منذ زمن بعيد لم استقل ذلك القطار.. كانت أيام التلمذة في مرحلة الابتدائي والإعدادي. والثانوي. مرحلة تكونت فيها الرؤي ونمت الأحلام وكبرت الآمال ونهم القراءة والبحث وراء كل جديد في كتاب أو صحيفة. يغذي ذلك كله. ويعد رافداً مهماًً الصور التي أحاطت بنا في دروب الحياة. ومن بين هذه الدروب قطار الدرجة الثالثة الذي نشتاق إليه. وإلي ما به من حكايات وروايات ومناظر اجتماعية خلابة يجمعهم القطار في رحلة تطول في مسافة قصيرة لبطئ سيره. وتوقفه عند محطات عدة ليتمكن الباعة الذين ينتقلون من قراهم إلي المدينة لبيع ما لديهم من خضار وخلافه. أشتاق لرؤيتهم مجتمعين في وسيلة مواصلات. كيف يتعاملون. يتحدثون. يتضاحكون. يتعاونون. يتعاركون. يتعرفون علي بعضهم لمجرد جلوسهم. تجدهم كأن صداقة قديمة جمعت بينهم من قبل رغم تعارفهم منذ دقائق. ما إن يتحدث أحدهم بكلمة يسمعها آخر حتي يرد عليها بنكتة أو تعليق. حين ينشأ بين أحدهم وآخر تشاحن حتي تجد التعليقات وتطييبات الخاطر. والتصالح يترفع اندفاعاً من فم كل جالس بالقطار ويطول الحديث في ذلك حتي يصل القطار إلي محطته النهائية. كانت فرصة قليلاً ما تتكرر ذلك إني أريد العودة إلي مدينتي طنطا قبل الساعة الثانية ظهراً وأول قطار مكيف قادم من المنصورة سوف يكون في المحلة بعد الثالثة والنصف ولكوني لا أرغب في استعمال ميكروباص انتهزتها فرصة لركوب قطار الدرجة الثالثة القادم في الساعة الثانية عشرة ظهراً. وفعلاً دلفت إلي إحدي عرباته لأجده مزدحماً ازدحاماً شديداً لم أعهده في الأيام الخوالي. ذلك أن الأسبوع هو أسبوع الاحتفال بمولد السيد البدوي. أخذت ركناً بجوار الباب أتأمل في وجوه الناس فيهم المبتسم والغاضب والتائه والمنتبه أنماط من البشر في وجه كل منهم حكاية تغري بتفحصه وقراءة ما به ويتخيل حاله كل إنسان.. النساء افترشن أرض عربة القطار يتحدثن جميعاً في وقت واحد فلا تكاد تسمع من حديثهن شيئاً غير أن بعض الكلمات التي تمثل اعتراضات علي مرور شخص أو دفعه لآخر يكاد تسبب معارك عدة بين الركاب ولاسيما عن توقف القطار في محطاته ليحبل بعشرات الركاب تضاف إلي ما في جوفه إلا أن وقوفي في مكان مأمون أتاح لي النظر المستمر في وجوه الخلائق لتحكي في صمت حكايا الفقر والرضا والسخط أحياناً. من بين هؤلاء النسوة فرت فتاة تتمتع بقسط وافر من الجمال ملت من الجلوس ارضا كأنها أرادت أن تتحرك لمشاهدة الطريق الذي يمر به القطار واقتربت من باب العربة ليسهل اطلالها علي الطريق. لمحها أحد المرضي من الرجال الذين لا يخشون العمل الفاضح ووقف وراءها يحتك بها وكلما نفرت إلي مكان آخر يسعي وراءها حتي إذا لم تجد بدا من هروبها استدارت له ونوالته ضربة علي وجهه اسمعت كل ما في عربة القطار واتبعت الضربة بأخري مصحوبة بسيل من الشتائم تمل الأذن من سماعها. رغم ضخامة الرجل وجسده الذي يحمل قفاً عريضاً ورأسا تفوق رأس أكبر حمار إلا أن المباغة والتفاف النسوة اللائي قمن من أماكنهن لتشاركن في توجيه الكفوف والشباشب والاحذية علي وجه الرجل ورأسه دون ان يعرفن سببا لذلك شلت تفكيره وانهال كل من في العربة علي قفا الرجل ورأسه ووجه ضربا لم ينقذه من ذلك سوي الانتقال إلي العربة الأخري دون أن ينبس بنت شفة. انتهي الضرب ولم ينته الحديث عما حدث والتعليق المضحك والمثير حول هذه الصورة وانتشارها في وسيلة المواصلات وفي الشارع.