هاشم ونعينع يحييان ذكرى وفاة عبدالحليم محمود شيخ الأزهر الأسبق بالشرقية    القبطية الأرثوذكسية تستضيف اجتماعات رؤساء الكنائس الشرقية بالعباسية    قفزة في سعر الذهب مع بداية التعاملات الصباحية اليوم الجمعة    وزير الإسكان: قرارات إزالة مخالفات بناء بالساحل الشمالي وبني سويف الجديدة    البورصة المصرية تنفض غبار الخسائر.. الارتفاعات تسيطر على تداولات ختام الأسبوع.. وكيف أثر إعادة التعامل بأسهم "القلعة" على المؤشرات؟    للتوصل إلى هدنة شاملة في غزة، رسائل مصرية قوية للعالم    شهداء وجرحى في قصف إسرائيلي على مدينة غزة    شخص يطلق النار على شرطيين اثنين بقسم شرطة في فرنسا    "حماس" توضح للفصائل الفلسطينية موقفها من المفاوضات مع إسرائيل    نشوب حريق بمصفاة نفط روسية بعد هجوم أوكراني بالمسيرات    حماس: لن نترك الأسرى الفلسطينيين ضحية للاحتلال الإسرائيلي    بعد التأهل لنهائي قاري.. رئيس أتالانتا: من يريد جاسبريني يدفع المال وهدفنا كان عدم الهبوط    نهضة بركان يبدأ بيع تذاكر مواجهة الزمالك في نهائي الكونفدرالية    تاو يتوج بجائزة أفضل لاعب من اتحاد دول جنوب إفريقيا    ذهاب نهائي الكونفدرالية، نهضة بركان يعلن طرح تذاكر مباراة الزمالك    تحرير 1419 مخالفة لعدم تركيب الملصق الإلكتروني    خلافات أسرية.. تفاصيل التحقيق مع المتهم لشروعه في قتل زوجته طعنًا بالعمرانية    14 عرضا في مهرجان المسرح بجامعة قناة السويس (صور)    تركي آل الشيخ يعلن عرض فيلم "زهايمر" ل عادل إمام بالسعودية 16 مايو    رسالة قاسية من علاء مبارك ليوسف زيدان بسبب والدته    «القابضة للمياه»: ندوة لتوعية السيدات بأهمية الترشيد وتأثيره على المجتمع    الناس بتضحك علينا.. تعليق قوي من شوبير علي أزمة الشيبي وحسين الشحات    أول مشاركة للفلاحين بندوة اتحاد القبائل الإثنين المقبل    رئيس الحكومة اللبنانية يبحث مع هنية جهود وقف إطلاق النار في غزة    التعليم: 30% من أسئلة امتحانات الثانوية العامة للمستويات البسيطة    نشوب حريق داخل ميناء الشركة القومية للأسمنت بالقاهرة    القاهرة الأزهرية: انتهاء امتحانات النقل بدون رصد أي شكاوى أو حالات غش    بالتفاصيل، تشغيل قطارات جديدة بدءا من هذا الموعد    البصل يبدأ من 5 جنيهات.. ننشر أسعار الخضروات اليوم 10 مايو في سوق العبور    التنمية المحلية: تلقينا 9 آلاف طلب تصالح في مخالفات البناء خلال أول 48 ساعة    فصل متمرد.. تغير المناخ تكشف تأثير تقلبات الطقس على الزراعات    تشييع جثمان والدة الفنانة يسرا اللوزي من مسجد عمر مكرم ظهر اليوم    لمواليد 10 مايو.. ماذا تقول لك نصيحة خبيرة الأبراج في 2024؟    