يبدو أن مقولة "مصر هبة النيل" ستحتاج إلى ترجمة فعلية خلال الأيام المقبلة وذلك بعد تهديد حصة مصر من مياه النهر الخالد، فبرغم تحذير الخبراء منذ عقود من التعرض لهذا الخطر مرارا وتكرارا، إلا أن صانعى القرار فى مصر تركوا يد المتربصين بأمن مصر تمتد لتعبث فى مياه النيل فى دول منابع نهر النيل. حيث أكد مختار شعيب الباحث السياسى والصحفى بالأهرام أن هناك حيل كبيرة تحاك من جانب كل من أمريكا وإسرائيل فى دول حوض النيل للضغط على مصر، وهو ما لمسه من خلال تجربته العملية، حيث شاهد عام 2004 فى أثيوبيا ورواندا وأوغندا وبحيرة فيكتوريا وهى ما يطلق عليها منطقة البحيرات العظمى تواجدا إسرائيليا كبيرا من الناحية التقنية وفى مجال الزراعة وتربية المواشى والتدريب وكلها لخدمة أغراض إستراتيجية، والإضرار بمصلحة مصر ونبه إلى ذلك فى مقالات عدة فى جريدة الأهرام ولكن لم يستجيب أحد. ويؤكد أن هذه القضية معقدة نوعا ما، بالرغم من أن القانون فى صف مصر، طبقا للحقوق التاريخية التى أقرتها المعاهدات الدولية التى لا يجوز تخطيها من جانب بقية دول حوض النيل ببناء السدود التى تعوق وصول ماء النيل إلى مصر والسودان، وخاصة أن الاتفاقيات متعددة الأطراف تشكل مبادئ وقواعد القانون الدولي. القانون مع مصر يذكر أن هناك اتفاقية بين مصر والسودان عام 1959 منحت بموجبها مصر حق استغلال 55.5 مليار متر مكعب من مياه النيل بجانب توقيع بريطانيا عام 1929(الدولة الاستعمارية السابقة)، نيابة عن أوغندا وتنزانيا وكينيا، اتفاقا مع الحكومة المصرية يتضمن إقرار دول الحوض بحصة مصر المكتسبة من مياه النيل. وإذا استغلت أى دولة استغلال مياه النيل بما يضر مصر والسودان يعد ذلك إهدار لحقوق مصر التاريخية وحقوق السودان والاتفاق الدولى أيضا ولا يمكن لأى دولة من الدول التحكم فى نهر النيل وحدها لأنه نهر دولى تحكمه قواعد القانون الدولى وكلها تؤكد على حق مصر فى الحصول على حصتها المحددة من مياه نهر النيل. كما أن نصيب مصر والسودان من المياه المتوافرة فى حوض نهر النيل يساوى عشر المياه المتوافرة من الناحية الفعلية، ويتم إهدار الباقى عبر شلالات إثيوبيا وأوغندا وكينيا وبروندي، وكذلك فإن هناك مشاكل على الأرض وهضبة الحبشة وروافد النيل القادمة من البحيرات الجنوبية يتطلب عمل جماعى بين الدول المعنية لتنمية موارد المياه وإعادة توزيعها. وكان الجانب المصرى قد طالب بضرورة العمل على بناء مجموعة من القنوات لتجميع هذه المياه لخدمة أغراض التنمية فى هذه الدول وإعادة توزيعها بين الدول الأعضاء ليرتفع نصيبها من هذه المياه. علماء الرى أضاعوا القضية ويوضح شعيب أن قضية المياه للأسف خضعت لوجهة نظر خاطئة تبناها بعض علماء الرى المصريين، حيث قالوا لا أحد يستطيع منع المياه عن مصر؛ لأن الأمطار تسقط على هضبة الحبشة المرتفعة وتصب فى مجراها دون موانع من خلال شلالات قوية لا يمكن إيقافها، وهم للأسف عاشوا