وزير الصحة: القطاع الخاص قادر على إدارة المنشآت الطبية بشكل أكثر كفاءة    مؤسسة «حياة كريمة» تطلق مبادرة «We Support» لدعم طلاب جامعة بني سويف    أستاذ قانون دولي: «الجنائية الدولية» لم تؤكد وجود إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني    ملف يلا كورة.. عملية ناجحة لمعلول.. إيقاف قيد جديد للزمالك.. وخليفة كلوب    شاب ينتحر شنقا في الفيوم لمروره بأزمة نفسية بسبب مشاكل أسرية    «القومي للمسرح والموسيقى» يكرم اسم عمار الشريعي 29 مايو    تعرف على شخصيات فيلم تاني تاني قبل انطلاقه في دور العرض (صور)    محافظ الإسماعيلية يتابع الخدمة الطبية المتكاملة المقدمة للمواطنين ضمن «حياة كريمة»    "عبد الغفار": 69 مليون مواطن تحت مظلة منظومة التأمين الصحي    لمرضى حساسية البطيخ.. أطعمة بديلة يمكن تناولها في درجات الحرارة المرتفعة    بشرى سارة.. وظائف خالية بهيئة مواني البحر الأحمر    أيمن بدرة يكتب: بطلوا تهريج    أزمة الطلاب المصريين في قرغيزستان.. وزيرة الهجرة توضح التطورات وآخر المستجدات    كم يوم باقي على عيد الاضحى؟ المعهد القومي للبحوث الفلكية يوضح    النائب محمد زين الدين: مشروع قانون المستريح الإلكترونى يغلظ العقوبة    التربية النوعية بطنطا تنظم ملتقى التوظيف الثالث للطلاب والخريجين    في أول أسبوع من طرحه.. فيلم الأصدقاء الخياليين - IF يتصدر إيرادات السينما العالمية    قصواء الخلالي: النظام الإيراني تحكمه ولاية الفقيه وفق منظومة سياسية صارمة    رياضة النواب تطالب بحل إشكالية عدم إشهار 22 ناديا شعبيا بالإسكندرية    المصريين الأحرار بالسويس يعقد اجتماعاً لمناقشة خطة العمل للمرحلة القادمة    أخبار الأهلي : أحمد الطيب عن لاعب الأهلي : هاتوه لو مش عاوزينه وهتتفرجوا عليه بنسخة زملكاوية    إسبانيا تستدعي السفير الأرجنتيني في مدريد بعد هجوم ميلي على حكومة سانشيز    الرياضية: جاتوزو يوافق على تدريب التعاون السعودي    جنوب أفريقيا ترحب بإعلان "الجنائية" طلب إصدار أوامر اعتقال بحق نتنياهو وجالانت    الأرصاد تحذر من الطقس غداً.. تعرف علي أعراض ضربة الشمس وطرق الوقاية منها    وزير الرى: اتخاذ إجراءات أحادية عند إدارة المياه المشتركة يؤدي للتوترات الإقليمية    وزير العدل: رحيل فتحي سرور خسارة فادحة لمصر (فيديو وصور)    أحمد الطاهري: مصرع الرئيس الإيراني هو الخبر الرئيسي خلال الساعات الماضية    ليفربول يعلن رسميًا تعيين آرني سلوت لخلافة يورجن كلوب    رئيس الوزراء يشهد افتتاح جامعة السويدى للتكنولوجيا "بوليتكنك مصر" بالعاشر من رمضان.. ويؤكد: الجامعات التكنولوجية تربط الدراسة بالتدريب والتأهيل وفق متطلبات سوق العمل    انقسام كبير داخل برشلونة بسبب تشافي    تراجع المؤشر الرئيسي للبورصة بختام تعاملات جلسة الإثنين    حجز شقق الإسكان المتميز.. ننشر أسماء الفائزين في قرعة وحدات العبور الجديدة    الشرطة الصينية: مقتل شخصين وإصابة 10 آخرين إثر حادث طعن بمدرسة