"العمق الاستراتيجي: موقع تركيا ودورها في السياسة الدولية" للدكتور أحمد فؤاد أوغلو. وزير خارجية تركيا ومهندس سياستها الخارجية حاليا. هو ثالث ثلاثة كتب عكفت علي قراءتها في الفترة الأخيرة. ورغبت في إشراك القراء في الاهتمام بها. والكتابان الآخران هما: "عندما تحكم الصين العالم". و"اختراع الشعب اليهودي". تعرضت لهما هنا في الأسبوعين الماضيين بأسلوب لا يتوقف عند العرض التقليدي للكتب. ولزملاء آخرين باع طويل فيه. بل يحاول أن يتناول ما بعد الكتاب. انطلاقاً من أصداء تركها. ومن حوارات أثارها صدوره. وفي هذا كله. فإن كتاب وزير الخارجية التركي مثير إلي أبعد الحدود. وقد ترجمه إلي العربية محمد جابر ثلجي وطارق عبدالجليل. وراجعه بشير نافع وبرهان كوروغلو. وصدرت الترجمة عن مركز الجزيرة للدراسات في الدوحة. وعن دار العمومية للعلوم في بيروت. وتقع الترجمة في حوالي 650 صفحة. وبداية.. هل يشبه هذا الكتاب بالنسبة لتركيا دراسة العلامة جمال حمدان عن "شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان"؟ من يقرأ ما كتبه الدكتور أوغلو عن "الإقليم" والجغرافيا السياسية لبلاده ربما يشعر أنه يستعيد ما كتبه الدكتور جمال حمدان عن الموضوعين نفسيهما. والترجمة التي بين أيدينا أسقطت ثبت المراجع التي اعتمد عليها الكتاب إلا أنه لا يخالجني شك في أن الدكتور أحمديي داود أوغلو اطّلع بشكل ما علي ما كتبه جمال حمدان. أو ربما رأي عرضاً مفصلاً لكتاب "شخصية مصر" وكتابات العلامة العربي الأخري. ومن بينها استراتيجية الاستعمار والتحرير. وما يرتبط بذلك من حديث عن جغرافية العالم الإسلامي. الجامع بين حمدان وأوغلو. باختصار شديد. هو أن قيمة أي دولة ترجع إلي "موقعها الجيوستراتيجي وعمقها الجغرافي". وفي حفل توقيع الترجمة العربية من "العمق الاستراتيجي". في العاصمة القطرية الدوحة حرص أحمد داود أوغلو علي ذكر أنه وضع هذا الكتاب في 2001 "قبل احتلال أمريكا للعراق. كمفكر تركي أعمل في المجال الأكاديمي.. ولم يكن في خاطري أني سأكون مستشاراً لرئيس وزراء تركيا أو وزيراً لخارجيتها. كتبته بصفتي مفكراً ينتمي إلي هذا البلد". وهذه الصفة. أي المفكر والأستاذ الجامعي صاحب الرؤية لدور بلاده ومكانتها. هي التي قادته إلي المنصب الاستشاري والوزاري. وزير الخارجية ومهندس علاقات بلاده الدولية. ومن الملاحظ أن هذا الطراز من المفكرين والأكاديميين أصحاب الرؤي المحددة لمكانة ودور بلادهم ينجحون غالبا فالباحثون مقاليد وزارة الخارجية في بلادهم. حيث ينفذون سياسة سبق أن حددوا إطارها النظري والفكري. علينا أن نتذكر هنا رجلاً في وزن هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي في سبعينيات القرن الماضي الذي أرسي قواعد سياسة التهدئة والانفراج الدولي من ناحية. وسياسة الانفتاح علي الصين من ناحية أخري. فضلاً عن دوره في مساعي تسوية الصراع العربي والصهيوني. والذي كان إلي حد كبير لصالح إسرائيل وعلي حساب العرب.. وبالنسبة لنا. يندرج في هذا السياق أستاذنا الدكتور