بعد حادثة سيدة "التجمع".. تعرف على عقوبات محاولة الخطف والاغتصاب والتهديد بالقتل    أسعار الدواجن اليوم الجمعة 17-5-2024 في الأسواق    أسعار العملات اليوم الجمعة 17-5-2024 مقابل الجنيه المصري بالبنوك    أسعار الحديد اليوم الجمعة 17-5-2024 في أسواق محافظة المنيا    مراسل القاهرة الإخبارية: العدوان الإسرائيلي على رفح الفلسطينية يتصاعد    "حزب الله" يشن هجوما جويا على خيم مبيت جنود الجيش الإسرائيلي في جعتون    فصائل فلسطينية: قصفنا تجمعا لآليات الاحتلال وقوة إسرائيلية شرق جباليا    الخضري: لا بد من مشاركة شحاتة أساسيا مع الزمالك.. وأخشى من تسجيل نهضة بركان لهدف    مستقبل تشافي مع برشلونة في خطر.. الأجواء تشتعل    أحمد سليمان: "أشعر أن مصر كلها زملكاوية.. وهذا موقف التذاكر"    سيولة وانتظام حركة السيارات في القاهرة والجيزة.. النشرة المرورية    جدول امتحانات الثانوية العامة 2024 thanwya في محافظة المنيا    أيمن صفوت يفوز بجائزة أفضل فيلم تسجيلي من مهرجان الفيمتو آرت بأكاديمية الفنون    مي عز الدين تحتفل بعيد ميلاد الزعيم عادل إمام على طريقتها الخاصة (فيديو)    «الإفتاء» تنصح بقراءة 4 سور في يوم الجمعة.. رددها 7 مرات لتحفظك    تركيا تجري محادثات مع بي.واي.دي وشيري لبناء مصنع للسيارات الكهربائية    موعد مباراة النصر والهلال والقنوات الناقلة في الدوري السعودي    تشكيل النصر والهلال المتوقع في الدوري السعودي.. الموعد والقنوات الناقلة    أستراليا تفرض عقوبات على كيانات مرتبطة بتزويد روسيا بأسلحة كورية شمالية    أين وصلت جلسات محكمة العدل الدولية للنظر في دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل؟    فصائل فلسطينية: قصفنا تجمعا لآليات الاحتلال وقوة إسرائيلية فى جباليا    «الأوقاف» تعلن افتتاح 12 مسجدا منها 7 إحلالا وتجديدا و5 صيانة وتطويرا    الفن المصرى «سلاح مقاومة» لدعم القضية الفلسطينية    فرصة استثمارية واعدة    احذر.. قلق الامتحانات الشديد يؤدي إلى حالة نفسية تؤثر على التركيز والتحصيل    تقنية غريبة قد تساعدك على العيش للأبد..كيف نجح الصينيون في تجميد المخ؟    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 17-5-2024 في المنيا    الاحتلال يُجرف مناطق في بيت حانون    سيولة مرورية وسط كثافات محدودة بشوارع القاهرة والجيزة    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الجمعة 17 مايو 2024    استئناف الرحلات والأنشطة البحرية والغطس في الغردقة بعد تحسن الأحوال الجوية    دعاء تسهيل الامتحان.. «اللهم أجعل الصعب سهلا وافتح علينا فتوح العارفين»    يوسف زيدان: «تكوين» امتداد لمسيرة الطهطاوي ومحفوظ في مواجهة «حراس التناحة»    «قضايا اغتصاب واعتداء».. بسمة وهبة تفضح «أوبر» بالصوت والصورة (فيديو)    النواب الأمريكي يقر مشروع قانون يجبر بايدن على إمداد إسرائيل بالأسلحة دون انقطاع    بسبب عدم انتظام الدوري| «خناقة» الأندية المصرية على البطولات الإفريقية !    شريف الشوباشي: أرفض الدولة الدينية والخلافة الإسلامية    النمسا تتوعد بمكافحة الفساد ومنع إساءة استخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي    ملف يلا كورة.. موقف شيكابالا من النهائي.. رسائل الأهلي.. وشكاوى ضد الحكام    مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 17 مايو 2024    «رايحة فرح في نص الليل؟».. رد محامي سائق أوبر على واقعة فتاة التجمع    أحمد السقا يكشف عن مفاجأة لأول مرة: "عندي أخت بالتبني اسمها ندى"    بعد اختفائه 12 يومًا.. العثور على جثة الطفل أدهم في بالوعة صرف بالإسكندرية    "كاميرا ترصد الجريمة".. تفاصيل تعدي شخص على آخرين بسلاح أبيض في الإسماعيلية    «واجبنا تجاه المنافع المشتركة والأماكن والمرافق العامة» .. موضوع خطبة اليوم الجمعة    " بكري ": كل ما يتردد حول إبراهيم العرجاني شائعات ليس لها أساس من الصحة    برج الجدى.. حظك اليوم الجمعة 17 مايو: "جوائز بانتظارك"    براتب 1140 يورو.. رابط وخطوات التقديم على وظائف اليونان لراغبي العمل بالخارج    طارق مصطفى: استغللنا المساحات للاستفادة من غيابات المصري في الدفاع    شروط الحصول على المعاش المبكر للمتقاعدين 2024    كارثة تهدد السودان بسبب سد النهضة.. تفاصيل    لا عملتها ولا بحبها.. يوسف زيدان يعلق على "مناظرة بحيري ورشدي"    كلمت طليقى من وراء زوجي.. هل علي ذنب؟ أمين الفتوى يجيب    ترقب المسلمين لإجازة عيد الأضحى وموسم الحج لعام 2024    تركيب المستوى الأول من وعاء الاحتواء الداخلي بمفاعل محطة الضبعة النووية    طريقة عمل بيكاتا بالشامبينيون: وصفة شهية لوجبة لذيذة    للحفاظ على مينا الأسنان.. تجنب تناول هذه الفواكه والعصائر    تنظم مستويات السكر وتدعم صحة العظام.. أبرز فوائد بذور البطيخ وطريقة تحميصها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



زمن النساء


الأم
أفرم البصل وأومئ برأسي بالموافقة‮: ‬فالعجائز أعلم مني‮: ‬الآن تعني الآن‮. ‬ماذا عساي أن أقول؟ صارمات‮. ‬من أنا لأعارضهن؟
كنت أعيش في نزل المصنع لفترة كافية‮. ‬وهناك كان المكان ضيقا ومزدحما،‮ ‬ولكن لا بأس،‮ ‬فلست وحدي التي أعيش هكذا‮. ‬بالغرفة ثمانية أسرّة‮. ‬أما الآن فأنا أعيش في مساحة أكبر‮. ‬صارت لدي‮ ‬غرفة منفصلة في شقة العجائز‮. ‬الشكر،‮ ‬كل الشكر،‮ ‬للعاملين في اللجنة النقابية بالمصنع‮. ‬أوقفتني زويا إيفانوفنا وقالت لي‮: "‬والآن،‮ ‬ما العمل؟‮ ... ‬ما ذنب هذه الرضيعة المسكينة؟ لقد ولدت‮. ‬فليكن‮. ‬لقد حدث ما حدث‮. ‬لا تستطيعين ردها إلي رحمك ثانية‮. ‬الأم في بلدنا أساس كل شيء وعماده،‮ ‬تطعم وتسقي وترعي‮. ‬ستقومين بذلك وحدك ودون زوج‮. ‬وماذا في ذلك؟ لا تخافي‮. ‬ستحظين منا بكل العون والاحترام‮. ‬هذا شيء يرفع من قدرك ومكانتك بيننا‮. ‬بالمناسبة،‮ ‬رزق السيد سيتين الذي يقطن الطابق السادس بطفل ثان،‮ ‬وسوف يمنحونه شقة أكبر،‮ ‬من‮ ‬غرفتين‮. ‬فلم لا تنتقلين إلي‮ ‬غرفته؟‮" ‬
