السفر قرار صعب، وبخاصة علي من هم مثلي ، المشدودون من أعناقهم إلي الجذور ، الأرضيون حتي النخاع . القرار لم يبدو لي في في البداية قرارا صعبا ، بل إنه كان قرارا مستحيلا ؛ فأنا قرين الأرض .. صديقها الصدوق ..لا بل هي أمي الحنون ، وأنا ابنها الرضيع الذي لن يفارق صدرها إلي الأبد .....أنا رفيقها الذي درج فوقها منذ صرخة الميلاد .. والذي سيدفن تحت ثراها بعد الممات . أرأيتم أين تكمن الصعوبة ، إن هذا القرار قد يكون يسيرا لدي البعض ، لكن الفراق عندي كان الموت .. نعم الموت .. فإذا كان وطني هو الجسد ، وأنا الروح .. فالسفر عندي بمثابة طلوع الروح من هذا الجسد ، هو اقتلاع النبات من جذروره الأصيلة ليواجه قسوة العراء والرياح . لقد خيل إليّ وهما وسادتني قناعة خاطئة أن السفر هو الحل الوحيد المتبقي أمامي ، ذلك بعد أن تكاثرت عليّ الصعاب والمسئوليات و أوسعتني ضربا ولطما حتي صرعتني ، ولوحت لي أحلامي و آمالي التي فشلت في تحقيقها مودعة علي وعد باللقاء في أرض بعيدة جديدة رسمت لها في خيالي صورة أرض الأحلام الوديعة الطيبة ، وسرعان ما تبين لي أنها وكر الأوهام عندما انهالت عليّ بالصفعات لدي أول لقاء بها في مياهها الأقليمية . لقد كان الجو باردا برودة تقتل المشاعر وتدفنها في أعماق البحر ، والسماء مليئة بالضباب كأن لم تشهد شمسا من قبل ، ولم لا .. فالشمس من نصيب وطني وقع مع نورها ودفئها عقد احتكار أبدي. الأمواج كانت سيوف وكرابيج تقتل بعضنا وتجلد البعض الآخر ، أرض الأحلام لم تفتح لنا ذراعيها مرحبة وتأخذنا في أحضانها ، بل مدت يديها بالخنجر واغتالت أجمل ما فينا إرادتنا وحبنا للحياة ، لقد مات حبنا للحياة ليلحق بعزيمتنا التي تحطمت عندما أرغمنا سمسار التسفير لأرض الأحلام علي القفز في البحر و أدار لنا ظهره قائلا " عفوا .. لقد انتهت مهمتي .. شقوا طريقكم إلي أرض الأحلام " . ابتلع البحر الكثير ولم يشبع ... كان كالوحش المفترس الذي خرج من محبسه بعد طول مكوث ليلتهم كل من أمامه .. أما عما كان من أمرنا نحن ، فقد كنا كالجرذان التي ترتجف رعبا من الهول الذي رأته ... أتعرفون ما يكون الشعور عندما تتجمد تدريجيا من الأطراف حتي القلب ، عندما يكون بداخلك بركان من الغضب ولا يستطيع أن يذيب الثلج المحيط، أن يمتلئ بالصراخ صدرك وعندما يخرج للهواء لايسمع له صوتا ، لقد كان هذا شعوري و أغلب من حولي ، قابلت الموت عن كثب عشرات المرات ، دافعته فقط لرغبتي بأن أدفن في وطني ، ومابين الموتة و الأخري .. كانت مشاهد من حياتي تتمثل أمامي كأنما حدثت بالأمس القريب ، بالرغم من رجوع بعضها إلي زمان بعيد .... من بين المشاهد التي ألحت عليّ و أنا بين يدي البحر يعبث بي ويأخذني أني يريد مشهد أمي الباكية علي فراقي ، والحبيسة في سجن أمانيها لي ، هي تراني فتي لاهي مشتاق للمغامرة ، لا تعلم عن سبب سفري سوي أنني لص متسلل يود خلسة العبور للشاطئ الآخر ، هذا الذي عرفته من هؤلاء الذين يطلون عليها عبر التلفاز من خلف نظاراتهم الطبية الفخمة وبدلاتهم الأنيقة ومن داخل استوديو مكيف كل ما فيه بارد كما البحر الذي يضمني بين جنباته ، نظاراتهم الطبية تنم عن علمهم وخبراتهم ، هم يسألون ويحللون ويستقصون ...