هذا الرجل كان يجب ان يكون اخي، لعله اخي، توءم لروحي، صدقوني انني شعرت وأنا معه اني جلست مع نفسي، غريب جدا هذا الشعور، لكنه انتابني قويا، واضحا نابعا من اعماقي، احسست اني احادث ذلك الجزء الخير الطيب مني، الجزء الصافي الذي يشرب الحليب في افطاره وعشائه، ويحب الناس كلهم، يفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم، نظر للدنيا كلها بعينين وديعتين صابرتين ويبتسم لها ابتسامة مسالمة مستسلمة! فوجئت به يقول لي : أجل.. احسن لون احبه من ألوان الطعام هوالحليب ! ثم أكد وهو يضحك من فمه وعينيه ويديه وذراعيه : عموما انا أكلي خفيف، وجباتي الثلاث وجبة واحدة مما يأكله يوسف السباعي ! لست ادري لم اردت تلك اللحظة وأنا اسمع قهقهته.. ان اري دموعه، أي والله، دموع رجل كهذا، كيف تكون؟ متي؟ ولمن؟.. وعندما سألته عن ذلك ترك قهقهته فجأة معلقة في الهواء وهبط بصوته يقول لي بجد : ثلاث مرات بكيت فيها بحرقة، يوم مات سعد زغلول، ويوم مات أبي، ويوم عرفت ان المنفلوطي رجل ميت منذ زمن بعيد،كنت ألتهم كل كتاباته وقررت ان اتعرف إليه !. انا ألف في حديثي وأدور لأقود محدثي إلي ما اريد سماعه، لكنه رفع حاجبيه الرفيعين عندما قلت له : ياه بس كده، دموع عمرك لهؤلاء وحسب ؟ تنحنح وقال : آه.. افتكرت، بكيت مرة رابعة سنة 1932 يوم اقامت السيدة روز اليوسف حفلة تمثيلية خيرية وتبرعت بإيرادها لقرية احترقت عن آخرها، كانت قد اعتزلت التمثيل واشتغلت بالصحافة وصار لها فيها مكانة مرموقة، فلما تألمت من اجل القرويين الذين شردتهم النيران اشتركت فعلا في التمثيل بالدور الأول في مسرحية "غادة الكاميليا "، أجادت أيما اجادة بل ابدعت حتي سالت دموعي تجاوبا وانفعالا بروعة التمثيل! ". لم اقنع،كيف لم تبك هذا الفنان المرهف الحساس امرأة،مستحيل، فعدت إلي نبض قلبه متسائلة : والحب يا استاذ، ألم يلوعك، ألم يحرق حناياك، ألم يكو ضلوعك كيا، ألم يلهب دماءك حتي تحرق دخانا سال من عينيك دموعا ؟. هز رأسه منسجما كأنني اردد عليه شعرا وهتف : الله.. الله !. قلت في بالي، انتهزها فرصة قبل أن يفيق من السحر الذي ينفثه حديث الحب كالمطر في الجو، فصحت بلهفة : " قول بأه.. وحياة النبي ! " قال ان حبه الأول، كان لبنت من جيرانهم في العباسية، وتوالت بعد ذلك نساء أخريات في حياته أحبهن وأحبته.. وأسعدهن وأسعدته. فسألته: وحبيت.. بالقوي؟. فضحك مؤكدا : أيوه !. ألا يبكي المرء من شدة الحب ؟. رمقني بعطف وابتسامة حانية من عينيه الصافيتين كأنه اكتشف عني سرا وغمغم : الحب يسعد لا يشقي، ولكن.. فحبست أنفاسي : لكن.. إيه ؟ قال : لكني لم أسعد بحبي !. مسكين فنان مرهف كهذا، لماذا لم يتزوج، طار خيالي مجنونا يصور لي ليالي طويلة من السهاد عاشها لا ريب نجيب محفوظ ، تعذب فيها، ومياه النيل التي زادت من فيض دموعه وهو سهران علي الشاطئ يعد النجوم، والأحذية التي يراها وهو يقطع الشوارع قلقا متألما متلوعا،وكأنما قرأ افكاري لأنه قال وهو يتأملني بدقة : ابدا.. كنت مهما تعذبت وتلوعت اضبط اعصابي، فقط كنت اهرب من الدنيا كلها، اسافر بعيدا كان المكان الذي يهدئ من فورة عواطفي هوالاسكندرية، هربت إليها كلما اصطدم حبي بصخرة الواقع. اي واقع هذا الذي منعك من الزواج بحبيبتك مرة، بعد مرة،بعد مرة ؟! مال بكرسيه إلي الوراء وشردت نظراته بعيدا، همس بصوت فيه شجن : دي حكاية طويلة. فقلت له : ورانا إيه ؟. قال مستسلما : هو انا حاعرف أفلفص.. شوفي يا ستي.. حكي لي حياته.. حياته كلها، كيف ولد في الجمالية ثم انتقلت به اسرته إلي العباسية حيث نشأ.. وعاش.. ولا تزال تعيش في الحي امه وأخواته في بيت الأسرة القديم العتيق،ابتسم لذكري عزيزة عليه فقال : البيت زمان كانت له جنينة فيها شجرة جوافة واحدة.. وكام شجرة ورد.. وتكعيبة عنب اسود وأهم من كل ده شجيرات" شيح " زرعتها امي لتعالجنا بها ونحن اطفال، كانت خلف بيتنا غابة تين شوكي يسكنها " نمس" اسود عينه براقة، كنا نخاف منه ونستخبي من