وهكذا أصبحت لدي‮ ‬غرفتي الخاصة بمساحة تسعة أمتار ونصف المتر كاملة‮. ‬تمنيت لو رأت أمي ما أنا فيه من نعيم قبل وفاتها‮. ‬
‮"‬ما شأنهم بك؟ لست الأولي ولن تكوني الأخيرة‮. ‬وتذكري دوما أن ابنتك هي ابنتنا جميعا،‮ ‬وابنة كل العاملات بالمصنع،‮ ‬أي أنها تخصنا جميعا‮. ‬السلطة السوفيتية لا تبالي بما إذا كانت الطفلة ابنة شرعية أو لا‮. ‬لا تشكّي في ذلك‮. ‬ستكبر ابنتك وتذهب إلي الحضانة وإلي المدرسة،‮ ‬وستخرج في معسكرات مع أقرانها‮. ‬سوف تستمتع وتكبر وتمضي في حياتها‮. ‬وأنت أيضا لست وحدك‮. ‬نحن دوما معك‮. ‬تخطئين كثيرا عندما تحتجبين عن الناس من حولك‮. ‬في النهاية يجب أن تواجهي الجميع بشجاعة،‮ ‬فحملك هذا لم يأت من الريح،‮ ‬والذئاب البشرية من أمثاله الذين يهوون التغرير بالنساء يستحقون أن ننزل بهم العقاب‮.".‬
كان شابا وسيما ذا قوام ممشوق‮. ‬من الصعب فهمه‮. ‬غريب الأطوار يتصرف كما يتصرف أهل المدينة‮.‬
في المرة الأولي اقترب مني وقال‮: "‬هل تنتظرين هنا منذ فترة طويلة،‮ ‬أيتها السيدة الشابة؟‮"‬
أومأت برأسي موافقة‮. ‬لكني لم أنطق بكلمة‮. ‬فهو شخص‮ ‬غريب عني‮. ‬وأحسست بعدم ارتياح‮. ‬وعلي الرغم من أنه تعامل معي باحترام شديد،‮ ‬إلا أنني وقفت،‮ ‬مع ذلك،‮ ‬صامتة‮.‬
وقف بجواري لبعض الوقت ثم سألني مرة أخري‮: "‬هل كنت ذاهبة إلي بابا نويل؟‮"‬
اندهشت وقلت‮: " ‬كيف؟‮"‬
أومأ برأسه وقال‮: "‬تحملين كيسا كبيرا في يديك يسع أشياء كثيرة‮. ‬هل هي هدايا؟‮"‬
‮"‬أية هدايا؟‮! " ‬ابتسم‮. "‬أنا ذاهبة إلي السوق لشراء البطاطس‮." ‬يرفع حاجبيه‮: "‬إلي السوق؟ بهذا الكيس؟‮"‬
‮"‬اليوم أحد،‮"‬أشرح له‮ "‬أنا ذاهبة لشراء طعام لكل الشقة‮."‬
‮"‬لكل الشقة؟"يهز رأسه،‮ "‬طالما للشقة كلها إذن لابد وأن هناك ممر المدخل‮. ‬هل ستتركينه جائعا؟‮ ‬أم أن‮ ‬غرفتك طيبة وقنوعة ستتقاسم طعامها مع باقي أجزاء الشقة‮ ..."‬
غلبتني ابتسامتي وأنا أحكي،‮ ‬وأخفيت ابتسامتي بظهر كفي وكأنني أمسح الدموع التي تنهمر أثناء تخريط البصل‮. ‬
ظللت أحرك البصل مع السمن،‮ ‬وأحرك‮. ‬لم يكن السمن مناسبا بالمرة‮. ‬يتناثر في كل اتجاه واحترقت يداي،‮ ‬وتنصحني العجوز يفدوكيا‮:‬
‮"‬افركيها بصابون الغسيل‮."‬
وقف هناك لبعض الوقت ثم ذهب في اتجاه مصباح كبير في الشارع‮. ‬قدماه طويلتان مثل زرافة‮. ‬يسير بخطي ثابتة‮. ‬ينظر في ساعته‮: "‬الآن كم من الوقت علينا أن ننتظر؟‮" ‬لقد نفد صبره،‮ ‬ولا بد أنه يتجمد‮. ‬وحذاؤه رقيق جدا من جلد السمك‮. "‬لا بد أن يكون ذلك قريبا،‮" ‬أحاول التخفيف عنه‮. "‬فانا أقف هنا منذ فترة‮..."‬
نظر حوله وقال‮: "‬لا لا‮. ‬هذا عمل ميئوس منه‮. ‬نقف طويلا والسوق فارغة‮. ‬لا أري أحدا‮."‬
‮"‬ربما ما زالوا نائمين‮."‬
‮"‬نائمين؟ صحيح‮. ‬ربما كان يجدر بي أن أنام أنا أيضا مثلهم بدلا من أن آتي إلي هنا كالأحمق‮."‬
كان يتحدث وانا أفكر وأتطلع إلي وجهه المنهك‮. ‬لا بد أنه كان يشرب طوال الليل‮. ‬لا تفوح منه رائحة الخمر كعادة الرجال لدينا،‮ ‬الذين تبقي رائحة الخمر في أفواههم حتي ظهيرة اليوم التالي‮.‬
استجمعت قواي وسألته‮: "‬أراك خرجت مبكرا أيضا واليوم أحد،‮ ‬هل هو أمر هام؟‮"‬
ضيّق عينيه‮. "‬نعم بالطبع‮. ‬لقد استيقظت وخرجت إلي السوق مباشرة،‮ ‬لشراء البطاطس‮."‬
‮"‬فعلا؟‮"‬
لم أستطع إخفاء سعادتي أما هو فرمقني بنظرة وقال‮: "‬تثيرين دهشتي يا فتاة‮. ‬هل درستِ‮ ‬في أمريكا؟‮" ‬
فاجأني سؤاله وشعرت بالذعر‮. "‬لماذا في أمريكا؟ بل في قرية‮. ‬قرية مالي بولوفتسي‮."‬
قطب حاجبيه‮: "‬فعلا؟ درست في قرية سوفيتية؟ لكنك لا تتذكرين أهم قاعدة‮: ‬أمضي حيث يمضي الجمع‮."‬
‮"‬أي جمع؟‮" ‬لا أفهم‮. ‬يضحك‮. "‬ماذا عنك وعني؟ مواطنان اجتمعا بمحض صدفة علي محطة أتوبيس‮... ‬وفي موقف كهذا أقترح أن نستقل تاكسي‮ ...".‬
وأخذني إلي شقته الكبيرة والفسيحة‮.‬
‮"‬أين عائلتك؟‮" ‬أسأل‮. "‬في الداتشا،‮ ‬جميعهم‮. ‬أقصد والديّ‮"‬
‮" ‬كيف يمكن أن يكونا في الداتشا؟‮" ‬تساءلت،‮ ‬إنه الشتاء‮...‬
‮ "‬وأين الجيران؟‮" ‬نظرت حولي‮ "‬للأسف لا يوجد لدينا جيران‮. ‬نحن محرومون منهم‮. ‬نعيش كما يعيش الناس في النظام الشيوعي ها ها‮."‬
أدخل إلي الشقة‮. ‬تنم عن ثراء أهلها بالفعل‮. ‬منضدة للكتابة وكتب مرصوصة علي أرفف خشبية علي الحائط‮. ‬وأعلي الكنبة لوحة لرجل ملتح يرتدي سترة مشغولة يدويا‮. ‬في إطار ثمين‮. "‬من ذلك الرجل؟‮"‬
‮"‬نعم،‮" ‬قال وهو يلوح بيديه‮ "... ‬يوجد هذا الشخص‮." ‬ربما،‮ ‬أتصور،‮ ‬قد يكون أيضا من أجداده‮. ‬لا يمكنني التحقق فلحيته تخفي وجهه بشكل كبير‮.‬
جلسنا لبعض الوقت ثم صنع قهوة في فناجين بيضاء دقيقة للغاية حتي أنني شعرت بالخوف الشديد أن أكسر مقبض الفنجان رغما عني،‮ ‬لا قدر الله‮.‬
‮"‬خذي بعض السكر،‮" ‬يحرك إناء السكر نحوي‮. ‬أخذت رشفة وامتعضت‮. ‬وضعت ملعقتين من السكر فيها وبقيت رغم ذلك مُرَّة‮.‬
لاحظ ما أعانيه وقال‮: "‬إنها قهوة سوداء لأصحاب المزاج العالي‮. ‬يجب أن تجربيها وستعتادين عليها‮."‬
أخذ رشفة من الفنجان ثم أزاحه بعيدا‮. ‬يبدو أنه لم يتعود شربها‮.‬
ورغم أننا لم نشرب أي نبيذ إلا أنني شعرت وكأني ثملة‮. ‬أنصت إلي صوته‮. ‬إنني لا أدري حتي كيف حدث ذلك‮... ‬كنت كما لو أن عقلي كان‮ ‬غائما بالضباب‮ ...‬