يفندون أسباب سفر الشباب بكل منطقية وبطريقة علمية بحتة .. لكنهم للأسف - مثل أمي – لا يعلمون لماذا نسافر ، لقد جرمونا وحرموا فعلتنا ، لكنهم أبدا لم يجرموا من دفعنا لارتكاب فعلتنا ، لم يجرموا الظروف التي تقتلنا كل يوم عن عمد وبسبق إصرار وترصد ... إن أمي لا تعلم كم تعذبني أموالها التي تقتطعها من قوتها ومن قوت إخوتي لتعطيني إياها ، هي تظن أنها بذلك تعالج علتي .. لكنها تزيد جرحي التهابا. أليس من الواجب أن أعطيها أنا وألا أمد لها يدي ؟ اذكر أنها قالت لي " لا تسافر .. يا بني .. و يا ابن الأرض.. فنحن كفيلتان بك .. سنعطيك ما تحتاج "، فقلت لها " لا يا أمي .. بل أسافر أنا .. لأعطيكما ما تحتاجان ".... وهنا أدركتني الرقة فبكيت وبكت أمي كثيرا ، كانت كمن تتطلع من سجف الغيب لما سأراه وما سيحصل لي ...... ورأيت فيما رأيت رفقائي في المقهي ، بيني وبين هؤلاء كانت قد تولدت رابطة ، كان مصدر هذه الرابطة أننا نحيا علي أمل واحد هو الحصول علي عمل ، اتخاذ المقاهي مقرا.. احتراف لعب الطاولة .. ووضع الأحلام في الثلاجة حتي لاتفسد ...كانت كلها أشيا ء مشتركة فيما بيننا . في هذه الليلة ، كان الملل قد احتل المقهي وبدأ يبث سمه فينا .. عندما حل هو علي المقهي زبونا ، فأحال ليلها إلي ساحة لتحقيق الأحلام ، ووقف هو في وسطها كالحاوي .. كان يمني هذا ويوهم ذاك ، يبني لهم قصورا من الأوهام كلها مبنية علي أساسات من السفر للخارج ..لأرض الأحلام . في وسط المقهي جلس هذا السمسار .. سمسار التسفير ، كان شمسا وجميع مرتادي المقهي كانوا يدورون في فلكه ، إلا شخص واحد كان يجلس بعيدا في ركن من المقهي ، هذا الشخص كان أنا ، الابتعاد عن الأرض وقتها لم يعرفه قاموسي أصلا ، عرض علي خدماته فرفضتها معتذرا ، ومن ثم اعتبر إقناعي تحديا لمواهبه و قدراته ، و أبي إلا أن أكون علي رأس قائمة المسافرين معه، وبالفعل قد كان ماعزم عليه، كم كان غريبا هذا الرجل واعتقاده في رسالته في مساعدة الشباب البائسين أمثالي ، لا أنكر أنني انصعت له بسهولة لم أتوقعها ، لا أدري هل كان السبب في ذلك هو مهارة الرجل في الإقناع و معرفته كيف يقنع أمثالي ، أم كان السبب في ذلك هو هشاشة موقفي وضعف وسائل دفاعي بسبب فيروس اليأس الذي سيطر عليها ولم تفلح معه أي مضادات . عند السفينة السحرية التي ستوصلنا لأرض الأحلام قابلت المئات ممن عزموا علي السفر ، حالة السفينة لم تكن بالصورة التي رسمها خيالي.. ولكن أيضا لم تكن بهذا السوء.. سفينة قديمة جابت البحر شرقه وغربه .. كل موجة من أمواج البحر فتت في عضدها وتركت آثار الزمان عليها .. لكننا لا نبالي بالوسيلة ما دامت الغاية مضمونة . لم أتوقع ابدا أن تحمل هذه السفينة المسكينة مئات الشباب الموجودين علي الشاطئ ، لابد أن عشرة سفن مثلها- علي أقل تقدير - تتسع لحمل هؤلاء ... لكن هذا ماحدث ، لا أنكر أن بعضنا اعترض في البداية ... لكن كلنا في النهاية للأمر الواقع رضخ . أما عما رأيت وسمعت ورأيت داخل السفينة ..