المغرب ! حكي لي نجيب محفوظ عن امه بنت الثمانين عاما، وأخواته وابنائهن الذين يقاربونه سنا، ظل يبدع في الحكي، كانت اطياف نسائه شفافة تخفي قسماتهن عني، فطلبت منه ان يصف لي لون الجمال الذي يستهويه، فاحمرت وجنتاه وغض بصره قائلا : والله كلهن كانوا بيض، وشعرهن بين الذهبي والعسلي، وعيونهن، وفجأة رفع نظره إلي وجهي وضحك " عيونهن كانت سودة،اصلي باحب العيون السود " ! ظننته يجبر بخاطري فقلت : الله يخليك ! فأكد لي : فعلا والله،أحلي عيون في رأيي هي السود ! ومرة ثانية غاص في كرسيه، خيل إلي أنه نسيني وهو يجتر سنوات بعيدة من عمره، حكي لي انه كان في صغره له أربع هوايات، لعب الكرة في الشارع مع رفاقه، وسماع اسطوانات سيد درويش وسلامة حجازي ومنيرة المهدية من فونوجراف بيتهم " أبو بوق"، قال ان هواية القراءة جعلته يلتهم كل ما كتب"حافظ نجيب". لم اخف جهلي بصاحب هذا الاسم، فأجابني محدثي برقته المعهودة وأدبه الجم : أصله، ولا مؤاخذة،كان يعني،ولا مؤاخذة زي ما تقولي كده، كان حرامي، حرامي مثقف، بارع، عبقري، دوخ الحكومة حتي عقدت معاه صلح عشان ترتاح منه علي شرط انه يتوب، وفعلا تاب وصار أشهر مؤلف قصص بوليسية، ومن أشهر مؤلفاته "جونسون"، و" هيلتون توب "،و"مغامرات حافظ نجيب" ! وعرفت ان رابع هوايات نجيب محفوط كانت الرحلات، رحلات غريبة كان يقوم بها وهو تلميذ في المرحلة الابتدائية مع زملائه، كل يوم جمعه يذهبون سيرا علي الأقدام من العباسية إلي "حي الحسين".. ويندسون في" زقاق المدق "، و" فم الخليج"، و"خان الخليلي "، و"الغورية"، يسعون بحرية عن عيون الكبار، يجلسون علي مقهي يمثلون ادوار الرجال فيدخنون الشيشة الحامية،يشربون الشاي الأسود، يتبادلون حديثهم بتؤدة ووقار،كان سبب الإفساد صبيا فشل في الدراسة ففتح له أبوه دكان اقمشة في حي الحسين، فكانوا يذهبون إلي دكانه ليلقنهم كيف يكونون"رجالة " ! قهقه نجيب محفوظ قهقهته اللطيفة واستطرد : الود ده كان مغامر يستاهل ينكتب عنه رواية طويلة، تصوري انه افلس مرة وباع دكانه، فملأ منديله المحلاوي بشوية تراب وراح يطوف القري وقد أطلق لحيته وادعي أن التراب ده من ارض النبي، وأنه يشفي العيون، فتزاحم المرضي عليه.. فكان يدس في عين كل منهم حفنة تراب ويقبض فلوس علي كده.. لحد يوم ما رجل فلاح هجم عليه وقال له : "عميت ابني إلهي تتعمي" ! فهرب من القرية وعاد إلي القاهرة.. وتزوج وفتح دكانه ثانية ! وهكذا، مضي نجيب محفوظ يحكي لي كل ما خطر علي باله، ويقهقه محاولا إغرائي علي القهقهة علني أرضي، أقنع، لقد قال اشياء كثيرة لكنه تجنب بمهارة وحنكة وخبرة الكاتب العبقري الجواب علي سؤالي : لماذا لم يتزوج واحدة ممن أحبهن.. لماذا ؟ قال : لأن ابي يا ستي مات وترك والدتي وأخت أرملة أم لصغيرين في حاجة إلي تربية، وكانت ماليتي يا دوب،كنت رجلهما الوحيد،وقد تزوج اخوايا الاكبر مني منذ سنوات وانشغلا بأسرتيهما، كنت" خاطب " قبل موت ابي حبيبتي الأولي، فذهبت إليها وأفهمتها الظروف، وافترقنا، وظلت تلك الظروف قائمة حتي سرقني الزمن وفاتني سن الزواج ! بادرته قائلة : والآن.. طبعا زالت الأسباب؟ فقال لي بانسيابيته الرقيقة : زالت، ولكن سن المرونة في اخلاقي فات، زال هو الآخر،فالزواج عبارة عن توافق وتوازن وشركة، اعني ان الرجل يقابل المرأة في منتصف الطريق، بيتنازل لها عن اشياء وتتنازل له عن اشياء،اما انا فقد كبرت الآن (45 سنة ) واعتدت علي العزوبية، وأرفض ان اغير شيئا من عاداتي وطباعي، لكنني ارفض ايضا ان أعذب التي سترتبط بي بإرغامها علي نظام حياتي انا دون ان تكون لها كلمة واحدة او رأي واحد فيها !". بقي شئ احببت ان اعرفه عن الرجل الذي اكتشفت فجأة انه يشبهني في نواح كثيرة. شئ هام جدا : أيهما يحب.. الليل أم النهار، انا شخصيا احب الليل الرحيم لأنه يسدل ستارا كثيفا علي الواقع، أجابني عندما سألته : طبعا احب الليل.. الليل الرحيم لأنه يسدل ستارا كثيفا علي الواقع !. "صباح الخير" - 24أكتوبر 1957