سحبت الصندوق الخشبي وتحسست مكان المبشرة بداخله،‮ ‬حتي عثرت عليها‮. ‬الآن سأبشر الجزر‮. ‬يرتفع صوت البصل وهو يقلي في الزيت شيئا فشيئا‮. ‬أطفئ الموقد‮. ‬تكاد يدي تصرخ من الألم‮. ‬أفتح صنبور المياه وأضعها تحته‮.‬
أخذني بعد أسبوع إلي السينما‮. ‬كنت سعيدة‮. ‬دائما ما كنت أحسد الفتيات عندما أراهن يتجولن وكل واحدة يصحبها حبيبها‮. ‬قال لي إنه يتعذر الذهاب إلي الشقة لأن والديه عادا من الداتشا‮. ‬عادا سريعا ويجلسان بالساعات يستمعان إلي الراديو‮. ‬القوات السوفيتية دخلت المجر‮. ‬بدا وجهه عابسا مكفهرا‮. ‬
وصلنا إلي السينما وإذا بها تعرض فيلما كوميديا بعنوان‮ "‬ليلة كرنفالية‮"‬
‮"‬رائع جدا،‮" ‬أقول‮. "‬نحن محظوظان‮. ‬فيلم جميل،‮ ‬أعجب به كل من شاهده‮." ‬فهز كتفيه متشككا‮.‬
خرجنا من السينما وكنت في منتهي سعادتي‮. ‬أما هو فلا‮. ‬كان في قمة العبوس‮. "‬ماذا،‮" ‬أقول بدهشة‮. "‬ألم يعجبك الفيلم؟ لقد أعجبني جدا‮. ‬ليتنا نعيش هكذا‮ ... ‬إنها حياة جميلة التي يعيشونها،‮ ‬مثل حكاية رومانسية‮."‬
‮"‬لم يعد للحكايات الرومانسية مكان في حياتنا،‮" ‬قال ضاحكا بصوت عال‮. "‬هل سمعت عن المجر؟‮" "‬ماذا عن المجر؟ تقصد في التليفزيون؟ نعم سمعت وأعرفها تلك البلاد‮. ‬يقول المحللون السياسيون إن هناك مشاعر عدائية لديهم تجاهنا‮...‬وإنهم يكيدون لنا المكائد‮. ‬لا أفهم ما الخطب بهم؟‮"‬
رأيت فمه يختلج كما لو أن أحدا ضربه بالسوط‮. ‬وغامت عيناه فجأة في كدر،‮ ‬لا هي حية ولا ميتة،‮ ‬كعيني سمكة‮. ‬ثم أشاح بيديه وذهب‮...‬
هل علي أن اركض خلفه؟‮ ... ‬سألت نفسي فيما بقيت متجمدة في مكاني،‮ ‬هكذا،‮ ‬حتي‮ ‬غاب عن الأنظار‮ ...‬
ماذا بي؟ لقد نسيت‮! ‬أحضرت لكم طبقا من حلوي السكر‮ ... ‬لا يحبون هذا النوع كثيرا لأنه ملون ويصنع بالبيت،‮ ‬وعندما تقلبه علي النار مع المربي وتتركه قليلا يصبح سميكا مثل الكراميل‮. ‬أخذت أكسره بالسكين لكي يأكلن‮. ‬هكذا يجب أن يقدم السكر‮ ‬غير السائب‮..... ‬
وصلت وإذا بالفتيات يخفنني‮. ‬سألنني كيف سأتعايش مع الجيران‮. ‬في هذا السكن الجماعي يعيش العاملون في المصنع وهم يعرفون بعضهم البعض‮. ‬وفجأة تأتي سيدة‮ ‬غريبة من الريف ومعها طفل رضيع مجهول‮. ‬ونصحتني بأن أذهب إلي زوجة السيد سيتين وأطلب منها المشورة ربما تنصحني بقرار صائب‮.‬
بحثت عنها ووجدتها‮. "‬لا تقلقي من العجائز المقيمات هنا‮. ‬المهم أن تحافظي علي كرامتك وعزة نفسك ولا تدعيهن يعتقدن أنهن صاحبات الشقة‮. ‬لدي ركن في المطبخ خذيه وانتفعي به أنت ولقد جهزته بشكل جيد ويقع أسفل النافذة مباشرة‮. ‬وإذا تحرشت بك إحداهن فاصرخي بأعلي صوتك وسرعان ما سيتفرقن ويبتعدن عنك‮. ‬للأسف ليس معك رجل يحميكِ‮ ‬منهن‮. ‬كن بالتأكيد يخشين زوجي‮"...‬
انتقلت إلي الشقة فلم أجد شيئا مما قالت‮. ‬العجائز سيدات هادئات‮. ‬لكني ظللت أشعر ببعض الخوف‮. ‬فقد كانت زوجة السيد سيتين تتمتع ببنيان ضخم وجسم قوي وبدين‮. ‬ولو بدأت في السباب،‮ ‬لا قدر الله،‮ ‬فإنك تحتاج إلي رفع جميع أيقونات القديسين التي في الغرفة،‮ ‬فلسانها سليط‮. ‬
حاولت في الفترة الأولي أن انعزل ولا أثير أي ضجيج في الشقة‮. ‬كنت أضع ابنتي الصغيرة في لفافتها ثم في عربتها الصغيرة التي وضعتها تحت سلم البيت وربطتها بسلسلة وقفل كبير وثقيل خوفا من سرقتها‮. ‬أهداني المصنع العربة أما القفل فاشتريته بنفسي من محل لبيع الأدوات المنزلية‮. ‬أهبط علي السلم بسرعة وأفتح القفل وأفرش الغطاء أسفل رضيعتي وفوقها‮. ‬وانطلق بها إلي الحضانة في كل يوم،‮ ‬سواء كان الطقس صقيعا أو عاصفا أو صحوا‮. ‬لا فرق‮. ‬وهناك أتركها للحاضنات وفورا إلي العمل‮. ‬الحضانة تابعة للمصنع‮. ‬يعتصرني الألم طوال الوقت‮. ‬كنت أضطر أحيانا للعمل في النوبة الليلية الثانية‮. ‬ومع حلول الليل وبعد الانتهاء من العمل أعود إلي الحضانة وتستقبلني الحاضنة المناوبة،‮ ‬فتدخل لتوقظ الرضيعة وتلفها في أغطيتها وتحضرها إلي‮. ‬كان كل شيء عاديا إلا أنها صارت تمرض في الفترة الأخيرة‮. ‬أخذت زويا إيفانوفنا تهدئ من روعي وتقول لي‮: "‬لا عليك‮. ‬كل الأطفال يمرضون‮. ‬وابنتك ستتعافي في النهاية‮."‬
يتحمل المصنع ميزانية الحضانة حيث يدفع مرتبات العاملين‮. ‬كما أننا نحن الأمهات نحضر الهدايا في الأعياد والمناسبات للحاضنات سواء علب الحلوي أو الجوارب النسائية أو‮ ‬غيرها‮. ‬شخصيا كنت أحضر الهدايا لكن كيف لي أن أطلب منهن رعاية خاصة بابنتي‮. ‬فكل حاضنة مسئولة عن العديد من الأطفال الرضع‮. ‬كانت تصرخ أحيانا لأنها مبتلة وتصرخ في أحيان أخري من فرط الألم في بطنها‮. ‬وكنت أرجوهم كثيرا أن يسمحوا لي بالانصراف من العمل بسبب مرض الطفلة المتكرر‮. ‬وكانوا يسمحون لي بالطبع إلا أن الراتب كان يصرف بحسب متوسط حضوري طوال الشهر وليس وفق الإنتاج‮. ‬ولذا أصبحت أحصل علي راتب أقل من المعتاد‮. ‬
كان الأمر عاديا خلال الشهور الأولي‮. ‬ترتفع حرارتها فأقطر لها الدواء في الحليب ولا يمر يوم أو اثنان إلا وتهبط حرارتها‮. ‬ثم سرعان ما أخذت الرعشة تداهمها ليلا ويزرق جلدها وأكاد أفقدها‮. ‬تفقد عيناها صفاءهما وتبيضان‮. ‬ويتجمد قلبي خوفا وهي تبدو وكأنها تحتضر‮. ‬ما العمل؟ قررت أن أتركها لأمي في القرية لترعاها وتهتم بها‮. ‬وهنا فوجئت بجيراني العجائز يقنعنني بعدم القيام بهذا واستخدمن في سبيل ذلك كل الحيل الممكنة‮.‬
ليس لدينا أحد،‮ ‬لا أزواج ولا أبناء‮. ‬أزواجنا وأبناؤنا إما ماتوا أو هجرونا‮. ‬ليس لدينا أحفاد‮. ‬اذهبي أنت للعمل ودعيها معنا‮. ‬هل سنعجز عن تربيتها ونحن ثلاث؟
