الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه، ومن والاه، وبعد. فإن حُبَّ الوطن غريزةٌ وفطرةٌ فُطِر الإنسان عليها، بل فُطِرت عليها كل الكائنات. ألست ترى الطيور تهاجر وتسافر آلاف الأميال، ثم تعود إلى مواطنها الأصلية بعد زوال الظروف القاهرة من قسوة الطقس أو شدة المناخ؟. كذلك كل إنسان يولد بمكان يحِنُّ إلى موطنه الأول، ويتمنى أن يعود إليه، ومهما تباعدت المسافات أو اشتدت الظروف الدافعة للهجرة فإن الحنين إلى الوطن يدفع الإنسان إلى العودة ولو كان ذلك فى آخر حياته ونهاية عمره. هذه الفطرة الإنسانية لا ينكرها الإسلام، بل يرعاها ويشجعها، إلا إذا تعارضت مع واجبات الجهاد لنصرة الحق والسعى فى إصلاح الأرض ومقاومة الظلم ونصرة المظلوم، حينئذٍ يعتبر التغلب على الحنين الفطرى نوعًا من الجهاد والتضحية يُثاب عليها الإنسان بحسب ما يكابده من مشقة. ولقد ضرب لنا الحبيب محمدٌ صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة وأصدقها فى حب الوطن والولاء له والحنين إليه، حينما خرج مهاجرًا من "مكة" بعد ما ضاقت به سبل الدعوة فى ربوعها، فالتفت إليها قائلًا: "والله إنك لأحبُّ أرض الله إلى الله وأحب أرض الله إلىَّ، ولولا أن أهلك أخرجونى منك ما خرجت". ولقد نزل قول الله تعالى عليه: {إنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إلَى مَعَادٍ} [القصص: 85]، مخففًا للآلام ومداويًا لهذا الحنين العظيم. وكذلك كان أصحاب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم (بلال) رضى الله عنه الذى تحمَّل من الأذى فى مكة ما لا يتحمله بشر، ينشد شعرًا فى الحنين إلى مكة: أَلَا لَيْتَ شِعْرِى هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً بوادٍ وَحَوْلِى إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ وَهَلْ أرِدَنَّ يومًا مِياهَ مَجِنَّةٍ وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِى شَامَةٌ وَطَفِيلُ وإذْخرٌ وجليلٌ وشامةٌ وطفيل أسماء لجبال مكة المطلة عليها. وحين سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف مكة من الصحابى الجليل (أَصِيلُ) دمعت عيناه الشريفتان وقال: "يا أصيل دع القلوب تقرّ". هكذا كان حب الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم وحب صحابته الأطهار لوطنهم الأول (مكة)، رغم ما لاقوه من حفاوةٍ وحسن ضيافة فى مهجرهم الجديد بالمدينة المنورة. لا إنسان سوىّ إلا يحب بلده ويحنّ إليه ويحرص عليه ويبذل روحه وماله للدفاع عنه، ويعمل جهده لرفعته وعزته ونصره وغناه. وحينما يرتبط حب الوطن برباط العقيدة، يتعاظم هذا الشعور، وحينما يعرف (المواطن) أن الدفاع عن أرضه قُربى إلى الله تعالى فلن يفرط فيه أبدًا ولن تضعف مقاومته لأعداء الوطن؛ لأنه يعلم أن "من مات دون ماله فهو شهيد، ومن مات دون عرضه فهو شهيد"و"من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا فهو فى سبيل الله". وحينما تكون الوطنية لله يتسع نطاقها ليشمل كل ديار المسلمين فتصبح نصرتهم واجبة وإغاثتهم فرضًا. فَحَيْثُمَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ فِى بَلَدٍ عَدَدْتُّ أَرْضَهُ مِنْ لُبِّ أَوْطَانِى بل إن حبَّ الوطن يتسع ويتسع حتى يشمل الإنسانية جمعاء، {ومَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ والْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ والنِّسَاءِ والْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ القَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا واجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ ولِيًّا واجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا} [النساء: 75]. حينما ترتبط الوطنية بالعقيدة تنتج مثالًا للفدائية والبسالة لا يقف أمامها كيد الأعداء ولا تثبيط المثبِّطين القاعدين المتخاذلين، وقد انطلقت كل حركات التحرر من الاستعمار فى بلادنا من منطلق إيمانى بحت، حتى إذا تم التحرر ببسالة المجاهدين ودماء الشهداء، رأينا فى بعض البلدان أن ثمار الجهاد سُرِقت بواسطة العملاء المغرضين الذين لا يؤمنون بيوم الحساب والذين تربَّوا على موائد المادية والإلحاد؛ ليكونوا البديل الذى يضمن استمرار النفوذ الأجنبى بعد زوال الاحتلال العسكرى، وهذه كانت خطة المستعمر فى أغلب البلدان بعد الجلاء العسكرى باحتلال آخر يؤدى إلى النتائج نفسها. لقد قاتل الإخوان المسلمون اليهود فى