لا يجادل عاقل فى أن الثورات الشعبية لا بد أن تعقبها فترة من عدم الاستقرار وانتشار الشائعات والجدل السياسى، واستغلال المنتفعين من أتباع النظام المخلوع والدائرين فى فلكه من هذه الأجواء المواتية لمحاولة إعادة إنتاج هذا النظام بصورة أو بأخرى، من خلال مساعيهم وبالتحالف مع بعض السياسيين الانتهازيين لإفشال الرئيس المنتخب بافتعال الأزمات والتربص والتأويل التآمرى للمواقف والتصريحات وإثارة البلبلة والقلاقل، وتوفير الغطاء السياسى لأعمال العنف والتخريب والحرائق وقطع الطرق والجسور والأنفاق واقتحام مؤسسات الدولة وتعطيل مصالح الشعب، تحت ستار المظاهرات والإضرابات والاعتصامات والعصيان المدنى، وكل ذلك يحظى بدعاية إعلامية سوداء تشيطن الرئيس والحكومة وتخلط الحق بالباطل. وإذا كانت هذه الأجواء، كما أسلفنا، قد تبدو طبيعية فى أعقاب الثورات، إلا أن غير الطبيعى ألا تتم مواجهتها بما يتناسب مع خطورتها على مكتسبات الثورة وطموحات الشعب، ولا سيما إذا كانت هناك مؤشرات مؤكدة على أن ثمة أياد خارجية وأجهزة مخابرات دولية تعبث فى البلاد، وتستخدم عناصر داخلية بشكل مباشر أو غير مباشر، وهؤلاء وأولئك لم ييأسوا بعد، ولا تزال الأحلام الآثمة تراودهم والتى تختلف مراميها نظرا لاختلاف الحالمين بها ما بين ليبراليين ويساريين وناصريين وشيوعيين وفلول، إلا أنها تجتمع على حلم خبيث واحد هو إسقاط الرئيس المنتخب وإنهاء الخيار الديمقراطى، ولو عبر دعوة المؤسسة العسكرية إلى التدخل، رغم أنهم من ملأوا الدنيا ضجيجا وعويلا منذ شهور قليلة ضد تلك المؤسسة وشيطنوا حينها أيضا "حكم العسكر"! وإزاء هذه الفتن والمحن التى تعصف بالوطن، وتجاوز الكثيرين للخطوط الحمراء، وخطورة ذلك على أمن البلاد والعباد، ومع إدراك عبء المسئولية الجسيم الملقى على عاتق رئيس الجمهورية، وحجم الكيد والتآمر الذى يحيط به من كل صوب، إلا أنه يبقى المسئول الأول بحكم وضعه الدستورى رئيسا للدولة عن معالجة هذه الأوضاع، وعلى مدى الشهور الثمانية الماضية كان نهج الرئيس والحكومة فى التعامل مع كل صور الخروج على الشرعية بالحسم حينا وبالمرونة أحيانا، ويبدو واضحا اتساع دائرة إساءة الأدب السياسى والانفلات الأمنى، وأصبحنا فى مرحلة وصفها الرئيس بأننا نسير فيها على "الحافة"، وهذه الحافة تقتضى التعامل معها بما يلائمها من أساليب الحذر والحسم معا. والرئيس بين خيارين لا ثالث لهما: إما مواجهة أى تهديد للوطن بقوة وحسم فى ظل دولة القانون، والتعامل بمنتهى الحزم مع من يروعون الناس ويقطعون الطرق ويقذفون الآمنين بالحجارة، ومن يعتدون على أمان المواطنين وأرواحهم ومنشآت الدولة والممتلكات العامة والخاصة، ومواجهة كل أشكال البلطجة، وأنه لا مجال للتردد فى ذلك، ليعلم الجميع أن الدولة فى مصر قادرة على حماية الوطن وأبنائه ومؤسساته جميعها، وفقا لتصريحات الرئيس نفسه، وذلك يقتضى أن تستخدم الدولة ذراعها الأمنية لبسط الأمن فى البلاد، من خلال مؤسساتها الأمنية ممثلة فى قوات الأمن وجهاز الأمن الوطنى والمخابرات العامة، وأن تفرض الاحترام للقانون من خلال ذراعها الأخرى النيابة العامة عبر تقديم كل من يسهم فى إشعال الحرائق السياسية التى تقود بدورها لإشعال الوطن بأسره، بالتحريض أو المشاركة، لمحاكمات عادلة وناجزة. وسبق أن ذكرت فى مقال سابق أن هناك تراخيا وضعفا فادحا يصل لحد الاستكانة فى قيام الأمن والنيابة العامة بدورهما، فوزير الداخلية وقواته، والنائب العام وأعضاء نيابته، يستخدمون قفازات من حرير فى منازل قبضات إجرامية قاسية من حديد، وإذا كان الأمر على هذا النحو متعمدا ومدبرا من تلك الأجهزة أو من فاعلين وضالعين فيها، يتجاهلون بسط احترام أجهزة الدولة على كل كائن فيها، فينبغى على الرئيس أن يخرج إلى الشعب ليصارحه بمعاناته مع تلك التركة الثقيلة من مؤامرات الفلول فى أجهزة الدولة العميقة، وحتما سيجد كل دعم من الشعب الذى انتخبه فى أى إجراء قانونى أو استثنائى يقدم عليه تكون غايته فرض احترام الشرعية الديمقراطية على الجميع. أما الخيار الثانى، البديل عن الحسم والحزم الكامل، فى حالة رأى الرئيس عدم ملاءمته، فهو إبداء المرونة الكاملة مع مطالب المعارضة، حتى وإن رأى فيها مبالغة وشططا، من خلال الاستجابة لكل ما تطلبه بشأن تغيير الحكومة وتعديل قانون الانتخابات وتغيير النائب العام والقبول بالمراقبة الدولية للانتخابات، وقد صرح د.محمد سعد الكتاتنى -رئيس حزب الحرية والعدالة- أثناء زيارته لطوكيو ولقائه رئيس البرلمان اليابانى، بأن الحزب لديه المرونة اللازمة لتقديم تنازلات تسمح بالتوصل لحلول وسط ترضى كل الأطراف السياسية لضمان مشاركتها فى انتخابات مجلس النواب، بعد ذلك مقدمة أساسية لتحقيق الاستقرار السياسى والأمنى والاقتصادى. وهذه المطالب رغم تجاوزها للسلطات المشروعة لرئيس الجمهورية، إلا أنها مجرد شماعة إذا أزالها الرئيس ستنكشف المعارضة وتنقسم على نفسها، لأنها تتخذ منها ذريعة للتغطية على فشلها فى الشارع وضعف حضورها الجماهيرى، وإذا استمرت بعض فصائل المعارضة بعد تحقيق مطالبها فى الإثارة والتهييج والفتنة، سيكون حينها الرئيس فى حل تماما من اللجوء للخيار الأول. إما الحسم والحزم الكامل فى إطار القانون، وبالتوازى مع قدر من المواءمات السياسية، وإما المرونة الكاملة مع مطالب المعارضة، مع قدر من الحسم والحزم، والمنطقة الرمادية بين هذين الخيارين تقود البلاد إلى المجهول.