حفل زفافها على البلوجر محمد فرج أشعل السوشيال ميديا.. من هي لينا الطهطاوي؟ (صور)    صلاة الجمعة.. عبادة مباركة ومناسبة للتلاحم الاجتماعي،    دعاء يوم الجمعة لسعة الرزق وفك الكرب.. «اللهم احفظ أبناءنا واعصمهم من الفتن»    الصحة: أضرار كارثية على الأسنان نتيجة التدخين    أسعار اللحوم الحمراء في منافذ «الزراعة» ومحلات الجزارة.. البلدي بكام    3 فيروسات خطيرة تهدد العالم.. «الصحة العالمية» تحذر    موعد صلاة الجنازة على جثمان عقيد شرطة لقى مصرعه بببنى سويف    طبق الأسبوع| مطبخ الشيف رانيا الفار تقدم طريقة عمل «البريوش»    مايا مرسي تشارك في اجتماع لجنة التضامن الاجتماعي بمجلس النواب لمناقشة الموازنة    عبد الرحمن مجدي: أطمح في الاحتراف.. وأطالب جماهير الإسماعيلي بهذا الأمر    نص خطبة الجمعة لوزارة الأوقاف مكتوبة اليوم 10-5-2024.. جدول مواعيد الصلاة بمدن مصر    أعداء الأسرة والحياة l «الإرهابية» من تهديد الأوطان إلى السعى لتدمير الأسرة    إصابة 5 أشخاص نتيجة تعرضهم لحالة اشتباه تسمم غذائي بأسوان    ما حكم كفارة اليمين الكذب.. الإفتاء تجيب    نهائي الكونفدرالية.. تعرف على سلاح جوميز للفوز أمام نهضة بركان    خالد الجندي: مفيش حاجة اسمها الأعمال بالنيات بين البشر (فيديو)    خالد الجندي: البعض يتوهم أن الإسلام بُني على خمس فقط (فيديو)    فريدة سيف النصر تكشف عن الهجوم التي تعرضت له بعد خلعها الحجاب وهل تعرضت للسحر    رد فعل صادم من محامي الشحات بسبب بيان بيراميدز في قضية الشيبي    اللواء هشام الحلبي يكشف تأثير الحروب على المجتمعات وحياة المواطنين    آية عاطف ترسم بصمتها في مجال الكيمياء الصيدلانية وتحصد إنجازات علمية وجوائز دولية    4 شهداء جراء قصف الاحتلال لمنزل في محيط مسجد التوبة بمخيم جباليا    مجلس جامعة مصر التكنولوجية يقترح إنشاء ثلاث برامج جديدة    «الكفتة الكدابة» وجبة اقتصادية خالية من اللحمة.. تعرف على أغرب أطباق أهل دمياط    «أنهى حياة عائلته وانتح ر».. أب يقتل 12 شخصًا في العراق (فيديو)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البرتقالة والعقارب‮:‬ عندما تتشبث الحياة بأهداب التفاصيل

كثيرون كانت لهم تجارب مع المرض،‮ ‬ولكن القليل منهم نظر إلي تجربة المرض علي أنها تجربة تستحق التدوين سواء تخليدا للحظات ألم مرت وانتهت بالشفاء وتجاوز المحنة،‮ ‬أو تخليدا لذكري مروره في الحياة بعد أن نشر المرض أشرعته كي‮ ‬يبحر به إلي الجانب الآخر‮.‬