وهكذا دارت بي الأيام‮. ‬أذهب في الصباح إلي العمل ومنه إلي المحال التجارية وأقف في طوابير طويلة لشراء لوازم البيت كلها‮. ‬وفي البيت أنا الخادمة،‮ ‬أقوم بغسيل ملابس الجميع وتنظيف الشقة وتحضير الطعام‮. ‬فهن يتقاضين معاشات تقاعد هزيلة تثير الشفقة‮. ‬وأضطر إلي الإنفاق من مالي لاستكمال الضروريات‮. ‬لكن في المقابل تعافت ابنتي واستردت صحتها وعاشت كالأميرات في دلال،‮ ‬فلديها ثلاث حاضنات دفعة واحدة يقمن برعايتها وتهذيبها ونظافتها وتسريح شعرها‮. ‬كما يقمن بالتنزه معها كل يوم ويقرأن لها الكتب ويقصصن الحكايات‮. ‬حتي أنهن يقمن بتعليمها كيف ترد بالفرنسية‮.‬
ابنتي ذكية‮. ‬هي باختصار ابنة المدينة‮. ‬بارعة في الرسم‮. ‬حفظت الحروف جميعها وهي بعد في الرابعة من عمرها‮. ‬تفهم كل شيء،‮ ‬لكنها لا تتحدث‮. ‬مر عامها الخامس والسادس وهي صامته تماما لا تنطق‮.‬
أنا السبب‮. ‬فقد صمت ولم أتكلم حتي كبرت بطني وظهر حملي‮. ‬يتم نقل النساء الحوامل عادة إلي أعمال خفيفة‮. ‬ما عليك سوي أن تحضري تقريرا طبيا من طبيب النساء حتي ينقلوكِ‮ ‬مباشرة من وظيفتك المرهقة أو الضارة بالصحة إلي أخري‮. ‬من حق المرأة الحامل أن تنتقل للعمل في النظافة أو في المخازن‮. ‬ولكن أني لي أن أعترف بحملي؟ أشعر بالعار والخجل‮... ‬في الماضي كانت الحكومة تحظر إجراء عمليات الإجهاض كانت هناك علاقات بين الرجال والنساء قبل الزواج‮. ‬ومن لا يحتاط عليه أن يتحمل المسئولية‮. ‬طالما حملتِ‮ ‬فلتلدي‮. ‬لا يمكن أن تمنع النساء من التواصل مع الرجال،‮ ‬وعادة ما يتخلصن من الجنين سرا عندما يعلمن بحملهن‮. ‬يحكي أن إحدي الفتيات حملت عدة مرات وكان الرجال يضحكون ويقولون أنها وأدت أطفالا كثيرين ولو قيد لهم أن يعيشوا لكونوا عنبرا كاملا من العمال‮. ‬أما هي فلم تبال بأطفالها،‮ ‬ما عليها سوي أن ترقد عدة أيام بعد الإجهاض في السرير ثم تقوم بتكرار الأمر نفسه‮. ‬ويحكي الناس أيضا أن امرأتين توفيتا أثناء عملية الإجهاض‮. ‬حيث أصيبتا بتسمم في الدم أثناء الجراحة‮. ‬القوانين الآن تسمح بإجراء عمليات الإجهاض ولو كل عام‮. ‬بالطبع تشعر النساء بالخوف والرعب لأن الأطباء يقومون بالعملية دون مخدر كلي‮. ‬من المخيف أن يقوم أحدهم بشق بطنك‮. ‬لكن لم يكن لدي خيار‮. ‬قررت أن أقوم بعملية إجهاض‮.‬
وصلت إلي المستشفي فقال لي الطبيب‮:"‬وصلت متأخرة‮. ‬الحمل منذ مدة طويلة‮. ‬يجب أن تضعي مولودك؟‮"‬
اشتريت حبوبا من الصيدلية وتناولتها معتقدة أنها ستساعدني علي إجهاض الجنين‮. ‬تناولت الدواء أسبوعا كاملا بلا جدوي‮...‬
وعندما بلغت الثالثة من عمرها أخذتها إلي العيادة وفتحت الطبيبة فمها وفحصته ثم عرضت عليها لوحات علي الطاولة‮. ‬ثم طمأنتني أن الطفلة ستتحدث يوما ما وأنها تسمعنا وتفهمنا بشكل طبيعي‮. ‬المشكلة لديها في تأخر النمو بعض الشيء‮. ‬يجب علينا أن ننتظر لبعض الوقت‮... ‬وسوف تتحدث‮.‬
ونصحتني بالذهاب إلي أستاذ في موسكو متخصص في هذه الحالة‮. ‬ولكن السفر يعني نفقات جديدة من أين لي بها؟ لقد أخذت سلفة بالفعل من راتبي‮...‬
مرت أيام طويلة وأنا أبكي بشدة ظنا مني أن ابنتي ستنشأ مريضة عقلية قبيحة المنظر‮... ‬ولن تنعم بالدراسة في المدرسة ولن تكبر وتذهب مثل أقرانها إلي المعسكرات‮ ... ‬والأهم من ذلك كله أنها ستحرم من متعة تكوين عائلة‮. ‬فمن سيقبل بها زوجا له وهي البكماء‮. ‬ستعيش حياتها توقوق بكلام‮ ‬غير مفهوم‮. ‬أو تعثر علي شخص أبكم يقبل بها‮.‬
وأخذت العجائز مشكورات يحاولن تهدئتي ويقنعني بأنها مشيئة الله‮. ‬وأن الوقت سيحين يوما ما وتنطق الصغيرة وتتحدث بحلو الكلام‮. ‬كنت كثيرا ما أسير في الشارع وأنظر إلي الأطفال حولي في كل مكان يتحدثون بطلاقة فيدمي قلبي ألما وأشيح بنظري بعيدا وأنا أحاول حبس دموعي‮.‬
والعجائز لم يكففن عن نصحي بألا أتحدث في العمل وأن أجيب عندما أُسأل بأن كل شيء علي ما يرام‮. ‬فالناس ألسنتهم طويلة تنشر السموم‮. ‬وكل المصائب سببها ما تلوكه الألسنة‮. ‬ينظرون إليك نظرة شفقة،‮ ‬والله أعلم بما في صدورهم وما يدور بينهم من حديث عنك واغتياب لك‮. ‬وما ينفكون يشهرون ويعرضون بك‮.‬
كان اسم الصغيرة في شهادة ميلادها سوزانا‮. ‬اسم‮ ‬غريب علي روسيا‮. ‬يا إلهي،‮ ‬رحماك‮. ‬قديما في روسيا كانوا يطلقون هذه الأسماء علي العاهرات‮. ‬لم يكن يسمح بمنحهن أسماء روسية أرثوذكسية مسيحية لئلا يساء إلي أسماء القديسين الذين يتم التبرك بإطلاق أسمائهم عادة علي الأطفال‮. ‬وها هي الأم تختار لابنتها هذا الاسم الذي يشبه اسما يمنح لتدليل كلب منزلي‮. ‬
فكرن طويلا وقلبن في صفحات أسماء القديسين‮. ‬الأسماء الجيدة كثيرة ولكن لا يمكنك أن تختار أول ما تسمعه منها‮. ‬قال الأب إينوكينتي‮: ‬ابحثن عن اسم مميز‮. ‬سواء في معناه أو في الحرف الأول منه‮.‬
فكرت العجوز جليكيريا في اسم سيلافيما‮... ‬لا‮. ‬قررن جميعا اختيار اسم صوفيا‮.‬
وفي المساء وأثناء وجود أمي كن يتحاشين نطق الاسم ويستخدمن ضمير الغائب بدلا منه‮: ‬هي أو لها أو معها‮. ‬وفي النهار وأثناء وجودها في العمل ينادينني-صوفيوشكا‮. ‬وفيما بينهن يدعونني صوفيا‮.‬
سأل الأب من الكنيسة إذا كانت بينهن من تدعي فيرا أو ناديجدا أو لوبوف‮. ‬تلك المرأة تستطيع أن تشارك في التعميد في استقبال الطفل أثناء الصلاة وتصبح أمه بالعمادة،‮ ‬ويستطعن أيضا الاحتفال فيما بعد بعيد الملاك والتعميد في يوم واحد‮. ‬فهززن رؤوسهن بالنفي‮. ‬لا يوجد بينهن ولا لديهن لا أمل ولا إيمان ولا حب‮. ‬واحتدم الجدل بينهن لاختيار من ستشارك منهن في التعميد‮. ‬واحدة فقط لها الحق‮. ‬وكدن يتشاجرن بسبب ذلك‮. ‬فمن ستشارك ستتحمل المسئولية أمام الله‮. ‬كان الخلاف لسبب آخر‮. ‬فمن ستشارك منهن في التعميد ستكون الأقرب للفتاة‮. ‬وماذا عن الباقيتين؟‮ ... ‬هل هما‮ ‬غريبتان؟ تشاجرن ولم يقو سوي الأب إينوكينتي علي تسوية النزاع بينهن‮. ‬وقال لهن أن الرب سيسأل كلا منكن علي حدة،‮ ‬وواحدة تلو الأخري عن الفتاة‮. ‬ومن ستقف أولا أمام الرب ستجيب أولا‮.‬
