منعتني ظروف سفرى خارج مصر من حضور حفل تأبين الكاتب الكبير الراحل محمد صفاء عامر.. الذى أقامته وزارة الثقافة وحضره الكثيرون من محبى الكاتب الراحل.. فخالص العزاء لأسرته الكريمة. وقبل أسابيع قليلة حلت الذكرى الأولى لوفاة المخرج الكبير إسماعيل عبدالحافظ.. وقبلها بأسابيع كانت الذكرى الثانية لهرم الدراما المصرية الأستاذ أسامة أنور عكاشة.. وكأنما شاء القدر أن يجمع ثلاثى الدراما العظماء فى توقيت متقارب.. لتفقد الدراما التليفزيونية ثلاثة من أعمدتها.. وأظهرت الدولة فى عهد مرسى البائد كرهها الحاد لمن ينتسبون إلى الفكر.. فتجاهل نظام مرسى علاج إسماعيل عبدالحافظ على نفقة الدولة وتكبدت أسرته الكثير فى رحلة علاجه.. فى حين أن صحافة مرسى أعلنت أن علاجه يتم على نفقة الدولة وهو ما لم يحدث.. ونفس الشىء بالنسبة لصفاء عامر الذى داهمه المرض قبل عام من الآن.. فلم يتكبد نظام مرسى نفقات علاجه.. فى حين كان رموز نظام الإخوان ينهبون مصر ويقسمونها فيما بينهم. ولعلى فى هذا المجال أطالب نقابة السينمائيين ووزارة الثقافة بأن تتحمل نفقات علاج كل المبدعين من كتّاب ومخرجين وغيرهم.. مهما بلغت تكاليف العلاج- فهو ليس منة ولا منحة- بل واجب على الدولة نحو من أثروا حياتنا بأعمال عظيمة.. خاصة أن هؤلاء المبدعين ليسوا من الأثرياء كما يظن البعض- ولا يتقاضوا الملايين كما يظن البعض الآخر- وحزنى بفقد الراحلين الثلاثة عظيمة وليس من شك أننا بفقدهم قد فقدنا جميعاً رموزاً عظيمة فى الدراما التليفزيونية. ومحمد صفاء عامر يعتبر نموذجاً للكاتب صاحب القضية.. فجذور صفاء عامر الصعيدية قد وجهته للكتابة عن السعيد وأحواله خلال العشرين عاماً الماضية.. فجاءت أعمال تشريحاً لمجتمع الصعيد بكل طبقاته وما ناله هذا المجتمع من تغيرات كثيرة فى السنوات الأخيرة.. بعد أن تحول من مجتمع منتج إلى مستهلك.. وعانى مثلما عانى الوطن بأكمله من ظلم وجور.. غير أن الصعيد قد ناله النصيب الأكبر من الإهمال والنسيان والفقر. وقد ساعدت خلفية صفاء عامر القضائية أن تأتى أعماله الأولى وخلفها قضايا لها علاقة بالقضاء والشرطة.. وإن كان صفاء عامر لم يتوقف عند ذلك، وانطلق بعدها إلى آفاق أرحب من خلال معالجته لقضايا الصعيد.. خاصة وقد انحاز صفاء عامر فى أعماله للخير والحق.. وحفلت مسلسلاته بقصص حب رومانسية نبيلة فى العديد من الأعمال.. كما أنه انحاز إلى قضايا المرأة فى هذه الأعمال.. فأنصفها ودافع عنها وقدم نماذج مضيئة لها ليغير الصورة النمطية عن المرأة فى الصعيد.. فهو منحاز إلى حقوق المرأة من تعليم ومساواة والحصول على حقوقها كاملة غير منقوصة. وفى أعمال صفاء عامر ستجد أن مجتمع الصعيد مقسوم نصفين.. الأول وهو طبقة الأثرياء وبهوات الصعيد- والنصف الآخر عن فقراء هذا المجتمع فهم ملح الأرض.. بدونه لا يصلح شىء. وحرص صفاء عامر فى أعماله على تقديم صورة الصعيدى الشهم النب يل.. رأينا ذلك فى ممدوح عبدالعليم ورياض الخولى اللذين تحولا إلى نموذج للرجولة والنبل والشهامة.. وهى صفات ليست بعيدة عن أهل الصعيد. وتناول على أعمال صفاء عامر الكثير من المخرجين الكبار أمثال إسماعيل عبدالحافظ ومجدى أبوعميرة وجمال عبدالحميد وخالد بهجت.. وكلها كانت أعمال ناجحة.. ولكن أعمال صفاء عامر مع المخرج مجدى أبوعميرة كانت الأنجح والأشهر.. وشكلا ثنائياً بديعاً قدما من خلاله أعمال ستظل خالدة وتعرض عشرات المرات دون أن يمل من يشاهدها، وكذلك فى مسلسل «حدائق الشيطان» الذى أخرجه إسماعيل عبدالحافظ وتم فيه تدشين النجم جمال سليمان كبطل شعبى ونجم محبوب.. وبالرغم من أن شخصية جمال سليمان كانت تميل إلى الشر.. إلا أن صفاء عامر نسجها بمهارة.. فمزج ذلك الشر بخفة الدم والرومانسية.. فلم يكرهه المشاهد بل أحبه وتعلق به. وفى السنوات الأخيرة لم نشاهد أعمالاً جديدة لصفاء عامر.. وصرح هو أكثر من مرة بأنه نوى اعتزال الكتابة بسبب سوء المناخ وغلبته نجومية النجم على الكاتب والمخرج.. وتراجع الكاتب- أى كاتب درامى- لما بعد النجم وهو وضع معكوس عانى منه كل كتّاب الدراما.. ولكننى لست أظن أن صفاء عامر كان قادراً على التوقف عن الكتابة لأنها كانت بالنسبة له بمثابة الأكسجين الذى يتنفسه.. ولعل أفضل عزاء لنا كمشاهدين فى أن تقوم الدولة بإنتاج العديد من المسلسلات التى كتبها صفاء عامر فى السنوات الأخيرة ولم تر النور. ولقد تميز محمد صفاء عامر بالرجولة والشهامة.. وربما دفعته جذوره الصعيدية إلى الصدام مع البعض ولكن سرعان ما كانت المياه تعود إلى مجاريها بين صفاء عامر ومن يختلف معهم.. فقد كان له قلب طفل وأخلاق الفرسان. رحم الله محمد صفاء عامر.. فهو وإن كان قد غاب عنا بجسده.. إلا أن أعماله العظيمة تجعله باقياً معنا على الدوام.