ومن هؤلاء الذين كتبوا عن تجاربهم مع المرض،‮ ‬أو كتب عنهم آخرون،‮ ‬تأتي أسماء كُتاب وكاتبات،‮ ‬منهم علي سبيل المثال لا الحصر الشاعر حلمي سالم الذي أصيب بجلطة دماغية في العام‮ ‬2005،‮ ‬فكتب ديوانه‮ "‬مدائح جلطة الدماغ‮" ‬وبعد أن نجح في التغلب‮ (‬مؤقتا‮) ‬علي سرطان الرئة كتب قصيدته الأخيرة‮ "‬معجزة التنفس‮". ‬ومن قبل حلمي سالم كتب آخرون مثل‮ ‬يوسف إدريس الذي كتب عن تجربته مع عملية القلب المفتوح في كتابه‮ »‬‬الإرادة‮«،‮ ‬كذلك نعمات البحيري التي سجلت تجربتها مع السرطان وجلسات العلاج الكيميائي في‮ "‬يوميات امرأة مشعة‮". ‬وقبلهم جميعا كتب صبحي الجيار عن تجربة مرضه الذي فرض عليه أن‮ ‬يبقي ساكنا مقيدا إلي فراشه في كتابه‮ "‬ربع قرن من القيود‮"... ‬وتأتي‮ "‬البرتقالة والعقارب‮" ‬للدكتور طلعت شاهين الصادرة عن دار اليمام‮ (‬الكويت‮ ‬2015‮)‬،‮ ‬تسجيلا لرحلته مع عملية استئصال ورم بحجم‮ "‬البرتقالة‮" ‬من الرأس‮. ‬
‮ ‬في‮ "‬البرتقالة والعقارب‮" ‬لم‮ ‬يكن شاهين منشغلا بوضع تجربته ضمن نطاق تصنيف أدبي معين،‮ ‬فعندما‮ ‬يتحدث عنها‮ ‬يقول‮ "‬كتابي‮" ‬لا روايتي،‮ ‬أو سيرتي الذاتية‮. ‬بل ترك الأمر مفتوحا ليصرف الأنظار عن التأطير النوعي الذي تخضع له الإصدارات الأدبية المعتادة،‮ ‬موجها الانتباه إلي المحنة ذاتها والتي في أهميتها هي أعلي قيمة من التصنيف ومن الانشغال بالتأطير‮. ‬وهكذا جاءت‮ "‬البرتقالة والعقارب‮" ‬في منطقة ما بين السيرة الذاتية،‮ ‬والرواية‮. ‬
ولطبيعة التجربة التي قامت عليها الرواية،‮ ‬فإنها تستلزم قراءة نفسية لنص الرواية ذاته لا لشخصية الكاتب أو السارد‮. "‬والقراءة النفسية ليست معزولة عن القراءات الأخري،‮ ‬صحيح أن لكل قراءة حدودا فاصلة وأدوات خاصة،‮ ‬إلا أن التداخل بين القراءات أمر تقره طبيعة التفاعل بين الاتجاهات النقدية المختلفة‮". (‬1‮) ‬
‮ ‬ودراسة النص الأدبي وتحليله تحليلا نفسيا أو ما نطلق عليه‮ "‬القراءة النفسية‮" ‬تتضمن التحليل والتأويل وتفسير السياق‮. ‬وهذه القراءة للنص ليست بالشيء الجديد أو الغريب‮ "‬فالنفس التي تتلقي الحياة لتصنع الأدب،‮ ‬هي النفس التي تتلقي الأدب لتصنع الحياة‮" (‬2‮)‬،‮ ‬ولا تعارض بين علم النفس والأدب‮ "‬فعلم النفس علم بالكليات كسائر العلوم،‮ ‬والأدب معرفة بالمفردات كسائر الفنون‮" (‬3‮)‬