جنوبى البلاد    الأوبرا تحتفل بالذكرى ال42 لتحرير سيناء    "اليوم السابع" تحصد 7 جوائز فى مسابقة الصحافة المصرية بنقابة الصحفيين    إصابة 8 أشخاص بحادث تصادم ميكروباص وربع نقل بالطريق الزراعى فى أسوان    تحرير 174 محضرًا للمحال المخالفة لقرار ترشيد استهلاك الكهرباء    خالد حنفي: علينا إطلاق طاقات إبداع الشباب والاهتمام بريادة الأعمال والابتكار    قائمة الأرجنتين المبدئية - عائد و5 وجوه جديدة في كوبا أمريكا    حكم شراء صك الأضحية بالتقسيط.. الإفتاء توضح    الصحة تضع ضوابط جديدة لصرف المستحقات المالية للأطباء    تراجع ناتج قطاع التشييد في إيطاليا خلال مارس الماضي    المالديف تدعو دول العالم للانضمام إلى قضية جنوب أفريقيا ضد إسرائيل    إيتمار بن غفير يهدد نتنياهو: إما أن تختار طريقي أو طريق جانتس وجالانت    محافظ كفرالشيخ يعلن بدء العمل في إنشاء الحملة الميكانيكية الجديدة بدسوق    تأجيل محاكمة رجل أعمال لاتهامه بالشروع في قتل طليقته ونجله في التجمع الخامس    تأجيل محاكمة طبيب بتهمة تحويل عيادته إلى وكر لعمليات الإجهاض بالجيزة (صور)    تأكيداً لانفرادنا.. «الشئون الإسلامية» تقرر إعداد موسوعة مصرية للسنة    الإفتاء توضح حكم سرقة الأفكار والإبداع    «دار الإفتاء» توضح ما يقال من الذكر والدعاء في شدة الحرّ    أسرته أحيت الذكرى الثالثة.. ماذا قال سمير غانم عن الموت وسبب خلافه مع جورج؟(صور)    10 ملايين في 24 ساعة.. ضربة أمنية لتجار العملة الصعبة    وكيل وزارة بالأوقاف يكشف فضل صيام التسع الأوائل من ذى الحجة    محافظ قنا يتفقد مركز تدريب السلامة والصحة المهنية بمياه قنا    عواد: لا يوجد اتفاق حتى الآن على تمديد تعاقدي.. وألعب منذ يناير تحت ضغط كبير    ماذا نعرف عن وزير خارجية إيران بعد مصرعه على طائرة رئيسي؟    خلاف في المؤتمر الصحفي بعد تتويج الزمالك بالكونفدرالية بسبب أحمد مجدي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مقصدى البوح لا الشكوى

هذه الرواية أحدث إبداعات الروائي الكبير محمد جبريل. وهي عن تجربة حياتية قاسية عاشها المبدع في العامين الأخيرين بعد أن أجري عملية جراحية في عموده الفقري.
الرواية أقرب إلي السيرة الذاتية فضلا عن الجانب التسجيلي.
وهي في مجموعها تعكس ما عاناه المبدع الكبير من أحوال واوجاع العلاج الطبي في بلادنا وذلك بعد أن أقعد المرض الكاتب الكبير وأفقده القدره علي الحركة إلي حد كبير ووسط الآلام المبرحة أبدع هذه الرواية.
الحلقة الأولي
أفقت كأني صحوت من النوم. تناهي رفع الأذان من مسجد قريب. عرفت أني صحوت في الفجر. اطمأننت في البداية إلي استقاظي في حجرة نومي. ثم أدركت بالتلفت أن البنج يملي تأثيراته. من حولي رجال وفتيات وسدات تتعدد أزياؤهم. عرفت فيما بعد أن لون الزي يحدد طبيعة العمل. ثمة الطبيب والمساعد والممرض. لكل زيه الذي يشابه في تصميمه بقية الأزياء. الاختلاف في اللون.
نغزني ألم مفاجئ. فصرخت.
قال صوت لم أتبين صاحبه:
تحمل!