بطرس غالي الذي تولي منصب وزير الدولة للشئون الخارجية. ووضع ونفذ سياسة مصرية تجاه القارة الافريقية حققت نجاحاً ربما لم يحققه أي وزير خارجية آخر.. وهؤلاء "الأساتذة الوزراء" أي الذين أصبحوا وزراء لم يقفزوا إلي المنصب الوزاري فجأة أو في خطوة واحدة. بل سبقته ذلك ومهدت له خبرة في مناصب سياسية مختلفة. واقتراب بأشكال مختلفة من القيادة العليا في الدولة التي تجد لديهم ما يفيدها في توجيه وتنفيذ سياسة خارجية محددة لبلادهم. وهذا بالضبط ما فعله أحمد داود أوغلو في تركيا: "عندما أصبحت كبير مستشاري أردوغان أجريت تحليلاً لفكرة "دور تركيا في إطارها الاقليمي". ووضعنا ستة مباديء ضمت رؤيتنا لدبلوماسية وسياسة تركية جديدة ومختلفة عما قبل". وقد نبعت هذه السياسة من "العمق الاستراتيجي" الذي يري داود أوغلو أنه يستند إلي تحليلات تاريخية وجغرافية. ويركز في هذا علي عمق التجربة التاريخية للعنصر البشري الذي تملكه تركيا. كما أن أي محاولة لفهم العمق الجغرافي لتركيا تتطلب القدرة علي القيام بتحليل استراتيجي شامل للعلاقات المباشرة مع الدوائر البرية والبحرية. والقدرة علي رؤية العلاقات المشتركة بين هذه الدوائر. وحين يتحدث عن الذهنية الاستراتيجية والتخطيط الاستراتيجي فإنه يعني بذلك أن السياسة الخارجية الناجحة لأي بلد من البلدان هي سياسة مخططة. يقع كتاب "العمق الاستراتيجي" في ثلاثة أجزاء هي: العمق المفاهيمي والتاريخي. والاستراتيجية المرحلية والسياسات المرتبطة بالمناطق الجغرافية. ومجالات التطبيق: الوسائل الاستراتيجية والسياسات الاقليمية. ويمكن اعتبار الجزء الأول جزءًا نظرياً. والجزءين الثاني والثالث تطبيقاً لمفاهيم الجزء الأول. ولا يعني هذا أن الجزء الأول جزء نظري خالص. إنه يتضمن "المفاتيح" التي استخدمها داود أوغلو لتحديد السياسة الخارجية الناجحة لتكون الدولة -أي دولة- عنصراً مؤثراً مع الدول الأخري. وهناك صفحتان في هذا الجزء تتضمنان تصوراً متكاملاً لصنع سياسة خارجية ناجحة. ولولا التخوف من طول الاستشهاد والاقتباس لأوردت نص هاتين الصفحتين اللتين يفتتحهما أوغلو بقوله: "أما الدول التي تترك سياستها الخارجية في مجري التطورات المختلفة. وتترك قدرتها علي المواكبة الزمنية للأحداث بسبب ضعف إرادتها السياسية. فستصبح أسيرة ردود أفعالها مرحلية ومتداخلة ومتناقضة من خلال جداول أعمال تم تحديدها لها مسبقاً. والنخبة السياسية في مثل هذه الدول لا تمتلك أي وجهات نظر تتعلق بنقطة البداية أو نقطة النهاية. ولا تتصف بالجرأة والقدرة علي اتخاذ القرار. بل تلجأ إلي الأساليب الدفاعية والانفعالية. وتتصرف في إطار نفسية تم تشكيلها في قالب دفاعي وتبدو بالتالي ميالة للنزعة الدفاعية. لسان حالها يقول: "نحن ابتعدنا عن الأزمات". بخلاف غيرها. الذي يقول: "نحن وجدنا من أجل إيجاد الحلول". وفي ضوء هذا. يمكن أن نتناول سياسة تركيا تجاه الشرق الأوسط ككل. أو تجاه فلسطين أو إسرائيل. ولكن يعنيني هنا اليوم الوقوف عند سياسة تركيا تجاه مصر. وقد اتفق البلدان في 