‮ ‬احتوت‮ (‬البرتقالة والعقارب‮) ‬علي‮ ‬22‮ ‬فصلا،‮ ‬وضع شاهين لكل فصل منها عنوانا مميزا‮ ‬يُفضي بمحتواه‮. ‬يأتي الفصل الأول‮ (‬الإفاقة‮) ‬كنقطة انطلاق،‮ ‬ينطلق منها السرد عائدا إلي الخلف في لقطات فلاش باك ثم‮ ‬يعود إلي نفس اللحظة‮ (‬الإفاقة‮) ‬ومنها‮ ‬يأخذ السرد مساره الطبيعي إلي الأمام بحيث جاءت لحظة الإفاقة مثل نقطة الذروة التي لولا حدوثها،‮ ‬ما كان لِما سبق في الماضي أو ما سيأتي في المستقبل أهمية‮. ‬
في‮ (‬الإفاقة‮) ‬وكما‮ ‬يحدث في اللحظات الأولي التي‮ ‬يبدأ فيها الجسد الذي تعرض للتخدير في العودة إلي عالم الوعي،‮ ‬يبدأ السارد بعرض مشاعره المتباينة مثل شعور المعلق بين السماء والأرض،‮ ‬أو المحتجز خلف الخيط الفاصل بين الحياة والموت،‮ ‬لا‮ ‬يعلم إلي أي عالم‮ ‬ينتمي،‮ ‬حيث كل ما حوله مجرد خيالات لا‮ ‬يستطيع تفسيرها‮. ‬تأتيه أصوات مختلطة ومتقطعة لقطار‮ ‬يمر ولمكبر صوت،‮ ‬وهي أشياء تدل علي مكانه القريب من محطة قطارات‮. ‬هكذا ربما‮ ‬يكون في محطة قطارات،‮ ‬وهي مكان آخر‮ ‬يفصل بين مكان‮ ‬ينتوي مغادرته،‮ ‬إلي مكان آخر‮ ‬ينتوي الوصول إليه‮. ‬ثم بالتدريج‮ ‬يحاول لملمة شتات فكره ويسترجع لقطات تبرق كالوميض في ذاكرته‮. ‬يتذكر خروجه من مطار مدريد قادما من القاهرة وهو‮ ‬يجر قدمه اليسري التي‮... (‬كانت تمثل ثقلا‮ ‬غريبا لا أعرف سببا له،‮ ‬وبعدها لم أعد أذكر أي شيء‮). ‬ثم‮ ‬يدرك حالة الجسد المثبت إلي فراش المستشفي و(تململت في وحدتي‮. ‬وجدتني ملتصقا بفراشي‮. ‬لا قدرة لي علي تحريك الجسد،‮ ‬كما لو كانت تربطه إلي السرير خيوط رفيعة من الغيبوبة‮). ‬
‮ ‬ومنذ لحظة الإفاقة،‮ ‬يظهر بوضوح الاهتمام‮ ‬بالتفاصيل الدقيقة التي قد‮ ‬يتوقف عندها‮ "‬شاهين‮" ‬غير عابئ بإكمال الصورة،‮ ‬وفي أحيان قليلة‮ ‬ينطلق متحدثا متيحا قدرا أكبر من التفاصيل ليكمل بها القارئ رسم الصورة بنفسه‮. ‬فعندما فتح عينيه رأي‮.. (‬فتحت عيني فالتقتا بخصلتي شعر ذهبيتين‮... ‬رأيت‮ ‬يدا رقيقة تمسك كتابا،‮ ‬أصابعها تدل علي جسد نحيل‮...) ‬فأول ما رأي بعد عودته إلي الحياة كانت خصلة شعر ذهبية رمزا لشمس الكون التي تشهد بأنه علي قيد الحياة لم‮ ‬يغادرها إلي ظلام الطرف الآخر من الكون،‮ ‬كما توقع الآخرون‮. ‬كذلك رأي‮ ‬يدا تمسك كتابا،‮ ‬وكأن تلك اليد،‮ ‬وهي رمز القوة،‮ ‬ملاك حارس‮ ‬يجذبه بعيدا عن الموت‮... ‬ثم بقيت صاحبة الشعر الذهبي لا نعرف لها اسما،‮ ‬ونعرفها بصفاتها‮ (‬صاحبة اليد والكتاب‮) ‬التي تؤكد عودته إلي الحياة‮: (‬ما إن رمشت عيناي حتي استدارت صاحبة اليد والكتاب،‮ ‬ويعرف منها مكان تواجده في المستشفي الجامعي رامون اي كاخال بجدرانها البيضاء‮...)‬