أعدت النظر إلي ما حولي. اصطدمت عيناي بأسرة وستائر ومناضد وطاولات عليها أدوية. أنا في مستشفي إذن. دخلت المستشفي. أعددت نفسي لإجراء عملية. العملية أجريت في قاعة صغيرة. رأيتها قبل أن يغيبني البنج. الموضع الذي أنا فيه يختلف بالستائر المشمع. المتقاطعة. والأصوات المتلاغطة من ورائها بالتعليمات والشكوي والتأوهات والأنين والبكاء والصراخ وعبارات المواساة.
لم أكن اتعمد التأوه. علا بعفوية لم أقدر علي منعها. طبعي أن أكتم الألم. ربما اقتحم جسدي وانا أتهيأ للنوم بما يثير احتمالات قاسية. أكتم ألمي. وأهمس بالشهادتين. وأسلم نفسي للنوم. لا تشغلني التصورات. وما إذا كنت سأصحو كالأيام السابقة.
لموليير رواية شهيرة اسمها "مريض الوهم" عن ذلك الذي يدفعه الوهم إلي تصور المرض! لعلي أهمل المرض نفسه. وإن تشغلني أعراضه. وأنتظره قد يستمر المرض. وقد أموت. وقد أتعافي. لا أعرف ما بداخل جسدي. لا عرض. ولا ألم يشي بمرض لم يعلن عن نفسه.
العادة أننا نعالج أمراضنا التي لا نعرف خطورتها بالمسكنات والمضادات الحيوية. نجد في صمت الألما ما يغني عن التردد علي الطبيب. أو المستشفي. لا توقف العلاج إلا بعد أن تتفاقم الأعراض. وتسوء الحالة. يلجأ الطبيب إلي دفتر الروشتات. يسوده بأسماء أدوية. أو ينصح بإجراء عملية.
لا أذكر من التقط هذه الصورة. يدي تضع فوهة "البخاخة" داخل فمي. تقليلا لتأثير الحساسية في صدري.
كنت استمع إلي لفظ "حساسية" فأتصور من يوصف به أنه ذلك الذي تضايقه أحيانا تصرفات الناس. فتغضبه. أو تثيره. وقد يلجأ إلي البعد عن الشر. ويغني له.
شخص صديق ما أعانيه من العطس والزكام والكحة والنهجان لأقل مجهود بأنه حساسية.
وكدت أن ألوذ بالمثل "الباب إللي يجيلك منه الريح سده واستريح". لولا أني قرأت لصديقي الروائي إدوار الخراط مقالاته عن الحساسية الجديدة. فأدركت أن الحساسية أنواع. منها ما يتصل بالمرض العضوي. ومنها ما يتصل بالإبداع. وأسلمت نفسي لحيرة لا أدري أي الحساسيتين أعاني. زاد من حيرتي أن كم الأدوية التي وصفها المجربون. بداية من الصيدلي. وانتهاء بعم شاهين البواب. مرورا بكل الأصدقاء والزملاء. لم يحقق ما ارجوه لباب الحساسية اللعينة من إغلاق محكم. فهي تسكت أياما. وتعود شهورا. ترهقني أعراضها. وتميتني الأدوية التي أتعاطها لعلاج ما أعانيه.
أثرت الحساسية علي معظم جسدي. أصابت ما لم يخطر علي بالي من أعضاء الجسد.
أذكر قول طبيب العيون لي في إشفاق واضح:
حتي رموش عينيك تعاني الحساسية!
حرمتني الحساسية من النوم في القطارات والطائرات. وفي أي مكان يوجد فيه ناس.
اعتمدت كتمة النفس إلي حد الاختناق. ربما صحوت منتفضا علي يدين تحيطان بعنقي. تضغطان فينقذني الاستيقاظ من توقف الأنفاس.
الشخير هو أسخف ما أعانيه. هو المرادف للنوم عندي. أنا أنام. فأنا أشخر. لا ذنب للناس في الأمر. أحرص فلا أسلم نفسي للنوم. حتي لا يسلم النوم نفسه للشخير. أتذكر ضيق ركاب القطار أو الطائرة لتعالي شخير أحد الركاب. غلبه النوم. والشخير بالتالي!
لا أحب أن أكون في وضع ذلك الرجل!