هَمٌّ‮ ‬يُبكي وهَمٌّ‮ ‬يُضحك؛ صرن يتنافسن في الموت أولا لملاقاة الرب‮. ‬كل منهن تقول إنها أكثر مرضا من الأخري‮. ‬فهذه قلبها مريض وتلك لا تقوي علي السير‮. ‬ويرد عليهن الأب قائلا إن الإنسان لا يعلم متي ينتهي أجله‮. ‬أحيانا يقبض الله روح شاب صحيح وفي المقابل يُبقي رجلا هرما حتي أرذل العمر‮. ‬فهل للإنسان أن يتدخل في مشيئته؟ هدأن أخيرا ووافقنه،‮ ‬وتذكرن من فقدن من شباب أصحاء سواء أبناؤهن أو أزواجهن‮.‬
لفت انتباه أريادنا أن الصغيرة كانت تكتفي في السابق بالجلوس والاستماع إليهن وإلي أي شيء يقرأنه لها حتي لو كان قصة القبعة الحمراء أو حتي لذاك الكاتب الذي يدعي بوراتين أو أي شيء آخر‮. ‬أما الآن فإنها تعلمت كيف تحمل الكتاب بنفسها وتفتحه ثم تعطيه لأريادنا وتقول لها‮: ‬اقرئي‮. ‬فتقرأ لها عن البنت الصغيرة وعن عروس البحر‮. ‬قرأت أريادنا للصغيرة كثيرا حتي أصابها الإرهاق ولم تعد تقوي علي قراءة الشيء نفسه‮. "‬كم مرة يمكن أن أقرأ الشيء نفسه؟‮" ‬قالت للصغيرة‮: "‬لقد أصبحت تعرفين هذه القصص وتحفظينها عن ظهر قلب‮." ‬فتقطب الصغيرة حاجبيها وتنهمر الدموع من عينيها الصغيرتين وتشير بإصبعها مرة أخري‮: "‬اقرئي‮." ‬حاولت أريادنا أن تستعمل معها الحيلة وأن تختصر في السرد أو تتجاهل جزءا هنا أو هناك‮. ‬لكن كيف لها أن تنجح وقد كبرت الصغيرة ولا يجدي المكر معها‮...‬
كانت جليكيريا أول من خمنت السبب‮. ‬فالصغيرة ذات الروح الملائكية تتفهم حقيقة عجزها وعدم قدرتها علي الحديث‮. ‬وهي تري في عروس البحر نصفها الآخر وتوأمها‮. ‬الفرق أن الأخري تعرف السر في حرمانها من النطق‮. ‬أما صغيرتنا فماذا تعرف؟‮ ...‬
هناك ساحة حديقة أمام البيت وخلفها نصب تذكاري ينظر بوجهه إلي الساحة وبظهره إلينا‮. ‬وفي الأيام المشمسة يتسلق الأطفال سلم النصب فيما يصعب ذلك في الشتاء لتراكم الجليد الذي يعرضهم للسقوط‮. ‬التففنا حوله عند الزاوية‮. ‬ها هي القباب هناك‮... ‬
أخذتني إحدي جداتي واحتضنني من ظهري‮ "‬فلنتوقف قليلا‮." ‬لم تتحدث منذ الصباح ولم تكن في حالتها الطبيعية‮. ‬وقفت تنظر حولها‮. ‬وأخذت تهمس‮" "‬ليتني أعيش عشرين عاما أخري‮..."‬
أسير بالقرب منها وأفكر‮: ‬إنها عجوز،‮ ‬ما حاجتها لأن تعيش كل هذه السنوات؟
‮"‬كي أري كيف ستكون نهايتهم‮."‬
من هم؟
‮"‬هؤلاء‮..." ‬قالت يفدوكيا بغضب وكأنها قد فهمت ما أريد‮. "‬البلاشفة‮. ‬حسنا‮. ‬أنا أحذرك اصمتي ولاتتحدثي في هذه الأمور ولا تنصتي إلي جدتك العجوز‮. ‬وانظري تحت قدميك حتي لا تسقطي‮. ‬هذا أفضل‮ ... ‬في البداية نذهب للكنيسة‮. ‬أحتاج لأن أوقد شمعة‮. ‬فاليوم ذكري حزينة في حياتي‮. ‬ثم بعد الكنيسة نذهب إلي برج الناقوس ونتجول جولة قليلا ونستمتع برؤية الأجراس ثم ندور حول القناة المائية مرة واحدة ثم نعود في النهاية إلي المنزل‮."..‬
تبدو الجدة يفدوكيا صارمة أثناء وجودها داخل الكنيسة‮. ‬شرعت تعلمني بعض الأشياء‮: "‬هذا هو المذبح‮. ‬وأمامه بوابات ستفتح الآن وترين كل شيء‮. ‬يدخل القساوسة إلي المذبح مثل ملائكة سماوية‮. ‬تبدأ الصلوات في المساء ويوقدون النجف الضخم‮. ‬الضوء خافت ملهم ومبارك‮. ‬عندما تنظرين إلي هذا المشهد تشعرين بالسعادة تسيطر علي روحك‮. ‬تشتعل القناديل الذهبية ثم لا تلبث أن تشع نورا وتبعث في المكان دفئا‮."‬
تدخل الجدة وتحضر شمعة ثم تمسكني من يدي وتصطحبني‮: "‬تُمسكين بالشمعة هكذا وتثبتينها من أسفلها بقوة كي لا تسقط‮...."‬
‮"‬يجب أن يكون كل تركيزك علي ذلك الوجه في الأيقونة‮. ‬لا تنظري لا إلي اليمين ولا إلي اليسار‮. ‬الآن ارسمي علامة الصليب بسرعة قبل أن يلحظ أحد‮. ‬لا ليس هكذا‮. ‬ياللمأساة‮! ... ‬ثم ادعي العذراء بالرحمة للأرواح المقهورة والآثمة‮. ‬لم تلب العذراء دعائي‮... ‬ربما تلبي دعاء طفلة حرمت من النطق‮."‬
كانت الوجوه في الأيقونات كلها صارمة قمحية اللون‮. ‬وترتفع تحتها ألسنة اللهب الصغيرة المشتعلة من الشموع وتهتز وكأنها تصارع بعضها البعض‮. ‬
‮"‬الأرواح الحية تحترق وتفني،‮" ‬تقول الجدة يفدوكيا‮. ‬وعندما يكتمل احتراقها تظهر عجوز ترتدي السواد من خدم الكنيسة وتقوم بجمع بقايا الشمع المحترق وتضعها في طرف ثوبها‮. "‬هكذا نحن‮. ‬نحترق ونحترق ثم ننطفئ في النهاية‮. ‬تشتعل الشموع حتي تحترق كاملة أما البشر فمنهم من لا يمهله القدر حتي يكتمل احتراقه‮."‬
استمتع أكثر في صحبة الجدة جليكيريا‮. ‬ذهبنا معها إلي أيقونة القديس نيقولا‮. ‬ثم قالت‮: "‬ارفعي يديك يا صوفيوشكا بالدعاء من أجل المسافرين والغرباء عن أوطانهم‮."‬
أيقونة القديس نيقولا موجودة بالكنيسة وكذا في‮ ‬غرفتها‮. ‬وتحت الأيقونة توقد شمعة طوال الوقت وتضعها في فنجان أحمر‮. ‬تقترب الجدة من الأيقونة وتقف قليلا ثم تتحدث‮. ‬تهمس وتهمس‮. ‬أما فهو فصامت بلا حراك‮. ‬علي ما يبدو لا يقوي هو علي الكلام أيضا‮.‬
‮"‬القديس نيقولا هو شفيعنا جميعا،‮" ‬تحكي الجدة‮. "‬يشفع لكل من يسبح في البحار أو يهيم في الغابات ويهديه إلي الطريق الصحيحة‮. ‬يزور المساجين ويعالج المرضي‮..."‬
ثم تقودني إلي الأيقونة ونقترب جدا منها وتشرح‮: "‬انظري إليها‮. ‬الحياة الإنسانية كلها في هذه الأيقونة‮. ‬الحياة الدنيا والحياة الآخرة‮. ‬الحياة الآخرة كلها نور وضياء‮. ‬والرب يجلس في المنتصف ورسله حوله‮. ‬لا يتذكرون الحياة الدنيا وينعمون بحياتهم الجديدة‮. ‬لا معني لتذكر الدنيا‮. ‬فهم الآن ينعمون بحياة أخري،‮ ‬حياتهم‮...."‬
