تسميته بالعمليات المشتركة ... بالإضافة إلى كل ذلك فقد طغت اللغة الدينية على خطاب حركات المقاومة. فبات الاستشهاد بالآيات القرآنية معلماً من معالم أدبيات هذه الفصائل. فضلاً عن ذلك فإن جميع الذين نفذوا العمليات الاستشهادية ومن مختلف الفصائل ظهروا في أشرطة الفيديو التذكارية التي تؤخذ عادة قبل تنفيذ العمليات وهم يحملون القرآن الكريم" . كما أن مستقبل انتفاضة الأقصى بات يبدي في أفقه مزيداً من الاستمرار في التنسيق والتوحد الميداني بين الفصائل، في ضوء عدد من المتغيرات الإيجابية التي أحدثتها فترة الأربع سنوات الماضية التي نجحت في خلق المناخ المواتي لحركة المقاومة والتحرر وذلك بخلق قيادة موحدة للعمل الميداني المقاوم؛ فرجال المقاومة الفلسطينية – الذين ينتمون إلى حركات تختلف انتماءاتها الأيديولوجية – استطاعوا توحيد عملهم الميداني. فلأول مرة – منذ انطلاق العمل الفدائي الفلسطيني – تتفق فصائل المقاومة على تشكيل قيادات ميدانية مشتركة للإشراف على عمليات المقاومة ضد القوات الاحتلال، وقد كانت تجربة المقاومة في جنين هي مثال تمَّ تطبيقه في كل المدن الفلسطينية التي أعيد احتلالها. وإلى جانب وجود قيادة مشتركة فإن هناك غرف عمليات سرية مشتركة يقوم ممثلو حركات المقاومة بدراسة ما تم إنجازه خلالها والاتفاق على مخططات المقاومة في المنطقة مستقبلاً مع الوقوف على مكامن الضعف ومحاولة تقويتها ومكامن القوة ومحاولة تعزيزها. ومن الأمور التي تعكس روح التعالي على الاختلافات الفصائلية الضيقة هو حقيقة أن رجال المقاومة في مدينة جنين وافقوا على أن يتولى ممثل حركة الجهاد الإسلامي – وهو أحد الفصائل الصغيرة في المدينة – قيادة عمليات المقاومة، في حين يتولى ممثل حركة حماس