حين اضطررت لزيارة الدكتور حسن السيد سليمان وأنا مواطن مصري. لا أتردد علي الطبيب. كما تعلم. إلا في لحظات الوقوف بين الحياة والموت شخص الحالة بأنها حساسية.
قلت:
أذكر أني تعاطيت كل ما يخطر علي البال من أدوية ووصفات شعبية.
قال:
لكل دواء دواء..
استعدت بيني وبين نفسي بيت الشعر:
لكل داء دواء يستطب به.. إلا الحماقة أعيت من يداويها.
أعدت تناول ما أشار به الدكتور حسن من أدوية. فلم يحدث التحسن الذي أرجوه.
قال لي الطبيب في زيارتي الثالثة. وأنا أستند علي كتف زوجتي:
لابد إذن من إجراء مزرعة حساسية لعلاج الحالة بصورة جذرية!
غرس الدكتور طريف سلام في ذراعي أكثر من حقنة. في كل منها ما لا أعرفه من أشياء ملونة. وانتظر نتيجة كل حقنة. ثم هتف بمقولة أرشميدس: وجدتها!
أكد الطبيب أن تراب الموكيت هو السبب. وأجري خلطة بين التراب وعدة محاليل. فلما أبديت خوفي قال في ثقة:
ومن السموم الناقعات دواء!
ما فعلته السموم الناقعات أنها باعدت بين مواعيد تضخم اللحمية في أنفي اذهب إلي صديقي الدكتور فؤاد البدري فينتزع اللحمية من الأنف في لحظات عذاب مؤلمة. وهمست ذات مرة : ليه أنا يارب!.
قال الطبيب الذي يذكرني بالدكتور إسماعيل بطل قنديل يحيي حقي من حيث إيمانه المطلق بالعلم. وإيمانه النسبي بالسحر وتوقعات المنجمين:
لا تقل ليه أنا.. أنت لا تعرف ما يعانيه مرضي آخرون!
ولأن فؤاد البدري صديقي. فقد كان يرفض أن يأخذ أجراً عن العمليات المتوالية التي ينتزع فيها لحم أنفي!
بادرت في خطوة حاسمة إلي نزع موكيت الشقة.
نسيت أن أصارحك بأني مصري خليجي. أي عائد من رحلة عمل في الخليج. بين ما تأثرت به من الحياة هناك رغم أنها لا تتفق مع احتضان المقطم لقاهرتنا الجميلة بغلالاته الترابية! فرش شقتي بالموكيت.
نزعت الموكيت. فبدأ الباركيه ناصعا بمربعاته ومثلثاته وتقاطعاته وتشابكاته. وذهبت حساسية الأنف إلي حيث ألقت.
وحين أبديت تخوفي بعد أعوام من زوال حساسية الأنف أن تكون قد عادت إي موضع آخر في جسدي. هو الصدر. قال الدكتور هشام قاسم إن تخميني في محله. وإني بالفعل مصاب بحساسية الصدر. ونصح بأدوية امتد تأثيرها ما يقرب من الشهرين. ثم تكررت الأعراض. وتكررت الأدوية. فنصح الطبيب بالكورتيزون. وذهبت الأعراض فعلا بعد يومين من تعاطي الدواء!
لما كرر الطبيب نصيحته اليائسه في مرة تالية. أعلنت تخوفي من أعراض الكورتيزون السلبية.
قال بلهجة تجمع بين الإشفاق والتعاطف:
لا حل إلا الكورتيزون.
أسلمت ردفي صاغرا لحقتني كورتيزون. وانتظرت زوال الحساسية بعد يومين. كما في المرة السابقة. لكن كل شيء ظل علي حاله.
عرفت أن مسببات الحساسية كثيرة. منها أنواع من الأطعمة والعطور والعوادم والأتربة والفطريات الهوائية وحبوب اللقاح والمبيدات الحشرية والسجاجيد والموكيت والرطوبة العالية وحشرة الفراش والحيوانات المنزلية وغيرها.
لم يعد إلا وصل النتائج بمسبباتها. فأجري التحليل الذي يدل علي أصل الداء. حتي أبرا منه. واستعيد ما استعاره الدكتور طريف من نهج البردة: ومن السموم الناقعات دواء!