أوهاما كبيرة وأوهموا معهم السياسيين فلم يتحركوا لثقتهم بوجهة نظرهم بأن الطبيعة الجغرافية تقول باستحالة أن يبنوا سدود فى هذه المناطق. وتجاهلوا تماما ما يحدثه التقدم التكنولوجى الكبير يوما بعد يوم فقدم أفكارا جديدة لإقامة سدود ذات طبيعة خاصة تتحكم فى هذه المساقط. وبالفعل أقامت إثيوبيا 102 سد وفى مقدرة اريتريا وأوغندا وكينيا إقامة سدود على الشلالات مما يرجح إمكانية تجفيف منابع النهر فى دول المنبع وحرمان مصر من هذه المياه وهى الحقيقة المتجسدة الآن وعلى مصر التحرك ومواجهة هذا الخطر. مؤتمر احتواء للأزمة ووصف شعيب اجتماع المجلس الوزارى لوزراء الموارد المائية والرى بدول حوض النيل الأخير، الذى أقيم فى مصر، بمحاولة لاحتواء أزمة ولكن ليس له فعالية، بل أن الفعالية الحقيقية هى التحرك الايجابى بقدرات ونفوذ واستثمار مصرى حتى تتواجد فى دول حوض النيل لأنها كيانات لا تكن العداوة لمصر، ولكنها تريد مصلحتها من أى دولة تعمل معها ولذا تعاونت مع أمريكا وإسرائيل. مؤامرة إسرائيلية ويلخص د. عمار على حسن مدير مركز أبحاث ودراسات الشرق الأوسط أزمة مياه النيل فى ثلاثة نقاط رغبة النمو الاقتصادى لدول حوض النيل والمخطط الإسرائيلى والفشل الدبلوماسى المصرى فى مواجهة الغضب المتزايد من جانب دول حوض النيل نتيجة حصة مصر من المياه. ويوضح أن الاتفاق الذى أجرى سنة 59 بين مصر والسودان بخصوص حصتها من ماء النيل وعلى مدار نصف قرن لم تحاول مصر علاج الآثار السلبية المترتبة على اتفاق ثنائى حتى يسير على دول حوض النيل التسعة. وطبعا الدبلوماسية المصرية لم تنجح حتى هذه اللحظة فى إقناع هذه الدول بخصوص حصتها من نهر النيل. وتواجه دول حوض النيل مشكلة حالية تتمثل فى عدد سكانها ورغبتها فى توسيع المناطق الزراعية من خلال استصلاح الغابات والأراضى الصحراوية، وبدأت تفكر فى إنشاء سدود لمنع تدفق المياه إلى الشمال، ومن المعروف أن نهر النيل يأتى من الجنوب إلى الشمال من المناطق المرتفعة إلى مناطق منخفضة. وبالتالى يتطلب إيقافها إقامة سدود لاستغلالها فى الزراعة، فلجأت للتفتيش فى دفاترها القديمة وتوصلت إلى نتيجة أن مصر لا تستحق كل هذه الكمية من المياه وتصاعد صوتها فى السنوات الأخيرة لإعادة النظر فى الاتفاقية وتحركت مصر لإصلاح ما فشلت فيه على مدار السنوات الماضية نتيجة الصمت الطويل على ما كان يجب أن يكون. أما عن مطامع إسرائيل فهى تريد الضغط على مصر من خلال نهر النيل، حيث أن هضبة الحبشة بإثيوبيا تمد مصر بقدر لا يستهان به من مياه النيل وهى دولة لا تملك إمكانيات تكنولوجية أو مادية تمكنها من أن تمنع تدفق المياه إلى الشمال، ولكن إسرائيل تعرض عليها تزويدها بالقدرات التى تمكنها من إقامة السدود التى تحجز بها المياه. وتهدف إسرائيل بذلك إلى التحكم فى مياه النيل كورقة ضغط كبيرة على السياسة المصرية لتكون مضطرة لتقديم تنازلات فى ملف الصراع العربى الإسرائيلي. كم