(آفة حارتنا النسيان)، عندما كتبها نجيب محفوظ فى روايته الرائعة «أولاد حارتنا» كان يقصد بها البشرية وأن الإنسان ينسى فيضل الطريق، ولكن يبدو أن المصريين تفوقوا على البشرية فكان اختيارهم الجلوس فوق صخرة النسيان ليصبح نسيانهم آفة مزمنة على مدار التاريخ الطويل ولتصبح ذاكرتهم مصنوعة وفقاً للهوى. نحن ننسى الإساءة كما ننسى الأعمال الطيبة، نحن ننسى الخطر بعد لحظة من إشاحة وجهه عنا، وننسى ما هو مطلوب منا لتسقط من الذاكرة اليقظة التى يجب أن نبقيها متوهجة فتأتى عليها ريح النسيان فتطفئها. ننسى حتى مشاعر التعاطف الذى نبديه تجاه موقف أو حالة أو سخط، وكأننا نمتلك ذاكرة مضادة للذاكرة. نبدو جميعاً وكأننا شعب اللحظة، فى لحظة ما يجمعنا الحماس والتحدى ونصل إلى أعلى درجة، وفى لحظة تالية ننسى أو نفعل عكس ما فعلنا، فربما يكون ذلك سبباً غير مباشر لفكرة لماذا لم نبنِ على شىء بدأنا فيه؟ الأمثلة فى التاريخ أكبر من أن تحصى أو تعد، أشهرها أننا بدأنا مع الصين وكوريا فأين نحن وأين هم؟ وأشهرها أيضاً أننا بلد الثروات البشرية ونحن الأكثر إهداراً لها، نحن نهدر أشهراً وأعواماً وبشراً ساهموا فى بناء دول شقيقة بشراً وحجراً فى التعليم والمبانى والطرق وأشياء أخرى كثيرة. والوطن الذى أنجب هؤلاء البشر هو نفسه الذى تأخر كثيراً عن دول عربية بناها، فالتأخر ليس بسبب فقر مالى قدر ما هو تخلف حضارى ناتج عن إهدار الثروة البشرية التى أُهدرت مع إهدار قيمة التعليم والأخلاق وقيمة العمل واستبدالها بقيم أخرى مدمرة. نحن تحولنا إلى شعب يعيش يوماً بيوم، يتذكر يوماً وينسى يوماً، لو طبقنا ذلك على أحدث ما تعرضنا له نستطيع قياس الشعور العام للناس فى حالات الغضب واليقظة بعد كل عملية إرهابية مجرمة، ثم نعود إلى حالة الغفوة والاستكانة والإهمال التى تدعم هذه العمليات فى حالة تكرار وتجدد واشتعال. نحن شعب ذاق الخيانة والفشل والإرهاب فى عام أسود حكمته فيه جماعة إجرامية، ثم احتشد وثار ولفظ هذا الحكم وهذا (الحمل) الذى نبت خارج رحم الوطن لإسقاطه. هذا الشعب الذى صنع معجزة كان منطقياً أن يفعل المستحيل حتى يبنى هذا البلد الذى تم تخريبه حتى يكون متشابهاً ومتسقاً مع اللحظة التاريخية التى حدثت فى 30 يونيو - 3 يوليو، وهذا الاتساق كان يعنى أن تكون الخطوة المقبلة هى البناء والبناء الصحيح، ولكننا اعتبرنا أن المهمة قد انتهت وقُضى الأمر بإسقاط هذه الجماعة وتركنا الأمر لأولى الأمر وانتظرنا منهم المعجزات لإيجاد حياة كريمة ولنهضة المجتمع وبنائه وكأن المصرى يفضل أن يترك للحياة مهمة تدبير أمره ولا يرى أبعد من يومه. لو قسنا هذه الحالة فى مثل بسيط مثل أحوال الفرق المصرية والمنتخب الوطنى فسنجد نفس الخيبات نتحمس ونتيقظ ونحتشد فى لحظة حماسية ثم نعود إلى سيرتنا الأولى. حتى الأمور الصغيرة جداً تؤكد أننا جميعاً أعضاء حزب النسيان، فعندما تنطلق شائعة أو معلومة مفبركة أو لقطة يتم استخدامها بشكل إجرامى بعيداً عن الحقيقة نجد أن غالبية الناس قابلة للتصديق لأنها تنسى أبسط البديهيات، وأحدث نموذج على ذلك ما تم بثه من مقطع للميس الحديدى من إحدى حلقات لبرنامجها وقت وجود «مرسى» وتم استخدامه على أنها تتحدث عن الرئيس السيسى أثناء زيارته الأخيرة قبل أيام لجيشنا فى سيناء. المصيبة أن أغلبية الناس تداولت هذا الفيديو وكأنه حقيقة وصدقت وبدأت بصب لعناتها على «لميس»، أما البعض الآخر فقد استغل هذا الفيديو للهجوم على «السيسى» وكأننا نصدق طريقتهم فى صنع الأكاذيب ذاتها رغم أنها تحدث بطريقة أقل ذكاءً كل مرة. الغريب أن النخبة ومن يتكلم عبر الشاشات والصحف يعتبر أن الشعب المصرى يمتلك مخزوناً هائلاً من التحدى يظهر وقت الغضب والخطر فيصنع معجزات على اعتبار أن هذه ميزة أساسية وعظمى وليس باعتبارها عيباً وعبئاً ثقيلاً؛ لأنها لا تظهر إلا فى لحظات ثم تختفى. لقد تحول تاريخنا إلى مجموعة من اللحظات لا يوجد ما قبلها أو ما بعدها، لحظات ومعجزات نصنعها وتضىء ثم لا شىء، فثورة 19 لحظة، وثورة 52 لحظة، و25 يناير و30 يونيو و3 يوليو لحظات فى تاريخنا، لحظات متقطعة من التاريخ ومتقاطعة مع البناء وما عداها حال يسر كل عدو وكأننا فى لحظات المعجزات نقوم بعقد القرآن على النجاح مع سبق الإصرار والتحدى، ثم نتخلى عنه ونطلقه وكأننا لا نحتمل أن يكون النجاح هو شريك الحياة الدائم. لعنة الله على النسيان.