***
لعلي أتجاوز كل تلك المسببات. وارجع توطن الحساسية صدري وصدر ابنتي أمل وابني وليد فيما بعد إلي وراثة عن أبي.
رويت لك عن السنوات الطويلة. المتصلة. التي كان أبي يعاني فيها تأثيرات الربو. لا يستطيع النوم علي السرير مثل بقية البشر. فهو يكتفي بالجلوس علي كرسي. ويسند كوعه إلي كرسي آخر أمامه "أشرت إلي تلك الجلسة القاسية في أكثر من قصة لي" تفاجئه الأزمة. فنحاول تحريك الهواء أمامه. يلوح لنا عند اقترابه من البيت. نهبط إليه بكرسي عند الباب الخارجي. نجعل المسافة بين الباب وشقتنا في الطابق الثالث محطات. يسترد أنفاسه في كل بسطة. ربما اشتدت الأزمة. فأعدوا إلي صيدلية جاليتي بشارع فرنسا. أو صيدلية الإسعاف بالمنشية. أعود بمسعف يعالج الأزمة بأدرينالين أو افيدرين. وهما ما اذكره من أدوية لعلاج حساسية الصدر آنذاك.
تطور العلاج. وأنواع الأدوية. لكن الحساسية علي حالها في صدور المرضي. بل إن معدلاتها كما تقول الإحصاءات العالمية زادت بصورة لافته.
***
أتابع البرامج الحية في القنوات الفضائية. أطالع الملاحق التي تتخلل إعلاناتها مواد طبية. التقط النصائح والتوجيهات والخبرات والإشارات إلي الأعراض التي ينبغي التنبه لها.
أعرف أن حدقة العين عندما يتقدم العمر تبدأ في التصلب. بحيث تصعب الرؤية السليمة. ويحتاج المرء إلي استخدام نظارة. النغزة الصغيرة في منتصف الصدر. تعيد ما قرأته عن أعراض الذبحة الصدرية. اطمئن نفسي بما قاله لي الدكتور جلال السعيد. أعراض أمراض القلب من الظهر أكثر من الصدر. تطول مدة الزكام. أحدس أن الأمر لا يقتصر علي العطس والرشح. لكنه بدايات مرض يعطي نذره. أشعر بوجع في جنبي. أجده نذيرا بمتاعب في الكلي. قد تؤدي إلي فشل كلوي. أشعر بحرقان في البول. أعرف أن البروستاتا هي المرض الذي يفرضه السن المتقدم.. ألاحظ أن السائر بجواري يزداد نهجانه كلما استغرقنا السير. أعرف أنه يعاني حساسية صدرية. أو مرضاً في القلب.. أراقب تطورات الألم. ما يبدو ألماً.. أعرف أن المرء قد يتمني الموت نهاية للألم الذي يسري في جسده.
لا أحب الألم. لا أحب حتي مشهد الحقنة وإبرتها تغوص في اللحم. أغمض العينين. أو ابتعد بنظراتي إلي الناحية المقابلة. يستوي الزمر إن حدثت "شكة" الحقنة في جسدي. أم في جسد شخص آخر.
المشهد في ذاته يؤلمني.
النصيحة التي تتكرر في زياراتنا لكل طبيب هي الابتعاد عن النشويات والدهون والحلوي. واستعمال زيت الذرة بدلاً من السمن البلدي. والإقلاع عن التدخين. والامتناع عن أكل اللحوم ا لحمراء. والإكثار من أكل الخضراوات والفاكهة. وممارسة الرياضة ولو المشي بانتظام.
* * *
لا أذكر متي. ولا كيف. حدث ما حدث للمرة الأولي. ولا إن كان قد حدث. واستمر. دون أن أدري.