أن لديها أطماعا فى مياه النيل فهى تسرق المياه من الضفة الغربية ومن نهر الأردن وبحيرة طبرية ولكن هذه الكمية فى تناقص مستمر وعدد سكانها يزيد نتيجة الهجرات المستمرة، وبالتالى قد تستغل تحكمها فى مياه النيل من الجنوب فى إجبار مصر على إكمال مشروع مد إسرائيل بمياه النيل عن طريق الإسماعيلية حتى تصل للأراضى الفلسطينيةالمحتلة، وهو المشروع الذى تم إجهاضه بالمعارضة الشديدة من الحركة الوطنية المصرية فى السبعينات. مصر تفقد ثقلها ويؤكد د. عمار أن مصر لم يعد لها نفوذ وثقل فى إفريقيا أو على مستوى العالم كما كانت فى الستينات والسبعينات ولذا بدأت الدول الأخرى تتجرأ عليها متعديه على حقوقها. وكان من الممكن أن تقوم مصر بطرق شتى للتغلب على هذه المشكلة بأن تقدم مساعدات لدول حوض النيل أو تقوم بعمل مشروعات مشتركة أو تقدم منح دراسية لأبنائها أو أن تنشأ بعض المؤسسات بها أو أن تقيم علاقات بالنخب الثقافية والاقتصادية والسياسية فى هذه الدول بحيث تصبح همزة الوصل، مما يعود على الاقتصاد المصرى بفوائد عده ونتيجة عدم القيام بذلك فنحن نعانى الآن أزمة كبيرة. ويبرر د. حسن ضعف الدبلوماسية المصرية فى أنها أصبحت ممثلة فى شخص واحد هو رئيس الجمهورية، وحتى وزير الخارجية نفسه يقول أنا لا أضع السياسة الخارجية لمصر، وبالتالى أصبح نشاط وزارة الخارجية نشاط موظفين أكثر منه دبلوماسية وبالتالى تفقد فعاليتها على كافة المستويات فى التعامل مع القضايا الخارجية التى تمس مصلحة مصر. أما بخصوص قضية المياه فقد تم تكليف وزارة الرى بمتابعتها ولكنها تقدم جديد بخصوصها، وكان يجب أن تتكامل فيها جهات عدة من مخابرات وسيادة الرئيس ورجال الأعمال والزراعة والرى حتى يتم حل هذه المشكلة. وفى الماضى كان هناك دبلوماسيين معنيين فى الشأن الأفريقى وهى مهمة تولاها بطرس غالى قديما وهو شخص كفء يحفظ إفريقيا شبر شبر، بينما لآن لم يعد هناك تواصل مع دولها، وعاملة لا يوجد لدى الحكومة المصرية تصور متكامل لمعالجة القضايا الداخلية والخارجية بل أن الدبلوماسية المصرية تعمل اليوم بيوم وللأسف بعقلية سياسة رد الفعل عكس إسرائيل التى تخطط وتعمل على تنفيذ خططها بشكل ناجح. وتعليقا على مؤتمر وزراء حوض النيل الأخير يقول د. عمار على حسن أنه ضروري، ولابد من الحرص على إقامة مؤتمرات وحوار مع دول حوض النيل وأن تخضع القضية لشد وجذب وعلى مصر أن تكون يقظة فى كل الأوقات ولا يقتصر تحركها على سياسة معالجة الأزمات فقط وسياسة رد الفعل وأن يكون هناك تصور عام للدولة بغض النظر عمن هو موجود فى السلطة. بينما يرد المفكر والكاتب الصحفى طلعت رميح على تساؤل لمحيط حول أحقية دول حوض النيل فى إقامة السدود على مجراها، قائلا أن المشكلة الأولى ماذا عنا نحن قبل أن نتحدث عن الآخرين؟! المشكلة التى نعانى منها أن إستراتيجية مصر اهتمت بالأخطار القادمة من فلسطينالمحتلة نحو أربعة عقود مضت مع إهمال المشكلات