من صاحبة اليد والكتاب‮ ‬ينتقل بأفكاره في رحلة الفلاش باك،‮ ‬مسترجعا تفاصيل أخري لصاحبة الوجه المشرق،‮ ‬طبيبة التخدير المنحدرة من أصول سورية‮ (‬آمال عزام‮) ‬التي كانت آخر وجه‮ ‬يراه وهو‮ ‬ينتقل من حالة الوعي إلي حالة التنويم،‮ ‬أو إلي حالة سيكون فيها أقرب إلي الموات منها إلي الحياة‮. ‬يتذكر صوتها الرنان الباسم،‮ ‬والعينين ذاتي البريق الشرقي اللتين تشعان بالحيوية والحياء‮. ‬وهكذا في أولي لحظات الإفاقة‮ ‬يري‮ (‬اليد‮) ‬لحاجته إلي من‮ ‬يأخذ بيده عائدا إلي الحياة،‮ ‬أما عند دخول‮ ‬غرفة العمليات،‮ ‬حيث خطر اللاعودة،‮ ‬كان في حاجة لهذا الوجه الباسم لآمال‮ ‬يؤنسه ويحفزه علي العودة والتي وعدته‮ (‬لا تخف لن أخرج من هذه الغرفة إلا وأنت معي‮). ‬ومن المدهش أن حديث آمال عزام معه قبيل العملية ومعرفته أنها من أصل سوري سرب بعض الطمأنينة إلي نفسه متناسيا خوفه المقيم من العقارب والخوف من الموت في‮ ‬غرفة العمليات،‮ ‬ربما لعلمه أن هناك في سورية منطقة تغلبت علي العقارب منذ زمن بعيد‮. ‬فكما ذكر الإدريسي في كتابه‮ (‬نزهة المشتاق‮): "... ‬ومدينة حمص مُطلسمة لا‮ ‬يدخلها عقرب،‮ ‬ومتي دخلت علي باب المدينة هلكت في الحال،‮ ‬ويُحْمَلُ‮ ‬من ترابها إلي سائر البلاد،‮ ‬فيوضع علي لسعة العقرب فتبرأ‮" (‬4‮) ‬ويقول القزويني في كتاب‮ (‬عجائب المخلوقات‮): ‬لا‮ ‬يكاد‮ ‬يلدغ‮ ‬بها عقرب ولو‮ ‬غسل ثوب بماء حمص لا‮ ‬يقرب عقرب لابسه‮" (‬5‮) ‬فإذا كانت حمص مرصودة من العقارب‮ (‬أي لا‮ ‬يعيش فيها ولا‮ ‬يدخلها عقرب‮) ‬أي هي آمنة،‮ ‬فعسي أن تكون‮ ‬غرفة العمليات آمنة ويخرج منها علي قيد الحياة‮ ... ‬
وكما‮ ‬يحدث عند التأزمات التي لا‮ ‬يجد لها الإنسان حلا،‮ ‬لجأ شاهين في الرواية‮ - ‬وهو ما فعله في الواقع‮ - ‬لجأ إلي ما‮ ‬يعرف ب‮ (‬الحيل النفسية الدفاعية‮) ‬للهروب من المواجهة أو الاعتراف بحالة الخطر التي هو فيها‮. ‬فمن المعروف أن الحيل الدفاعية النفسية هي بمثابة أسلحة دفاع نفسي تهدف إلي إبقاء التوازن النفسي وتخفيف درجة القلق وإزالة التوتر أو الخوف الناتج من الإحباطات والصراعات التي لم‮ ‬يستطع الفرد حلها وتمثل تهديدا لأمنه النفسي‮. ‬ومن هذه الحيل الإعلاء،‮ ‬التقمص،‮ ‬التعويض،‮ ‬الإسقاط،‮ ‬
النكوص،‮ ‬التحويل،‮ ‬الكبت،‮ ‬التعميم،‮ ‬الانكار وغيرها‮.‬