ينبغي أن أعترف أني أهملت بوادر الأمراض حتي اكتسبت عافية. واستقرت في جسدي. ليست مرضاً واحداً. ولكن مجموعة أمراض. ألجأ إلي الطبيب فيما زاد ألمه. أهمله إن استحثني صراخ مرض آخر. أو أحاول مداواته. وهكذا.. تكسرت النصال علي النصال كما تقول القصيدة. أفكر في "الشيك أب" الفحص الشامل للجسد. أخشي أن يبلغني الطبيب بأن الجالس أمامه طيف شخص سبق موته. أو يحدد لي بصراحة قاسية عدد الأيام المتبقية لي في هذه الدنيا!
أبدو صحيح البدن. لكن المرض قد يكون حيث لا أعرف. وحيث لا يعرف الأطباء.. ثمة ملوك ورؤساء دول تجري لهم فحوص دورية. ربما كل صباح. لكن المرض يعلن فجأة عن وجوده.. أحدس في أي ألم. في أي عارض. مرضاً يعلن عن نفسه. نوبة قلبية. أو جلطة. أو فشل كبدي. أو فشل كلوي.
هل أذكرك بجمال عبدالناصر والملك حسين وهواري بومدين وهوجو شافيز وجورج السادس وعشرات غيرهم؟
يشير الراحل حلمي سالم إلي أنه لم يكتب قصيدة كاملة تتعلق من بابها برثاء أمل دنقل. لأن خوفه من السرطان الذي انتشر في الهواء. والذي أخذ منه مجموعة من أعز الناس. جعله يجفل من رثاء دنقل. حتي لا يكون في مواجهة مباشرة مع السرطان.. وكما نعلم. فقد مات حلمي سالم متأثراً بالسرطان.
* * *
مشكلتي مع العمود الفقري تعود إلي سنوات طويلة.. ترتبط البداية. ثم الاستمرار بالآلام المصاحبة لجلستي إلي الآلة الكاتبة. أمام الأوراق البيضاء. حتي أسودها بما أكتبه. أنقر عليها ربما إلي ساعات الصباح. أغلق النافذة إشفاقاً علي آذان الجيران من صوت الآلة. لا عبارة شكوي. فالكل يدرك طبيعة عملي. لكنه الشعور الذي أعانيه سمة حالة مرضية! من أن أكون في موضع الذي أزعجه!
ملاحظة عابرة. أشارت بها زوجتي إلي بداية المشكلة: هل يدرك أصحاب "الوطن" فداحة الثمن الذي دفعته؟
الوطن هي الجريدة التي أصدرتها بجهد فردي في البداية ثم بالاعتماد علي قلة من الأصدقاء. كانوا يقتطعون من أوقات وظائفهم الحكومية في مسقط. ليسهموا في إعداد مواد الجريدة.. أقف علي الطاولة يوم صدور العدد كل أسبوع من التاسعة صباح الأحد إلي الثانية عشرة ظهر الاثنين.. يلاحظ صديقي وزميلي حسين مرسي. عندما يأتي ليصحبني إلي مقر الجريدة في سوق الخضار بمسقط. أني لا أستطيع الوقوف. يداري الضحك في تحول جسدي وأنا أتهيأ للوقوف إلي الرقم ستة. أضع راحتي خلف ظهري. أحاول "الفلفصة" حتي أستطيع فرد قامتي.
نسيت من أيامها لعبة الجمباز. قدرتي علي ملامسة رأسي بأطراف أصابعي. منافس حقيقي للرجل الكاوتشوك رماح.. اعتدت الجلوس لساعات طويلة. أقرأ. أكتب. أراجع. لا تشغلني الأعراض التي تهمس بالشكوي.. ربما لجأت إلي مسكن مما تتيحه الصيدليات.. تأملت تشبيه صديقي منحمد بهنسي بأن جسدي مثل البطارية التي يفترض أن يطول عمرها بضع سنوات. لكن صاحبها يختصر العمر بإساءة الاستخدام إلي بضعة أشهر.. أعجبني تشبيه بهنسي. وإن لم أتدبر معانيه.
لجأت إلي ما يسميه العلماء القوة الثانية. أصمت عن الحركة والكلام. أكتفي بالشرود. والتقاط الأنفاس. خمس دقائق أو نحوها. أقرب إلي رياضة اليوجا. ثم أعود إلي ما كنت فيه.
تواصلت اللعبة القاتلة. القاتل هو أنا. والمقتول هو جسدي المسكين!