ثم تشير إلي الأيقونة وتقول محذرة‮: "‬أما في أسفل الأيقونة فهذه جهنم‮. ‬وهناك يقبع العصاة والمذنبون‮. ‬الفارق أن جهنم ستهبط،‮ ‬ستتنازل وتهبط إليهم‮. ‬والعصاة صنوف كثيرة فمنهم من أصابته اللعنة ومنهم الجاهل‮. ‬لكل حياته‮."‬
خرجنا من الكنيسة وسرنا علي امتداد القناة المائية‮. ‬ومن بعيد هناك رأينا ذاك المنزل المرعب‮: ‬رجال ضخام واقفين‮. ‬تقول جدتي إنها أصنام ووجوهها مصنوعة من النحاس‮. ‬مشينا بجوارها ورمقتها بنظرة خاطفة‮: ‬لديها أقدام ضخمة لو داست بها علي أحدهم لدهسته تماما‮.‬
قمنا بدورة كاملة في المكان ثم عدنا أخيرا إلي المنزل‮.‬
قامت الجدة جليكيريا تساعدني في خلع ملابسي‮. "‬إذن أين كنتم وماذا رأيتم؟‮"‬
‮"‬أين كنا أنا وأنت؟‮" ‬ردت الجدة يفدوكيا‮. "‬كنا في الكنيسة‮. ‬قولي لها‮. ‬كنا هناك ثم سرنا علي شاطئ القناة‮."‬
وكيف الحال هناك؟ هل الطقس بارد في الشارع؟ لعلكم تجمدتم من البرد؟
خلعت كالوشي وأخذت شرابي الصوف ووضعته علي بطارية التدفئة‮ "‬فلنتركها هنا كي تجف‮."‬
‮"‬ما بك عابسة هكذا؟‮" ‬ظهرت الجدة أريادنا ووقفت عند مدخل الغرفة.التفتت يفدوكيا وهي تغسل‮ ‬غطاء رأسها‮: "‬نعم بالفعل لأن الصغيرة خافت من التماثيل‮. ‬حاولت إقناعها كثيرا أنه لا يوجد سبب للخوف منها ولكن بلا فائدة‮."‬
هزت أريادنا رأسها‮: "‬إنها مجرد تماثيل‮. ‬هل من المعقول أن نخاف منها؟‮" ‬وأخذتني من يدي واصطحبتني إلي‮ ‬غرفتها‮. "‬لقد حكيت لك من قبل أنها مجرد تماثيل ويطلق عليها تماثيل أطلس‮. ‬صنعها النحاتون من الحجارة‮. ‬هناك خرافة تقول إنهم يحملون الأرض علي أعناقهم‮. ‬أما من الداخل فهي فارغة‮. ‬باستثناء أسلاك معدنية تبقيها متماسكة ولا تسقط‮."‬
علي الطاولة في الغرفة أري قلما من الرصاص وكتابا مفتوحا من كتب الكبار‮. ‬وبجانبه رزمه أوراق‮. ‬أعطتني الجدة واحدة منها‮: "‬ارسمي حتي أسخن الطعام‮."‬
ثم خرجت‮.‬
في الأعلي سحابة‮. ‬وتحتها بيت كبير‮. ‬وفي الأسفل قناة طويلة‮. ‬وعلي الجانبين سياج بديع‮. ‬وأمام المنزل يقف هؤلاء‮ ‬العمالقة‮. ‬رؤوسهم سوداء مخيفة‮. ‬وبداخلهم أسلاك معدنية‮. ‬أصابعهم الضخمة تشير إليّ‮ ‬سيخطفونني ويفرون من المكان‮...‬
وضعت القلم جانبا وأطرقت أذني‮: ‬لا أحد ينادي علي‮. ‬ثم أمسكت بالقلم من جديد‮. ‬الحروف كبيرة ومائلة‮. ‬كتبت نعم‮.‬
البلشفة
عادت الجدة أريادنا ورمقتني ثم دعتني إلي الطاولة‮. "‬لماذا أنت ساكنة هكذا؟ أترسمين؟ أريني ماذا رسمت؟‮ ... ‬يا إلهي‮..." ‬وضعت الجدة أريادنا أصابعها علي فمها‮. ‬وخطفت الورقة وخرجت من الغرفة‮.‬
بعد لحظة دخلت الجدة يفدوكيا تنظر إلي بغضب‮. "‬ما هذا الذي فعلتيه يا بنت؟ هل فقدت عقلك؟ كيف جرؤت؟ ستودين بنفسك وبالجميع إلي التهلكة‮. ‬يا لها من رسوم حمقاء‮." ‬ثم زفرت ولوحت بإصبعها ناحيتي مهددة‮: "‬أنظري إلي‮!"‬
‮"‬وأنت يا يفدوكيا تيموفيفنا يجب أن تراقبي تصرفاتك جيدا؛‮" ‬أمسكت أريادنا بلفافة الخيط وهي تفكر بصوت مسموع‮. "‬تشبعت الفتاة الصغيرة بأحاديثك‮. ‬تصوري لو نطقت فجأة وتحدثت بما سمعت منك؟‮ ... ‬لا قدر الله،‮ ‬في المدرسة مثلا‮."‬
تنهدت جليكيريا‮: "‬يا إلهي‮. ‬ذنوبنا ثقيلة‮."‬
‮"‬ما علاقة ذنوبنا بالأمر؟‮" ‬ردت جليكيريا وهي تعد لفافات الخيط‮: "‬لم أعد أعرف شيئا‮. ‬وما هو الأفضل بالنسبة إلينا‮. ‬وفي ظل حياة كتلك التي نعيشها‮. ‬هل الأحري بنا أن نتكلم أم نصمت‮."‬
‮"‬ما جدوي ذهابها للمدرسة؟‮ "‬تحدثت يفدوكيا بلهجة من يشعر بذنبه‮. "‬لا حاجة لها بالمدرسة وقد أصبحت تلم بالكثير من المعارف‮. ‬أتذكر انني أنهيت ثلاثة صفوف بالمدرسة فقط وقد كفتني لحياتي بأكملها‮. ‬والصغيرة تعرف الروسية والفرنسية وسوف نعلمها الحساب والعد‮. ‬يكفيها هذا‮."‬
‮"‬فكري يا يفدوكيا فيما تقولين،‮"‬همست أريادنا كما لو كانت تخشي أحدا‮. "‬كيف هذا‮. ‬كيف نترك الصغيرة دون مدرسة‮. ‬لو لم تتحدث ستلحقها أمها بمدرسة لذوي الاحتياجات الخاصة‮."‬
‮"‬لا‮. ‬لن أسمح بذلك،‮" ‬رفعت يفدوكيا صوتها‮. "‬لن أسمح بأن تذهب إلي مدرسة كهذه ولو علي جثتي‮... ‬ماذا ستفعل هناك؟‮"‬
‮"‬هل تظنين أنهم سيهتمون لجثتك تلك؟‮" ‬نظرت جليكيريا إلي الباب‮. "‬سيأتون ويأخذونها بالقوة‮... ‬ولن يتورعوا عن قتلك لو اقتضت الظروف‮."‬
يعم السكون في الخارج.تطير أوراق الزهور فتلتصق بزجاج النافذة‮. ‬ويقف دولاب به مرآة كبيرة في الزاوية؟ أغلقت عينيّ‮ ‬من الخوف‮. ‬شعرت كما لو أن أحدهم هناك يظهر ثم يختفي ويشير إلي مهددا بأنه سيخطفني‮.‬
صوت جداتي رهيف ضعيف بالكاد أسمعه‮. ‬تجلس جدتي جليكيريا تغزل صديرية وعدت أن تغزلها لي لكي أرتديها في العيد‮. ‬الصديرية زرقاء من الصوف حتي تدفئني‮. ‬تقول‮ "‬أغزلها من القديمة‮. ‬الصغيرة كبرت‮. ‬أقوم بفك القديمة واشتري بعض الخيط الأحمر وأضيفه إلي الغزل وأصنع لها واحدة ترتديها أثناء ذهابها للمدرسة‮..."‬
دائما ما أشعر بسعادة أثناء فك الغزل القديم‮. ‬أري الخيط يجري ويموج‮. ‬تمسك جليكيريا بالخيط فيما تجلس أريادنا في المقابل وتلف الخيط في لفافة‮. ‬ولو حدث وانقطع الخيط أراها تعثر علي الطرف بسهولة وتعقده من جديد‮. ‬لفافات الخيط كبيرة الحجم،‮ ‬ناعمة ولأنها سبق استخدامها من قبل فإن لفات خيوطها مترهلة وغير مستوية‮. ‬ولذا سيقمن بغسله جيدا ومن ثم يعلقنه علي الحبل وأسفل كل منها كيس صغير من الرمل‮. ‬يقمن بذلك حتي يستقيم الخيط ويتخلص من تموجه واعوجاجه‮. ‬وهكذا يبدو الخيط وقد أصبح ناعما أملس لكنه بالٍ‮ ‬مع الأسف‮. ‬يربطن الخيوط بعضها ببعض ويفردن الاعوجاج في الخيط لو ظل باقيا‮. ‬يفعلن ذلك وكأنهن آلة مويرا اليونانية الشهيرات الثلاث يسيطرن ويحركن خيوط الحيوات الإنسانية‮. ‬
‮ ‬
عدت من العمل‮.‬