وقد لجأ طلعت شاهين في‮ (‬البرتقالة والعقارب‮) ‬إلي حيلة‮ (‬الإعلاء‮) ‬وهو الارتفاع بالدوافع التي لا‮ ‬يقبلها المجتمع وتصعيدها الي مستوي أعلي أو أسمي،‮ ‬والتعبير عنها بوسائل مقبولة اجتماعياً‮ ‬ليتسامي فوق شعوره كرجل بالخوف‮. ‬فعلي الرغم من تواجده في مجتمع‮ ‬غربي،‮ ‬إلا إنه‮ ‬يتمسك بشرقيته التي تمنعه من الاعتراف بالشعور بالخوف أو القلق،‮ ‬ويقر في ذاته أنه الفرعون الذي لا‮ ‬يمرض ولا‮ ‬يشيخ حيث أطلقت عليه الممرضات اسم‮ (‬تحتمس الثالث‮) ‬هذا الفرعون المصري لا‮ ‬غيره‮. ‬فتحتمس الثالث هو الفرعون الأسطورة الملقب بأبو الإمبراطوريات،‮ ‬ونابليون الشرق،‮ ‬وأول إمبراطور في التاريخ،‮ ‬ويُعد من العبقريات الفذة في تاريخ العسكرية علي مر العصور‮. ‬حيث وصلت حدود مصر في عهده إلي نهر الفرات‮ ‬وسوريا شرقا وليبيا‮ ‬غربا وإلي سواحل فينيقيا وقبرص شمالا وإلي منابع النيل جنوبا‮. ‬ولأن السارد‮ ‬يعرف من هو تحتمس الثالث،‮ ‬انصرف عن ذاته وبدأ‮ ‬يبدي قلقه واهتمامه برفقاء الغرفة خاثينيو،‮ ‬أماليو،‮ ‬خوليو سيزار وزوارهم وأحوالهم‮ (‬متقمصا‮) ‬شخصية الفرعون الذي لابد أن‮ ‬يهتم بأمر شعبه‮. ‬
كذلك لجأ إلي‮ (‬التعويض‮) ‬وهو محاولة الفرد النجاح في مجال ما لتعويض إخفاقه أو عجزة سواء الحقيقي أو المتخيل‮. ‬فعندما أفاق ووجد نفسه مقيدا ممنوعا من التحرك ومغادرة فراشه،‮ ‬أراد تعويض عجزه عن الحركة بجسده إلي الحركة بفكره متجاوزا حدود الزمان والمكان وغرفته ليستدعي ذكريات رحلة شهر العسل الجديد؛ ومحاولة زوجته اعادة ما انفصم من علاقة بينهما بسبب الغيرة المفرطة منها،‮ ‬وغيرها من ذكريات‮. ‬أما‮ (‬الإسقاط‮) ‬لجأ إليه عندما هرب من التعبير عن خوفه من إجراء العملية إلي الحديث عن خوفه من العقارب‮. ‬ذلك الخوف الذي تحول إلي نوع من الفوبيا تمنعه من النوم في فراشه،‮ ‬وتجعله‮ ‬يفضل الموت برصاص الاعداء وهو نائم علي ظهر المركبة العسكرية علي لدغات العقارب‮. ‬كذلك‮ ‬يستعيد قصة شقيقته التي لدغها العقرب،‮ ‬ولم تشف إلا بفضل علاج الخواجة بهيج الذي استخدم الحروف القبطية واسم مريم العذراء جنبا إلي جنب مع علاجها بآيات القرآن‮. ‬كذلك‮ ‬يستدعي ذكريات الحرب في سيناء،‮ ‬وخوفه من عقاربها أكثر من خوفه من طلقات المدافع والصواريخ،‮ ‬وكيف عندما أقام في الفندق في شرم الشيخ مع زوجته كان‮ ‬يفتش كل الأمكنة بحثا عن عقارب قد تكون تسللت في المناشف أو الملابس أو‮... ‬إلخ‮.‬
ويأتي‮ (‬النكوص‮) ‬عندما تجاوز مرحلة المرض وآلام ضغط الورم علي المخ ليحكي ذكريات قطار الصعيد والبائع الذي‮ ‬يعرض الحشيش والشاي‮. ‬أيضا‮ ‬يتذكر الحرب وما حدث من انفجارات علي شاطئ قناة السويس،‮ ‬وزيارته الوحيدة لسوريا وبيوتها العربية‮. ‬يتحدث عن طاحونة الحياة التي كان ترسا فيها،‮ ‬وعن تنقله بين المدن حتي حدث اعتراض الجسد نوما‮. ‬يستعيد بعض مشاهد حرب أكتوبر‮ ‬73.‬‮ ‬ويذكر كيف تخلص من مشاكل التعامل اليومي في ادارة ثقافة‮ ‬6‮ ‬اكتوبر التي تولاها لمدة عامين،‮ ‬ومشاكل دار نشر سنابل التي تلت ثورة‮ ‬25‮ ‬يناير،‮ ‬وكذلك رغبة زوجته في لم الشمل‮.‬