فلسطين، وقاتلوا الإنجليز على ضفاف القناة، وقاتل (عمر المختار) الاحتلال الإيطالى بليبيا، وقاتل ابن باديس الاحتلال الفرنسى فى الجزائر، وقاتل المهدى الإنجليز فى السودان. كل حركات التحرر الوطنى كانت من منطلق إيمانى بحت، حَبَّب للمجاهدين الجهاد والشهادة فى سبيل الله رفعةً للوطن وتحريرًا لأرضه. وأبدًا لم يقاتل المجاهدون أبناء أوطانهم، حتى الحكام الظلمة قاوموهم بكلمة الحق التى كلَّفتهم كثيرا من التضحيات فى الأرواح والأموال والحريات، وما دفعهم ذلك للانتقام تأسيًا برسول الله صلى الله عليه وسلم الذى لقى من قومه كل أنواع الأذى والعذاب، ومع هذا كان يدعو دائمًا: "اللهمَّ اهْدِ قومى فإنهم لا يعلمون"، وحينما جاءه ملك الجبال إثر عودته من الطائف وقد لقى منهم ما لقى يستأذن أن يُطبِق على أهل مكة الأخشبين قال: "لا. عسى الله أن يخرج من أصلابهم من يشهد أن لا إله إلا الله"، وقد استجاب الله تعالى دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم. فهدى له قومه بعد حين، وفتحت (مكة) بالحبِّ والعفو والمرحمة، وأخرج الله (عكرمة) من صُلْب (أبى جهل)، و(خالد) من صُلْب (الوليد من المغيرة)، وعادت مكة إلى رحاب التوحيد لتكون قِبْلةً للعالمين، ومهوًى لأفئدةِ المؤمنين إلى يوم الدين. من يُحبّ وطنه حقيقةً لا يَحْرِق ولا يَقْتُل ولا يُدَمِّر، بل يحافظ على الوطن بكل ما أوتى من قوة، ولا يمكن أن تمتد يده بأذًى حتى للمخالفين فى الرأى أو المتطاولين بالعدوان {لَئِن بَسَطتَ إلَى يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِى إلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إنِّى أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ العَالَمِينَ} [المائدة : 28]، وها نحن صابرون بحمد الله على كل ما لقيناه من ظلم وسجن وتعذيب وقتل، ومضى منا شهداء كثر إلى ربهم فى كل العصور السابقة، ولم نحاول الثأر ممن قتلوهم إيمانا منا أن الظالم والمظلوم بين يدى ربهم وعنده ستُنْصَب محكمة العدل الإلهية، ويقضى ربنا عز وجل بين الجميع بحكمه وهو أعدل العادلين. خوفنا من الله سبحانه يدفعنا ألا نردّ العدوان بالعدوان، بل نصبر ونحتسب ونقول مع الرسول صلى الله عليه وسلم: "اللهمَّ اهْدِ قومى فإنهم لا يعلمون"؛ لأن كثيرًا من المعارضين ضلَّلهم الإعلام المغرض، أو اشترى بعضَهم واستغل حاجتهم أصحاب المصالح من فلول النظام السابق الظالم، وهناك قِلَّة من الذين باعوا ضمائرهم، وخانوا أوطانهم واستقووا بأعداء الخارج على صالح أمتهم، فهؤلاء نكشف حقيقتهم ونقاوم ألاعيبهم، ومع هذا فحتى هؤلاء أمرنا الله تعالى ألا نُسِىء إليهم، بل نستجيب لأمر الله فيهم {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وعِظْهُمْ وقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء: 63]، ونستهدى بأقوال العلماء الثقات: (جهاد الكفار بالسيف والسنان، وجهاد المنافقين بالحُجَّة والبَيان). ولن نفقد الأمل ولن نيئس من رحمة الله عز وجل وسنعمل ليل نهار، مضحين بأرواحنا وأموالنا وأوقاتنا وراحتنا حبًّا لأوطاننا وحرصًا على شعبنا، رافعين شعار (سِلْميَّة. سِلْميَّة. سِلْميَّة)، مرددين قرآن ربنا عز وجل {إنْ أُرِيدُ إلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ومَا تَوْفِيقِى إلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وإلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]، وقد علَّمنا الإمام الشهيد حسَن البنَّا أن نقول كما قال فى مثل ظروفنا: "ونُحبُّ أن يعلمَ قومنا أنهم أحبُّ إلينا من أنفسنا، وأنه حبيبٌ إلى هذه النفوس أن تذهب فداءً لعزتهم إن كان فيها الفداء، وأن تزهق ثمنًا لمجدهم وكرامتهم ودينهم وآمالهم إن كان فيها الغناء. وما أوقفنا هذا الموقف منهم إلا هذه العاطفة التى استبدت بقلوبنا، وملكت مشاعرنا، فأقَضَّتْ مضاجعنا وأسالت مدامعنا. وإنه لعزيزٌ علينا جدُّ عزيز أن نرى ما يحيط بقومنا، ثم نستسلم للذلِّ أو نرضى بالهوان أو نستكين لليأس، فنحن نعمل للناس فى سبيل الله أكثر مما نعمل لأنفسنا، فنحن لكم لا لغيركم أيها الأحباب، ولن نكون عليكم يومًا من الأيام". حفظ الله بلادنا وأوطاننا وشعوبنا، ورحم شُهداءنا وشفى مُصابينا، وأوصلنا إلى برِّ الأمان. اللهم آمين. {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وأُفَوِّضُ أَمْرِى إلَى اللَّهِ إنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ العَذَابِ} [غافر: 44-45].