هكذا‮. ‬ذهبت إلي سوق جوستيني وسألتهم هناك فقالوا إنه كانت لديهم فساتين صغيرة ولكنها نفدت جميعا‮. ‬ولديهم حجوزات كبيرة من أحد المصانع‮. ‬فكرت ربما يكون من مصنعنا‮.‬
انتقيت بضع حبات من البطاطس‮. ‬وفرشت ورقة جرائد‮. ‬يداي متعبتان من العمل طوال اليوم حتي أنني لا أستطيع الإمساك بالسكين جيدا‮. ‬أشعر بالوهن الشديد في الفترة الأخيرة‮. ‬في الصباح لا أشتكي من شيء لكن بعد سويعات قليلة يداهمني الإحساس بأن قواي تخور،‮ ‬وبمجرد أن أضع لقمة في فمي أشعر بالدنيا تدور من حولي وبالغثيان‮...‬
‮"‬لا تنسَين،‮ ‬يجب أن نذهب إلي مقر الجمعية يوم الأحد‮. ‬يجب أن نقف في طابور طويل من أجل الدقيق‮. ‬غدا سأمر عليهم لأعرف التفاصيل‮. ‬أخشي أن يكون التسجيل من يوم أمس‮. ‬قالوا لي إن كل فرد له كيلوجرامان حصته من الدقيق‮. ‬جهزن أنفسكن ليوم الأحد وارتدين ملابس ثقيلة فسوف نقف لساعتين علي الأقل وربما ثلاث‮."‬
لم أذكر اسم ابنتي لأنهم لن يسمحوا لها في كل الأحوال‮. ‬لا بأس فلتحضر معنا وتقف في الطابور‮. ‬الآخرون أيضا يجلبون الصغار‮. ‬وحسب العدد يمنحون أكياس الدقيق‮.‬
غسلت البطاطس ببعض الماء ثم وضعتها علي الموقد‮. ‬الآن يجب أن أرمي القشر وهناك تيار بارد يتسرب من ناحية الدرج‮. ‬
توجد صناديق للقمامة علي الدرج تقف في الزاوية‮. ‬تخرج أمي تحمل قشر البطاطس وتلقي به في الصندوق‮. ‬الصندوق ممتلئ عن آخره والقشر يسقط خارجه‮. ‬وإذا بالجدة يفدوكيا‮ ‬غاضبه تصرخ‮ "‬انظري إلي أين تلقين بها‮. ‬ألا تخشين الغربان؟ ها هي هناك ترقبك من بعيد‮..."‬
في الليل تأتي الغربان وتلتهم ما بصناديق القمامة وتقلبها رأسا علي عقب ثم تغادر‮..‬
‮ ‬
‮"‬لاتوجد مسامير،‮" ‬ذهبت لأبحث علي الأرفف‮. "‬يجب أن أجرها مرة أخري إلي القمامة‮."‬
‮"‬ابحثي عن لوح خشبي أكثر سمكا،‮ "‬تشرح يفدوكيا،‮ "‬فالمسامير في الألواح النحيلة صغيرة وغير مناسبة‮."‬
‮"‬لن أذهب اليوم علي أية حال‮. ‬فقد حل الظلام‮. ‬ولدي متسع من الوقت حتي يوم الأحد‮."‬
الموقد أسود اللون‮. ‬ضخم‮. ‬به باب معدني صغير من الأمام حتي يسمح بوضع قطع الخشب داخله‮. ‬وعلي الباب ترباس من الحديد‮. ‬نضع الخشب ثم نغلق الترباس‮. ‬أري النار المشتعلة بالداخل تزداد استعارا‮... ‬تقترب من الثقب المفتوح فتري ألسنة اللهب تتلوي وتبث حرارتها في أرجاء المكان‮. ‬وعندما تقترب يتملكك إحساس مخيف وتتذكر بطلة الحكايات الشعبية الروسية العجوز الشريرة التي تحرق الناس في الفرن‮.‬
هنا يقمن بتسخين المسامير علي النار ثم يرفعنها بالملقاط وقد تلوت وأحمر لونها من فرط السخونة‮. ‬ينتظرن إلي أن تبرد تماما ثم يخطن بها أكياس الدقيق حتي لا يتعفن‮.‬
غرفت البطاطس في أطباق‮. ‬لكل منهن طبق من البطاطس بزيت الصيام،‮ ‬أما سوزانا فأخذت قطعة جبن محلاة ملفوفة في ورقة‮. ‬تقول العجائز‮: "‬لا بأس ستكبر وتشبع من البطاطس‮. ‬أمامها العمر كله‮."‬
‮"‬اكبري بسرعة،‮ ‬يا فتاتي،‮" ‬أبتسم لصغيرتي‮. "‬هل اشتري لها كافيار أسود؟‮"‬
انتهينا من العشاء وخرجن جميعهن من المطبخ‮. "‬الآن حان وقت القراءة،‮" ‬قلت في نفسي‮. "‬فليقرأن لها ما شئن‮..."‬
وضعت جليكيريا الكتاب جانبا‮: "‬تؤلمني عيناي،‮ ‬أصابهما الضعف‮. ‬في المساء تدمعان كثيرا‮. ‬الليلة لن أقرأ بل سأقص عليك بعضا مما أذكر‮.‬
كان يا ماكان في إحدي الممالك البعيدة عن بلادنا عاش ملك وزوجته حياه سعيدة هانئة‮. ‬غير أن القدر لم يكن كريما معهما للنهاية،‮ ‬فقد حرما من الأطفال‮. ‬وعندما يئسا تماما من تحقق هذا الحلم‮ ‬غمرهما الله برحمته في النهاية ورزقهما بعد سنوات طويلة بطفلة جميلة‮. ‬وقام الملك بدعوة الناس للاحتفال بالمولودة‮..."‬
يا ويحي‮. ‬الآن فقط لاحظت أنني‮ ‬غسلت ملابس الطفلة في الصحن الكبير المشترك‮. ‬لم تلاحظ العجائز لحسن الحظ وإلا لكن أمرنني أن اغسل الملابس مرة أخري خوفا علي الصغيرة‮. ‬سيقلن لي‮: "‬لقد تراكم الوسخ الذي بقي من أجسادنا كعجائز عبر سنوات طويلة وهو وسخ لا يمكن أن يمحي مهما كررت الغسيل‮." ‬ربما هن أعلم مني بالفعل‮. ‬لديهن خبرة كبيرة بالحياة،‮ ‬كما عملن حاضنات في قسم الاستقبال بعيادة مكسيم لسنوات وسنوات‮.‬
كانت يفدوكيا أول من اشتغلت منهن بالمستشفي،‮ ‬ثم ساعدت الأخريين في الحصول علي الوظيفة‮. ‬وأصبحن ثلاثتهن يتناوبن في العمل حيث تعمل كل منهن لليلة وتستريح لليلتين وهكذا‮. ‬العمل في المستشفي مريح وجيد ومناسب لظروفهن‮. ‬تستقبل المريض وتسلمه المفروشات الخاصة به في‮ ‬غرفته ثم تجلس وتستريح وتنتظر قدوم التالي‮. ‬يقدمون لك الطعام طوال اليوم فالمطعم في المستشفي يقدم وجبات للعاملين‮. ‬ولك أن تغتسلي وقتما شئت بالإضافة إلي طاقم مفروشات جديد وقت النوم‮. ‬ليس عليك أن تغسليه بعدما تستيقظين بل تسلميه إلي كبيرة الممرضات قبل العودة للبيت‮. ‬ليت سكن المصنع هكذا،‮ ‬فنحن نغسل بأنفسنا لأنفسنا‮...‬
‮"...‬كانت الساحرة في منتهي الغضب‮. ‬فقد كانت تكره جدا أن ينساها الناس ولا يعيروها اهتماما‮. ‬وعندما علمت بما حدث أخذت تفكر في حيل شريرة حتي يستقيم لها الأمر من جديد‮. ‬انحني الملك والملكة للساحرات وبمجرد أن جلس الجمع علي الطاولات إذا بصوت رعد قوي في السماء وعربة سوداء اللون يجرها‮ ‬غراب ضخم تهبط مسرعة من أعلي‮. ‬ينظر الغراب بعينيه القبيحتين وينعق بصوت عال‮. ‬تخرج الساحرة الشريرة من العربة وتتحرك مباشرة نحو سرير الرضيعة وتصرخ‮: ‬كيف تجرؤون علي التصرف دون علمي ودون مساعدتي؟ وترفع إصبعها مهددة ومتوعدة‮. ‬لقد أحضرت لكم هدية صغيرة‮: ‬ستعيش الصغيرة لبعض الوقت حتي تكبر ثم ستخترق جسدها إبرة سامة وستموت في لحظة‮..."‬
