يحكى أن هارون الرشيد.. الخليفة الذى بلغ من البذخ والترف ما تحدث عنه التاريخ طويلاً.. قد أرسل يوماً إلى الإمام مالك بن أنس رضى الله عنه وعن أبيه، يطلبه ليستفتيه فى بعض الشئون.. الطريف أن الإمام مالك قد رد رسوله وقال له قل لأمير المؤمنين إن العلم يؤتى إليه ولا يذهب إلى أحد.. فى زمن آخر ومع حاكم آخر.. كان المنطقى أن يغضب الخليفة على هذا الإمام الذى رفض أن يأتى إليه.. وربما جعله غضبه أن يتخذ قرارات ضده.. سيجد من يناصره فيها.. فهو خليفة المسلمين فى الأرض.. فكيف يرفض أن يذهب إليه رجل دين؟!! الطريف أن هارون الرشيد لم يغضب.. وإنما أرسل يطلب ميعاداً للذهاب إلى الإمام مالك.. فما كان من الأخير إلا أن أخبر رسوله أن درس علمه فى الروضة الشريفة بعد صلاة العصر.. وشدد على الرسول أن يبلغ الخليفة أن يأتى مبكراً!! لأنه إن تأخر وجاء يتخطى الرقاب ليجلس فى مقدمة الصفوف فسوف يحرجه أمام الناس. ذهب أمير المؤمنين قبيل صلاة العصر ظناً منه أن هذا هو (التبكير) فوجد الصفوف قد اصطفت منذ صلاة الظهر فما كان منه إلا أن جلس فى مؤخرة الصفوف، فلما حضر الإمام مالك للدرس وجد أنه لن يستطيع أن يرى وجه الإمام من موقعه.. ولأنه يعلم أن النظر إلى وجه الإمام عبادة.. فطلب كرسياً يجلس عليه ليرى من فوق الصفوف.. بدأ «مالك» حديثه بسؤال «إلامَ وصلنا فى درسنا الأخير؟» فأجابوه: إلى فقه نواقض الوضوء.. قال مالك: «إذن فلينتظر الفقه إلى الدرس المقبل.. سأحدثكم اليوم عن الولاية». كانت الرسالة واضحة إلى الخليفة.. وفهمها هارون سريعاً.. فابتسم وترك كرسيه وجلس وسط الناس يستمع إلى الدرس. لم يخش الإمام مالك أن يطلب من الخليفة أن يأتى إليه لطلب العلم.. ولم يخجل الخليفة أن يجلس وسط العامة.. فكلاهما.. الحاكم والمحكوم.. خضعا لقيمة العلم وآداب تلقيه.. لقد لقن الإمام مالك للخليفة درساً مفاده أنه فى حضرة العلم.. لا مجال لسلطة أو سلطان.. والراغب فى العلم كالراغب فى رضا الله.. كلاهما يصطف مساوياً لغيره.. وكلاهما يلتزم بآداب التلقى والعبادة. لقد كان الدرس قاسياً من الإمام مالك.. ولكن طاعة هارون الرشيد كانت أقسى على كل من جاء بعده من الحكام!!.. فهكذا كانوا.. رعية وحكاماً!! وللحديث بقية إن شاء الله!