الدستور كما تعرفه الدولة الحديثة هو أرقي وثيقة بشرية. ورغم أنها وثيقة غير مقدسة بمعني أنها قابلة للتعديل إلا أن تغيير أحد موادها يحاط بضمانات قاسية تمنع التلاعب به وفق هوي السلطة وخدم بلاطها من المنافقين. فالدساتير ليست ثياباً نرتديها للتزين بها متي شئنا. ونخلعها عند منعطف الطريق في غفلة من الشعب. ولأن الدستور عقد اجتماعي يبين الحقوق والواجبات ويحدد الصلاحيات التي يمنحها الشعب لكل سلطة من سلطات الدولة فإن غالبية شعوب المعمورة تحترم دساتيرها دون إفراط أو تفريط. وقد ترفض تعديل أحد مواد الدستور لعشرات السنين حرصاً علي الاستقرار والبناء ووأداً للفتنة. فالدستور يعمل علي تنظيم وضبط العلاقة بين مؤسسات الدولة وسلطاتها الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية. ويرسم آيات التعاون بينها بما يضمن عدم تغوُّل إحدي السلطات خاصة السلطة التنفيذية علي إحدي السلطتين القضائية والتشريعية. وتوضح مواد الدستور والمواد المكملة له التوجهات الرئيسية والعامة للدولة ليهتدي بها نظام الحكم أثناء فترة حكمه المحددة. وفق نظام متوازن إما رئاسي أو برلماني أو مختلط يجمع بينهما. وقد مر الشعب المصري بتجارب مريرة سواء في وضع الدساتير أو تعديل مواده لتعزيز التسلط لصالح سلطة الخديو أو الملك في النظام الملكي أو الرئيس في النظام الجمهوري علي مر التاريخ منذ أن عرفت مصر الحياة النيابية قبل الثورة وبعدها. لقد عرفت مصر الدستور الأول لها بعد مخاض طويل استمر بداية من عام 1805 حتي اليوم حيث صدرت لائحة مجلس الشوري في عهد الخديو إسماعيل عام 1866 تحت الضغط الشعبي. ثم ظهرت بوادر دستور جديد في عام 1789 الذي لم يمكث سوي ثلاث سنوات أعقبه دستور 1882 وقد تضمن قيوداً نسبية علي سلطات الخديو ثم تلاحقت انتهاكات الملك وأحزاب الأقلية لدستور 1923 وانتهي به الأمر إلي إلغاء الدستور وحل البرلمان. وإعلان دستور 1930 المعروف بدستور صدقي باشا بديلاً له ورفضت القوي السياسية الكبري آنذاك الاعتراف بدستور صدقي حتي عاد دستور 1923 للعمل بفضل الاحتجاجات السياسية. ومرت مصر بحقبة الدساتير الجمهورية في عام 1956. 1958. ثم دستور 1964 المؤقت ثم وضع دستور 1971 في بداية حكم السادات الذي انقلب عليه وعدَّل أهم مواده ليضمن الترشح لمدد أخري بدلاً من مدتين بإيعاز من لجنة الهوانم في عام 1980 ليكون فألاً سيئاً علي الرئيس محمد أنور السادات الذي اغتالته أيد شريرة لتقع ثمرة التعديلات الدستورية في أحضان حسني مبارك ليستمتع الرجل بحكم خارج أسوار القانون والدستور 30 عاماً عدل خلالها دستور 71 مرتين إحداهما عام 2005 والثانية عام 2007 ليحكم قبضته علي سلطات الدولة الثلاث ويعد البلاد للتوريث. وكان مصير مبارك المحتوم في أعقاب التعديلات خلعه بثورة شعبية في 25 يناير. ثم جاء محمد مرسي ليحكم مكتب الإرشاد البلاد بدستور 2012 والذي انقلب عليه الرئيس بإعلان دستوري محصن في نوفمبر 2012 ليكون اللعب بمواد الدستور نهاية حكم جماعة لم تعرف قدر الشعب ولم تحترم إرادته ولا تعهداتها مع الشعب. وبعد ثورة 30 يونيو ضد حكم الجماعة عدلت مواد دستور 2012 واستفتي عليه الشعب ومنحه ثقة بنسبة تجاوزت 1.98% وخرج له أكثر من 6.38 مليون ناخب. واختار الشعب الرئيس عبدالفتاح السيسي بناء علي هذا الدستور بشحمه ولحمه ومواده. بل وأقسم الرئيس علي احترامه أمام الشعب وعلي مرأي ومسمع من العالم كله. فكيف يطالب دعاة الفتنة اليوم بتعديل الوثيقة الدستورية قبل تفعيلها؟ هل لأن الرئيس قال إن الدستور وضع بحسن نية والدول لا تبني بحسن النية؟ وما أدراكم أن الرئيس يقصد ما ذهبتم إليه. قليل من العقل والصبر يا سادة. الرئيس أذكي من أن يطالب بتعديل الدستور قبل تفعيل مواده. وهل يمكن أن توضع الدساتير بسوء نية؟ من المؤكد لا. لأن الدساتير توضع للحاضر والمستقبل فلابد من توافر حسن النية واستشراف مبشرات الأمل في التغيير والبناء. ومن المستحيل أن يقوم أي دستور علي سوء النية إلا عند دعاة الفتنة وأعداء الاستقرار. ومن العجيب أن مجاذيب التعديل وحملة مباخر النفاق الذين يستهدفون مواداً بعينها لتكريس وإعادة تأسيس حكم الفرد مازالوا يعيشون في الماضي وهو زمن لن يعود. هؤلاء الذين فقدوا حواسهم الخمس لا يدركون أننا في عصر جديد هو عصر المعلومات. السماوات المفتوحة عصر المعرفة. وقد فاتهم أن أصوات مزامير الفتنة الدستورية فأل سييء علي مقام الرئاسة فيما سبق فهل يستدعي هؤلاء فألهم السييء بقصد أو بدون قصد؟ إن الجهة الوحيدة المنوطة بإجراء أي تعديل الدستور هي السلطة التشريعية أي مجلس النواب ما زالت غائبة. وأن تقييم الدساتير لا يقوم علي الانطباعات والافتراضات والرجم بالغيب. ولكن يقوم علي تفعيل مواد الدستور في الواقع الاجتماعي والسياسي وسن القوانين المكملة له قبل كل شيء فهلا فعلنا ذلك أولاً! وعلي دعاة ودهاقنة تعديل بعض مواد الدستور أن يعلموا أن المواد التي تتطلب التعديل ليست تلك المواد فحسب. بل يحتاج إلي تعديل كثير من المواد التي اعترض عليها البعض فصبروا حتي يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر. والله غالب علي أمره. ولكن أكثر الناس لا يعلمون.