أمسح وأمسح‮. ‬بلا نهاية علي ما يبدو‮... ‬الصابون علي الأرض لزج جدا ويمكن أن أسقط في أي لحظة‮. ‬قمت بغلي الملابس البيضاء في الماء‮. ‬أخذت الإناء الكبير ووضعت به الغسيل ومن ثم وضعته يغلي علي الموقد‮. ‬وما إن يبرد الماء حتي أقوم بغسل الملابس،‮ ‬ثم أضعها في الماء من جديد مع بعض المسحوق الأزرق للتخلص من البقع علي البياض‮. ‬
بمجرد أن أبذل بعض الجهد الزائد أشعر بغصة وألم شديد في بطني‮. ‬في الماضي كنت أرقد قليلا فيمضي الألم،‮ ‬أما في الأيام الأخيرة فقد لاحظت نزول قطرات من الدم‮. ‬بضع قطرات فقط‮. ‬ستقوم العجوز بوضع دهان أو اثنين لي اليوم‮. ‬ولكن في كل الأحوال يجب أن أضع فوطة‮. ‬وسوف أقوم بغسل الفوط وحدها بعيدا عن باقي الغسيل‮.‬
هناك مغسلة مشتركة تقع في بدروم المنزل‮. ‬كنت أذهب إليها في البداية ثم توقفت‮. ‬فالجو فيها حار جدا ولا متنفس والسخونة تندلع من الأواني الضخمة التي يغلي فيها الماء‮. ‬يذهب إليها الناس الذين يعيشون في شقة مشتركة ولا يوجد مكان في المطبخ للغسيل‮. ‬نعم هي مناسبة لهم‮. ‬أما أنا فلا حاجة لي إليها،‮ ‬فالعجائز يرقدن للقراءة أو النوم مبكرا وأصبح أنا سيدة البيت فيما تبقي من الوقت حتي أنام‮. ‬
‮"... ‬بكي الملك وبكت الملكة،‮ ‬أما الساحرة الأولي فقد قامت برفع الستار وانطلقت في اتجاه الضوء الأبيض‮. ‬كانت هي من اختفت مسبقا لكي تربط العمل الأسود‮. ‬وأخذت إحدي الساحرات الطيبات تهدئ من روع الملك والملكة‮: ‬لا تبكيا‮. ‬لن تتحقق رغبتها الشريرة‮. ‬بالطبع لا أقوي علي كشف عملها السحري وإبطاله ولكني في الوقت نفسه لن أقف مكتوفة اليدين‮. ‬سأجد ما أقوم به وسأفكر في شيء من أدواتي‮. ‬ستكبر ابنتكما وستغرس إبرة سامة في جسدها‮. ‬لا أستطيع تغيير هذا المصير‮. ‬ستسقط ميتة ولكنها لن تموت بل ستنام لفترة طويلة‮. ‬وعندما تحين ساعتها ستفتح عينيها وتعيش بعدها عمرا مديدا‮..."‬
‮"‬ألم تشبعا من القراءة؟‮" ‬تنظر الجدة يفدوكيا من باب الغرفة‮. "‬حان وقت النوم الآن‮. ‬هل أوقد لك الضوء؟‮ ‬أعرف أنك لا تستطيعين النوم دون ضوء‮." ‬وتضغط علي الزر‮.‬
من بعيد أري مصباحا أبيض وعليه نقوش حمراء‮. ‬يبدو كمنزل صغير‮. ‬وعلي الجانبين رسوم لساحرات وعلي رأسه يقف ديك ذهبي اللون‮...‬
انتهيت من الغسيل‮. ‬وعصرت الملابس الداخلية جيدا ونشرته وعلقته في كل أرجاء المطبخ‮. ‬حسنا نحن في الليل ويبدو الجو هادئا‮. ‬كل النوافذ في البيوت التي حولنا مطفأة الأنوار كما لو كانت البيوت فارغة لا حياة فيها‮...‬
التقيت به لدهشتي الشديدة عند سوق جوستيني‮. ‬صرخ قلبي ألما بمجرد أن رأيته‮. ‬تعجبت‮. ‬أصبح شخصا مهما‮. ‬يرتدي قبعة مصنوعة من فراء الرنة‮. ‬لحقت به ونظرت بهدوء‮. ‬فإذا به شخص آخر‮. ‬إنه مختلف‮. ‬إلي أي درجة؟ فقدت القدرة علي التعبير‮.‬
مضت سنوات طوال حتي صرت أنسي ملامحه‮. ‬يقول الناس إنني سأراه في ملامح ابنتي وعندها سأتذكره رغما عني‮. ‬خاصة لو كبرت تشبهه‮. ‬من الصعب حتي الآن أن نقول تشبه من‮. ‬ورثت الكثير عن المرحومة أمي‮. ‬وعندما تجلس أحيانا وتشد وجنتيها بأصابعها وتنظر إلي السقف إذا بها نسخة منه‮. ‬وجهها لا يشبهه لكنها ورثت إيماءاته وعاداته‮. ‬لم تر أباها منذ ولادتها ولكن تصرفاتها تبدو وكأنها عاشت معه طويلا‮. ‬وماذا لو حدث وتحدثت يوما ما‮. ‬هل سترثه في الكلام أيضا؟ لم أكن أفهم نصف ما يقول‮... ‬استيقظت من أوهامي‮: ‬فليكن‮. ‬كل ما أتمناه أن تتكلم وتنطق بشيء‮. ‬ليتها تتحدث حتي بالفرنسية فقط‮. ‬ليتها تنطق بأي شيء‮..‬
لا أقوي علي فهم شيء في موقف كهذا‮. ‬في شبابي راودتني تلك الأفكار‮. ‬كيف لأب وأم أن يلدا طفلين مختلفي الطباع‮. ‬أحدهما كادح لا يحني ظهره أبدا والآخر كسول لا يقوي علي فعل شيء‮. ‬سألت إحدي المعلمات في القرية كيف يحدث ذلك؟ فردت إنها لا تعلم وإن كل شيء مرده إلي الطبيعة‮.‬
وأنا ما زلت بعد حاملا في ابنتي كنت أفكر في الأمر‮. ‬سألت زويا إيفانوفنا‮. ‬فقالت‮: "‬كل شيء يعتمد علي التربية‮. ‬ما تزرعينه تجنينه لاحقا‮. ‬أما لو أهملتِها فستكبر مثل أبيها سيئة الخلق ومؤذية لغيرها‮."‬
‮"‬ليس لي أن اشتكي‮. ‬يبقي الأب أبا‮. ‬ويبقي الذنب ذنبي في النهاية‮."‬
كانت أمي تحذرني كثيرا وتقول لي‮ "‬هل هكذا ربيتك؟ أن تتورطي في علاقة مع أول رجل تلتقين به؟‮"‬
أعتقد أيضا أن الاسم له دور كبير في الأمر‮. ‬فمثلا لو اخترت لها اسم تونكا نعم تونكا‮. ‬كنت قد قررت أن اسمي ابني علي اسم جده‮. ‬فالرجال يحبون ذلك‮. ‬أما لو كانت بنت فسأمنحها اسما جميلا ربما تنعم بحياة أفضل من حياتي‮.‬
القانون يسمح لي أن اختار أي اسم أب للفتاة‮. ‬وقد نصحتني زويا إيفانوفنا أن أمنح البنت لقب جدها لأمها‮. ‬لكني لا أعرف‮. ‬لا أعتقد أن ذلك أمر جيد‮. ‬أشعر أنه‮ ‬غير إنساني‮. ‬فليبق كل شيء علي طبيعته‮. ‬هذا ما فعلته‮.‬
تجلس العجائز الثلاث ويناقشن الأمر من وجهة نظرهن وعلي طريقتهن‮. "‬من شب علي شيء شاب عليه‮. ‬ويخلق فاسدا من ظهر العالم‮."‬
سألتهن‮: "‬إذن لا معني لأي جهد تبذلينه في تنشئة طفلك ما دام العرق دساس والطبع‮ ‬غلاب‮". ‬أومأن برؤوسهن موافقات‮. "‬نعم لا فائدة‮." ‬
وضعت يدي علي عينيّ‮ ‬وإذا بي أري لفافات الخيط تجري هنا وهناك‮...‬حتي اشتبكت الخيوط فيما بينها‮. ‬أخذت جداتي يلتقطن أطراف الخيط ويعقدنه‮... ‬تهتز الستارة التي علي النافذة بشدة‮: ‬خلفها جنية صغيرة تختبئ في انتظار الساحرة الشريرة‮. ‬حتي وصلت الأخيرة علي عربة يجرها‮ ‬غراب ضخم تدهم الشوارع بالقرب من الكنيسة وعلي طول القناة ثم مباشرة إلي المبني الأسود‮...‬
وهناك يقف البلاشفة ينظرون سعداء‮. ‬ويلوحون بقبضاتهم الخاوية‮.‬
مقتطفات مختارة من الرواية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.