وعندما رفض التبول في فراشه مثل الآخرين،‮ ‬ثم مخاطرته بالقفز فوق الحاجز المعدني الذي‮ ‬يمنع الحركة ليذهب إلي الحمّام بنفسه دون طلب المساعدة،‮ ‬فقد لجأ إلي‮ (‬تحويل‮) ‬الصراعات الانفعالية المكبوتة والمتوارثة بعدم قبول فكرة رجل‮ ‬يتبول في فراشه،‮ ‬ليعبر عن ذلك بأسلوب خارجي نفسي من خلال محاولته التغلب علي قيده المعدني‮. ‬
في كل فصول الرواية ظهر اعتماده علي‮ (‬الكبت‮) ‬بغرض إبعاد الأفكار المؤلمة أو المخيفة أو الخطيرة من حيز الشعور إلي حيز اللاشعور،‮ ‬وهو بمثابة دفن الخبرات وهي حيه في اللاشعور‮. ‬ولأنها تدفن حية فهي تظهر في الأحلام عندما‮ ‬يتحرر الشعور‮. ‬وهذا ما حدث له في أحلام فترة النقاهة‮. ‬ليسمع صوت دقات علي الماء،‮ ‬ويتخيل حواراً‮ ‬بين المدير وضارب الماء،‮ ‬ويتخيل رجلا مسلماً‮ ‬يتطوع بتغسيل إسلامي بالماء والكافور‮. ‬وما كان هذا الحلم المتعلق بطقس ما بعد الموت،‮ ‬إلا ظهور خوف مكبوت من فشل العملية‮.‬
ويجيء‮ (‬الإنكار‮) ‬كحيلة رئيسية اعتمد عليها منذ البداية،‮ ‬منكرا بصورة لاشعورية واقع المرض الذي‮ ‬يواجهه،‮ ‬وخطر فشل العملية الذي‮ ‬يري بوادره علي قسمات زائريه‮. ‬فمنذ البداية وحتي النهاية لم‮ ‬يتحدث‮ "‬شاهين‮" ‬عن مخاوف مثل تلك التي تصيب أي مريض‮ ‬يُجمع الأطباء علي خطورة حالته،‮ ‬بل علي العكس تماما،‮ ‬كان‮ ‬يستغرب الحزن البادي علي وجه زوجته،‮ ‬ناظرا إلي الأمر علي أنه قرار شخصي اتخذه‮ (...‬لم أفهم معني الحزن علي إنسان قرر أن‮ ‬يدخل‮ ‬غرفة ليخرج منها مرة أخري إلي‮ ‬غرفة أخري‮...) ‬ولم‮ ‬ينزعج عندما طلب منه القنصل المصري التوقيع علي وصيته تحسبا لأي احتمالات‮:‬
‮(‬بدلا من التفكير في أن كتابة الوصية قد تكون فألا سيئا فقد أخذت المسألة علي أنها روتين‮...)‬
نجح‮ (‬شاهين‮) ‬في تحويل محنته الي قضية لا تخصه وحده،‮ ‬بل ربما تخص شخصا‮ ‬غيره،‮ ‬تماما مثلما فعل عند تلقيه تشخيص الدكتور كرّاسكو بخطورة حالته وأن أمله في الحياة ضعيف‮. ‬فقد نظر إلي الأمر علي أن الحياة تفرض عليه موتا محققا لو‮ ‬لم‮ ‬يُستأصل الورم،‮ ‬وآخر محتمل في أثناء اجراء العملية ذاتها‮. ‬وكما فعل سابقا نظر إلي الأمر بنظرة محايدة كأن الأمر لا‮ ‬يخصه‮: (‬وقعت الأوراق نيابة عن نفسي‮... ‬كان قرار المواجهة‮... ‬كنت‮ ‬غائبا عن جسدي أو عن نفسي‮... ‬كنت خارج جسدي تماما‮...)‬