22 نوفمبر الماضي علي تأسيس مجلس أعلي للتعاون الاستراتيجي بينهما. وخلال محادثاته يومئذ مع وزير الخارجية السيد أحمد أبوالغيط. حرص وزير الخارجية التركي علي تأكيد أن مصر "ليست دولة كبيرة فحسب بل هي من أهم الدول التي تشكل مصدراً للاستقرار". من هنا. كان حرص تركيا -ومصلحتها حاليا- كما عبر عنها وزير خارجيتها. علي توسيع الروابط مع مصر لتغطي مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية. ومن ينظر إلي مصر. في إطار الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط. وما يموج به صراعات. يتفق مع وزير الخارجية التركي علي أن هذه المنطقة شهدت في الفترة الأخيرة حضوراً تركيا متنامياً لا يمكن مقارنته بما كانت عليه العلاقات التركية- الشرق الأوسطية من قبل. ووراء هذا الحضور التركي عوامل عدة. منها: ازدياد تأثير تركيا في هذه المنطقة. وعلاقاتها الثنائية المتطورة تطوراً سريعاً مع دول المنطقة.. ووصولها إلي مكانة جعلت منها دولة مسموعة الكلمة في المجتمع الدولي فيما يتعلق بمشكلات المنطقة.. وهذه كلمات أوغلو نفسه. ليس في كتابه الذي صدر في 2001 بل في يونيو الماضي. في مقال كتبه خصيصاً لدورية "شرق نامة" التي تصدر عن "مركز المشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية". الذي يديره الصديق الدكتور مصطفي اللباد. وقد عقد هذا المركز. بالتعاون مع جهات أخري. ندوتين في الشهرين الماضيين حول إيران وتركيا. لم تحظيا بكل أسف بما تستحقانه من اهتمام إعلامي. الدكتور داود أوغلو يتحدث عن إقليم "الشرق الأوسط" حديث العالِم بحساسيات هذا المصطلح وما وراءه من خلفيات سياسية وعسكرية. فرضت توسيع نطاق هذا الاقليم أحيانا وتضييقها أحياناً أخري.. وفي هذا الجزء بشكل خاص من "العمق الاستراتيجي" تبدو تركيا بوضوح باحثة عن دور هي أهل له نتيجة مواريث تاريخية وتجربة استمرت أربعة قرون كاملة "يعتبرها أوغلو خمسة" ينطلق منها وزير الخارجية التركي ليري أنها "وضع المقاييس التاريخية لهذه المنطقة وبنيتها الجيوثقافية ضمن العناصر الأساسية للتحليل الاستراتيجي". ومن ثم فإن قيام تركيا الآن بتفعيل ذلك الإرث. الإرث العثماني. لهو من الأهمية بمكان. وسواء في إطار سياسات تركيا الإقليمية أو في سبيل تأسيس نظام "إقليمي" عادل ودائم في المنطقة التي لا يمكن لتركيا أن تدير ظهرها لها إذا أرادت تطوير استراتيجية إقليمية. وحتي لو أخذنا هذا التحليل علي أنه يعني أن هناك "دوراً هاماً" في المنطقة ينتظر تركيا كي تقوم به. فإننا لا يجب أن نجزع من هذا أو نرفضه. بل علينا نحن العرب. والمصريين خاصة. أن نتقبل هذا. ونتأمله ونتحاور معه. بحثاً عن المشترك بيننا. وهو كثير. لا يقلل منه أن كلا منا -العرب والأتراك- ينظر إليه نظرة خاصة طبقا لمصالحه العليا. فمن الخطأ أن ننظر أو ننتظر أن تكون عودة تركيا لدور إقليمي محدد حباً في سواد عيوننا. بالعكس. إن أحمد أوغلو يضع يديه بالكامل. ولكن بذكاء وسياسة. علي كثير من نقاط التجاذب العربية- التركية. وهذا التجاذب. أيا