ثم علت الهمسات في ظهري. تحولت إلي صراخ. نتيجة الألم في فقرات العمود الفقري. وفي الساق. أولاني صديقي الطبيب المعتز بالله الفقي رعاية مكثفة. حتي استطعت القياممن المرض الذي سمي "عرق النسا".
* * *
أهملت نصائح ابني وليد بأن ألجأ إلي الكمبيوتر.. تعددت مسمياته في البداية. حتي استقرت علي تسمية "الحاسوب" في لغة الحافظين للفصحي. و"الكمبيوتر" لمن يستخدمون التسمية الغربية. وهي التسمية التي أطلقها العالم الصناعي علي اختراعه. مثلما اخترع التليفزيون والفيديو والإنترنت والمحمول وتسميات أخري كثيرة.
ليس من حقي أن أختار اسماً مغايراً للاسم الذي تلقيت به الاختراع. فهو من حق صاحبه.. ولعلي أذكرك بالأسماء والمسميات التي نقلها الآخرون عن العرب أيام كانت لهم حضارة متقدمة.
تجاهلت نصائح وليد زمناً. وظللت علي تجاهي حتي عندما تحولت النصائح إلي تحريض. وتحذير من ألا أخاطب العالم بلغته. ولا أحسن استخدام أدواته.
كطبيعة الأمور. تحولت فيما بعد إلي تلميذ. يبسط لي وليد عمل الكمبيوتر. تعرفت إلي المسميات والخصائص حتي شعرت أني أستطيع أن أستبدل الكمبيوتر بالآلة الكاتبة. عالم سحري لم يخطر في بالي. ولا تصورته. الكتابة بخط جميل ما أسوأ خطي! الحفظ. القص. اللصق. التقديم. التأخير. وغيرها من استخدامات الكمبيوتر. تيقنت أن اختراع الجهاز من أجلي.. كنت أنقل ما أكتب علي الآلة الكاتبة. أخطئ. أو أرفض شكل الصفحة. فأبدأ من الأول. تأخذ المسودات هيئة الصفوف المتراصة. المتلاصقة. أضيف إليها. وليس العكس.. تحولت الملفات الكثيرة إلي ملفين أو ثلاثة. وبدأت في طبع ما أري اكتماله. واتهمني الأصدقاء والنقاد دون أن يعرفوا السبب أني غزير الإنتاج!
المهم أن الجلسة لم تتبدل. أظل جالساً بالساعات. تخرج زينب في الصباح. وتعود قبل المغرب. تراني في جلستي أمام الكمبيوتر. أنقل ما كتبته. أو أكتب مباشرة. أو أراجع معلومات الإنترنت. أو أرد علي رسائل الأصدقاء.. أشعر حين أهم بالتحرك داخل البيت بآلام في أسفل الظهر. وفي الساقين. اعتبرت ما يحدث أعراضاً طارئة. ولم أبدل جلستي بيدي الورق والقلم علي طاولة السفرة. أو أمام الكمبيوتر علي المكتب.
ذات عصر. أذكره جيداً. كنت في محطة سيدي جابر. أنتظر قطار القاهرة. أحسست بما يشبه النيران تتصاعد في ساقي اليمني. تجذبني الساق إلي أسفل. فأوشك علي القعود. تحاملت علي نفسي. حتي ودعت صديقي الدكتور محمد زكريا عناني والروائي منير عتيبة. وصعدت إلي القطار.
ظل الألم علي حاله بعد أن وصلت القاهرة. تعاطيت ما نصحني به الأصدقاء من مسكنات. لكن الآلام ظلت علي صراخها.
نصحني صديقي أنس الفقي رئيس هيئة قصور الثقافة آنذاك. ثم وزير الإعلام فيها بعد أن أعرض نفسي علي شقيقه الطبيب المعتز بالله الفقي. طلب أشعة. وأجري فحصاً دقيقاً.ثم كتب روشتات. كادت لكثرتها تعيد قرحة المعدة. لولا أنه أوقف النزف بدواء جديد.
* * *
الحلقة الثانية السبت القادم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.