بل حوَّل قضيته إلي قضية مجتمعية مشيراً‮ ‬إلي فساد المنظومة الصحية التي جعلت من المريض مجرد زبون‮ ‬يتكالب عليه الأطباء من أجل استنزافه بشتي الطرق،‮ ‬وهذا ما حدث له بداية من التشخيص الخاطئ والعلاج الخاطئ الذي جعل الجبن القريش والجرجير والخس علاجا لورم في المخ بحجم البرتقالة وسبب عجزا في النطق والحركة،‮ ‬ومع ذلك‮ ‬يصرُّ‮ ‬الأطباء علي تشخصيهم الخاطئ‮. ‬كذلك عندما توقف فني الأشعة في أحد المراكز الطبية،‮ ‬عن استكمال اجراء الأشعة له طلبا للمزيد من النقود‮... ‬لافتا النظر إلي الفساد نفسه الذي تحدث عنه تحتمس الثالث محذرا وزيره‮ "‬رخمي رع‮" ‬منه‮: ‬لا‮ ‬يرضي الرب بالفساد،‮ ‬كن‮ ‬يقظا فمنصب الوزير عماد الأرض كلها فليس للوزير أن‮ ‬يستعبد الناس،‮ ‬استمع للشاكي من الجنوب والدلتا أو أي بقعة‮... ‬تصرف بالعدل فالمحاباة‮ ‬يمقتها الرب‮... ‬كن عادلا مع من تعرفه ومن لا تعرفه‮... (‬6‮)‬
هكذا نلاحظ أن شاهين،‮ ‬تجاوز نفسه كشخص مريض في انتظار اجراء عملية فائقة الخطورة،‮ ‬وبدلا من الغوص في أعماقه متحدثا عن شعوره تألما أو خوفا أو ما‮ ‬يأمله،‮ ‬فإنه انصرف عن كل ذلك ليرصد ما‮ ‬يدور حوله،‮ ‬صارفا الانتباه عن حقيقة قرر أن‮ ‬يتجاهلها وانتوي الخروج مرة أخري للحياة‮. ‬ولذلك‮ ‬يحدثنا عما‮ ‬يحدث في المستشفي،‮ ‬عن الممرضات عن المرضي،‮ ‬عن الزائرين،‮ ‬لكنه لم‮ ‬يحدثنا مطلقا عن‮ "‬أناه‮" ‬عن نفسه‮. ‬يحدثنا عن آلام الغير،‮ ‬عن أصوات الصراخ الذي‮ ‬ينادي‮ (‬ماريا أين أنت‮ ‬يا ماريا؟ رجاء لا تخفوها عني،‮ ‬أنا أعلم أنها هنا‮). ‬أو التي تجري حتي تتهاوي باكية وهي تصرخ‮: (‬اخرجوني من هنا‮) ‬أو حكايات‮ (‬خاثينو‮) ‬الذي‮ ‬يصمت في حضور زوجته الثرثارة،‮ ‬حتي إذا جُن الليل انطلق في مونولوج طويل‮ ‬يقطع عليه صمت الليل وسكونه‮. ‬
وبعد العملية،‮ ‬لم‮ ‬يتحدث عن ألم أو‮ ‬غثيان،‮ ‬بل كان ما أزعجه هو احتجازه بقضبان حديدية تمنع حركته‮: (‬حاولت الاستدارة لكن جسدي لم‮ ‬يستجب،‮ ‬لا أشعر بالألم،‮ ‬شعرت بقضبان باردة تمنع حركتي‮) ‬وهذه الحالة نفسها رفض الاستسلام لها،‮ ‬ونجح في الهرب من قيود الجسد ومحدودية الحركة الي التحديق في السقف الأبيض حيث خلايا ضوئية كنجوم بعيدة لا‮ ‬يضايقه منها سوي حالة المراقبة المستمرة التي‮ ‬يشعر أنها مفروضة عليه قسراً،‮ ‬ما بين صاحبة الكتاب التي تراقبه،‮ ‬والعيون التي تشبه النجوم في سقف الغرفة‮.‬


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.