المستقبلية الأخرى والتى تتعلق بالأمن المصرى القومى فيما يتعلق بقضية المياه. ويمكن تدارك الأمر بإعادة الحوار داخل أروقة صناعة القرار فى مصر وحتى داخل أروقة المثقفين والدائرة الأوسع حول مجمل المخاطر التى تهدد أمن مصر، والانتباه إلى أن المخاطر القادمة من فلسطينالمحتلة هى التى امتدت الآن لتهديد أمن مصر فى قضية المياه. وعلى مصر التعامل مع الأمر وفق رؤية واضحة فى تعاملها مع دول منابع النيل وهو البعد الذى أهملناه فى مصر كثيرا، وبالتالى حُصرنا بين عاملين يمثلا خطر كبير هو تغلغل النفوذ الأمريكى والصهيونى فى مناطق منابع النيل، بالإضافة إلى استحداث حالة تنمية فى هذه المناطق مما يحتم مراجعة القواعد التى تأسست على أساسها حصص المياه. ويجب أن تتهيأ مصر من الآن لمواجهة القضية الأهم وهى قضية نقص المياه من المنابع، وعلى سبيل المثال، السؤال المنطقى والضرورى الذى يجب أن يجد إجابة، ماذا تفعل مصر فى حال انفصال جنوب السودان؟ وعلينا التفكير فى قضية أثيوبيا هل من مصلحتنا الضغط عليها من خلال عمل تحالفات من الدول المحيطة بها للضغط عليها أو بأى إستراتيجية تواجه مصر المخاطر الموجهة إليها من محاولة إثيوبيا منع تدفق المياه إلى مصر .. ولكن للأسف مر تتعامل معها من خلال صراع الموظفين، موظفى وزارة الخارجية، وهو صراع دبلوماسى خافت. موظفو وزارة الخارجية ويجب الانتباه إلى أن إثيوبيا هى منبع 80% من مصادر المياه فى مصر والتعامل معها دون استشعار الخطر واستمرار حالة حوار الموظفين الدبلوماسيين مع أثيوبيا ثبت أنه مكن أثيوبيا من الحصول على دعم فنى ومالى من إسرائيل مما يهدد وصول المياه القادمة منها لمصر. وعلى مصر أيضا ألا تنسى دول المصب فى جانب بحيرة فيكتوريا أى أن تنظر إلى هو ما هو أبعد من الجنوب، هل لديها رؤية للتدخل فى صراعات هذه المنطقة وهى ذات تأثير حاسم فى الصراعات السياسية الحاصلة فى مصر الآن. ويرى طلعت رميح أن مؤتمر وزراء حوض النيل الأخير يدل على إحساسنا بالخطر ويعد مؤشر خطير على أن دول منابع النيل لم تعد تعمل فى الخفاء وأصبحت الآن قادرة على الجهر بما تطلبه إسرائيل منها وأمريكا لتكثيف الضغوط على مصر من ناحية الجنوب . ويلفت رميح النظر إلى أخطر مشكلة حدثت بخصوص الصراع على المياه، حيث ما تتعرض له مصر من حصار وفقر مائى مطروحة فى الصحافة المصرية منذ عشر سنوات فى ملفات صحفية وتقارير خبراء رفض بعضها على سبيل المثال فكرة مشروع توشكى باعتباره تكلفة مادية لا يمكن التعامل معها. ولكن نحن فى مصر للأسف دائما صحو متأخرا. وأتذكر أنه فى أول حديث تليفزيونى لى منذ حوالى عشر سنوات تحدثت عن هذه المشكلة وأيضا لم ينتبه أحد، وأذكر أنه فى عهد السادات تحدث محمد عبد الحليم أبو غزالة وزير الدفاع المصرى وقتها عن مشاريع تهدد حصة مصر من مياه نهر النيل، وكان يهدد بالقوة المسلحة إذا مس أحد نصيب مصر من المياه. أين نحن الآن من رد فعل أبو غزالة؟