فلم يكن يختلف عما عانيت كثيرا .. قصص كثيرة تتشابه وتتقارب .. بل أنها تكاد تتطابق .. تختلف أحيانا ظروف بطل القصة .. مؤهلاته.. أحلامه وحجم معاناته .. لكنهم في النهاية يتفقون فيما اتفقت عليه أنا ورفقائي في المقهي وهو أمل الحصول علي عمل .. إن أحدا منا لم يحلم بالقصور الملأى بألوان الطعام والشراب واللباس وحسان الجواري .. ولم يحلم أحد قط بخزائن الذهب والماس التي لا تنفذ , أو لمسة اليد التي تحيل كل ما يمسه ذهبا...أحلامنا كلها شريفة ومشروعة ، كلنا يعيش علي أمل واحد .. هو أن تتاح له فرصة أن يأكل من عرق جبينه ... في جنح الظلام أمرنا السمسار بالقفز ، وقال لنا أن الشاطئ علي بعد أمتار قليلة .. قفزنا في البحر لاندري أباعدت الأمواج بيننا وبين الشاطئ ، أم أن الشاطئ بعيد في الأصل . لم نر بعضنا في هذا الظلام الدامس .. لكن الشيء الوحيد الذي رأيناه هو مهانة وضعنا ؛ لقد تركنا غربة ووحشة في وطننا لنلحق بغربة أكبر وأفظع ... غربة اللص المتسلل الذي وقع في الشرك ولم يسعه الفرار .... يبدو أنني لم احتمل هذه الخواطر ، فخارت قواي واستسلمت مقاومتي ، فتركت نفسي للتيار يأخذني أني يريد ، لقد فارقتني روحي لكني لم أمت ، وكأنها أرادت أن ترشد التيار إلي أين يأخذ جسدي ، كان الشاطئ الأقرب هو شاطئ الأرض التي حسبتها أرض الأحلام ، وكان شاطئ وطني هو الشاطئ الأبعد ، لكن قوة خفية جذبتني إلي موطن روحي وجسدي .. مر الوقت بطيئا لم أدر فيه هل أنا ميت أم حي ، أنا لا أعرف هل كانت دقائق .. ساعات .. أو أيام التي قضيتها في البحر ، ربما يرجع شعوري ببطء مرور الوقت هو استعجالي العودة إلي حيث توجد جذوري .. إلي أرضي .. صديقتي الصدوق و أمي الحنون .. لا أدري ماذا أفعل كي تسامحني .. هل أقبل ثراها ؟ أم احتضن سماءها ، لست متأكدا ماذا سأفعل .. لكن الذي أتأكد منه أنها لن تخذلني أبدا .. هأنذا قد عدت .. لم تتغير الظروف للأحسن .. لم يصبح الواقع أقل قسوة ووحشية .. لم يتغير في حياتي سواي .. بل بالأحري سوى نظرتي ، لقد قررت أن أعمل .. بالطبع لم أجد المهنة التي طالما حلمت بها ، لكنني سوف أعمل أي شئ و أحبه حتي أعمل ما أحب ..... إن أرض الأحلام موجودة حيث نريد أن نجدها .. هذا ما توصلت إليه فعدت ، لكن ماتوصلت إليه أيضا أن وطني به المئات من مقاهي العاطلين ، إن منعتموهم من السفر فسوف يبقون .. تحت الرماد سوف يبقون ..لكن النار المستعرة لن تظل مختبئة تحت الرماد ، ولابد من يوم تخرج فيه للحياة وتحيلها لجحيم .. فلم لانخرجها نحن ونستفيد بنورها ودفئها؟