فى نظام كهذا، يديره مجموعة من الهواة، ممن لا يملكون مهارات سوى «رمى البلاء»، يصبح تكدير السلم العام لا مؤاخذة «واجباً قومياً». ولمزيد من التوضيح، فالنظام هنا المقصود به النظام الأمنى الذى تتبعه وتشرف عليه وزارة الداخلية، والمقصود من المهارات هنا هو أدنى مهارة فى تحقيق الأمن لدى جهاز يعد الأمن هو مهمته الوحيدة، ورمى البلاء هنا هو وسيلة تشبه إلى حد كبير أقدم مهنة فى التاريخ، سواء فى عراقتها أو قذارتها، أما تكدير السلم العام فللحق وحتى كتابة هذه السطور لا أعرف له تعريفاً لغوياً أو اصطلاحياً، وللحق أيضاً لا يعلم أصحاب الاتهام معناه الحقيقى على وجه الدقة. كل ما سبق تمهيد لا بد منه.. لم يأت بنية التعاطف مع زملاء «اليوم السابع»، لأن الواقعة والاتهام ليس بجديد، وسبق أن خاضته الزميلة «المصرى اليوم» قبل شهور بسبب ملفها المميز «ثقوب فى البدلة الميرى»، ولا أملك موقفاً عدائياً من الداخلية بكل أجهزتها، على العكس تماماً، كل كوارثى التى وقعت فيها خلصنى منها اتصال بأحد «حبايبنا» فى الشرطة، وكل خدماتى من رخصة قيادة إلى بطاقة رقم قومى إلى جواز سفر تمت بكارت توصية أو اتصال من ملوك الحوادث، وحتى على المستوى العام، أعلم تمام العلم كم الجهد المبذول فى محاولة استعادة الأمن، وكم الدماء التى تُبذل من أجل الهدف المقدس، وهو دحر الإرهاب وحصار الإخوان، وحجم المعاناة المبذولة فى محاولة إظهار الداخلية بأجهزتها ورجالها على غير حقيقتها، أو بمسمى آخر تحسين الصورة والعلاقة، وهو ما لم يبدأ بواقعة «النرش» وما لن ينتهى بها أيضاً. رغم كل هذا، يبقى العيب الخطير جاثماً على قلب الجهاز، محركاً لكل أعضائه، ومسيطراً عليهم، وموجهاً لسياساتهم، فقد بنى العاملون على تحسين العلاقة بين الشرطى والمواطن «غباءهم» بأنفسهم، واستطاعوا تحسين الصورة لكن بتلوثها فى آن واحد، ويكفى رشة الملح التى يلقونها على كل فعل، فلا يشعر المواطن بمذاقه، وحتى إن طال منه طعم، فإنه ضار بالصحة وقد يؤدى إلى الوفاة. لا تحتاج الشرطة فى مصر، والتى لم يزد دورها يوماً عن «مرسى الزناتى» صاحب العضلات، سوى أن يكون فى ظلها وظهرها من يفكر لها، على غرار «بهجت الأباصيرى» المخ الذى يخطط ويترك للعضلات التنفيذ، لذا يبدو دوماً تخطيط الداخلية لاستهداف الصحفيين تحركاً من «الزناتى» دون تخطيط من «الأباصيرى»، مجرد قرصة ودن لا تتم بحرفية ولا مهارة، ولا تثبت على الصحفى تهمة، قدر ما تثبت على الداخلية سمعة التلفيق والملاحقة. ولأن الوزارة بضباطها ولواءاتها وعمدائها ومساعدى وزيرها وأمناء شرطتها ومجنديها، كلهم فُطروا على الطاعة، لا شىء سوى الطاعة، فإن التجويد لن يعرف طريقه إليهم، طالما أن عقلهم المدبر ومخططهم الأول مجرد لواء سبقهم أكاديمياً وتراتبياً إلى مقعد الوزير، وطالما ظلت العضلات هى المهارة الأولى لدى هؤلاء القائمين على الأمن فى مصر. وللعلم عزيزى الوزير، الصحفى والمحامى والطبيب وأستاذ الجامعة، وغيرهم كثيرون، ليست فئات مستثناة من الخضوع لسلطتكم، لكنها فئات تضم بينها من يملك مهارة التفكير، من احتفظ بمخه ولم يتنازل يوماً عنه، من قرر أن يصمد فى وجه كل ظلم حتى لو كان ممنهجاً، ومن قرر أن يكون نغمة شاذة فى مقطوعة موسيقية هى غير متجانسة من الأساس، هذه النماذج هى التى تؤرق مضاجعكم، وتجعل من «تكدير السلم العام» أسهل قرصة ودن وأكثرها دلالة على الظلم. اليوم فقط أصبح بمقدورى، وغيرى كثيرون، تكدير السلم العام، الذى طالما كدرنا فى محاولة الحفاظ عليه، والذى دوماً يخرج عن السيطرة، ودوماً يتسبب خروجه فى أزمات لا حصر لها.. الآن فقط أدركت كم أن هذا السلم العام مجرد فزاعة، وأن تكديره أسهل إلينا من حبل الوريد، وأدركت أيضاً أن الحال المائل للوسط الصحفى لن ينعدل، وأن المهنة إلى زوال، طالما بقى فيها صحفى الفرقعة والأخبار المضروبة والادعاءات والبطولات الوهمية، وطالما بقيت الداخلية على علّتها، علة «مرسى الزناتى».