كان مداه ومساحته وعمقه. يجب ألا يصرفنا لحظة واحدة عن التطور الملموس في الموقف التركي من فلسطين وحقوق شعبها. برز هذا التطور بشكل خاص من إدانة عدوان "الرصاص المصبوب" الإسرائيلي علي قطاع غزة في ديسمبر 2008 ويناير 1909. وتصاعد ولا يزال بشكل ثابت. بلغ ذروة معروفة بتقرير مجلس الأمن القومي التركي في النسخة الجديدة من "الدستور السري" أو "الكتاب الأحمر السري للغاية". وهو الذي يحدد الاستراتيجية التركية داخلياً وخارجياً لمدة خمس سنوات. تقريره أنه "يجدر التركيز علي أن انعدام استقرار المنطقة بسبب النشاط الإسرائيلي وسياساتها "سياسات إسرائيل" التي قد تسبب بسباق التسلح في المنطقة. هما تهديد لتركيا". وهذه أول مرة منذ 1949 التي تعتبر فيها تركيا ان إسرائيل "تهديد خارجي". مع إسقاط سوريا وإيران بشكل خاص من قائمة الدول التي تمثل تهديداً من هذا النوع لتركيا. وقد وصف هذا بأنه "تحول استراتيجي من العيار الثقيل". والقضايا المثارة بهذا الشأن "الإقليمي" في كتاب "العمق الاستراتيجي" قضايا عديدة تفرض علينا نحن العرب أن نشتبك معها. بشكل عميق. سواء قاد هذا إلي الاتفاق أو إلي الاختلاف. الذي من المفترض ألا يفسد للود قضية -ولعله مما يستوقف النظر في هذا الخصوص. لتشريح أوغلو "مثلثات التوازن" في المنطقة. علي النحو التالي: أولاً : المثلث المصري- التركي- الإيراني "مثلث خارجي". ثانيا : مثلث العراق- سوريا- السعودية "مثلث داخلي". ثالثا : مثلث الأردن- فلسطين- لبنان "مثلث جانبي". ويري أن العلاقة الجدلية بين هذه التوازنات الثلاثية تكشف عن "لعبة شطرنج متداخلة متشعبة. تقوم فيها التحالفات علي أساس المصلحة والأوضاع المؤقتة بشكل عام. وتبدو ألعاب ميزان القوي هذه قاسية لا رحمة فيها. وكل شيء فيها مباح. إذ يتربص اللاعبون كل منهم بالآخر. ويعقد التحالفات التي تحقق مصالحه ويسعي للتخلص من منافسيه". ومع أن هذا الكلام له خبأ. إذ يخفي الجانب القومي في علاقات أضلاع المثلثين الثاني والثالث بالإضافة إلي الضلع الأول في المثلث الأول وهو مصر. في مقابل زيادة نفوذ وتأثير المحور التركي- الإيراني. و"التواليف التوازنية" أو الائتلافات التوازنية التي ينسجها داود أوغلو بناءً علي سوابق تاريخية تبدو جذابة عند النظرة الأولي. ولكنها ما تلبث أن تتداعي حين نستعيد العامل الذي أسقطه وهو العامل القومي العربي من ناحية. وحين نستحضر دور القوي الأجنبية قوي الغاز والاحتلال في الأحداث التي تناولها. سواء كانت أحداثا متوازنة أو مختلة التوازن. علي أن نتذكر دائما وبثبات أن التوازن بطبيعته عملية مؤقتة لا تلبث أن تصاب بالخلل الذي يؤدي إلي توازن جديد.. وهكذا تتوالي الأوضاع المؤقتة. وتتوالي التغييرات. بينما تبقي مصالح الأمم والشعوب ثابتة. وهذا ما يعرفه بوضوح داود أوغلو وهو يحدد أطر السياسة الخارجية لبلاده في القرن الواحد والعشرين سواء بقي حزب العدالة والتنمية في الحكم أو خرج منه. وسواء بقي أوغلو نفسه وزيراً للخارجية أو حل مكانه من ينفذ السياسة الخارجية لتركيا.