أوصياء الدين الذين يقدمون أنفسهم إلى الناس على أنهم وكلاء الله فى الأرض، وأنهم المحتكرون لبيان مراد الله من الناس، وأنهم المعتمدون فى تفسير النصوص المقدسة هم نسخة مقلدة غير أصلية من أوصياء الدين فى الجاهلية قبل الإسلام الخاتم، ولا تعرف لهم بداية إلا أن المنطق يتصور ظهورهم تدريجياً، فإن الإسلام الذى جاء به أبوالأنبياء إبراهيم الخليل لا يعرف الشرك ولا الكهنوت كما قال تعالى: «إِنِّى وَجَّهْتُ وَجْهِى لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (الأنعام: 79)، وأنجب إبراهيم الخليل من والدتين كريمتين ابنين نبيين جعل الله منهما دعماً لرسالة التوحيد فى جناحى الأرض، جناح المشرق بمكةالمكرمة والحجاز الذى كان من نصيب إسماعيل الصديق، وجناح المغرب بالشام ومصر الذى كان من نصيب إسحاق وابنه يعقوب الصالحين، وبدأت ظاهرة الوصاية الدينية أولاً فى الجانب الغربى بحسب سياسة الاستخفاف التى تدرج بها فرعون لينقل نفسه من واحد من الأسرة الحاكمة إلى المرجعية الدينية ثم إلى الألوهية فيما يحكيه القرآن الكريم فى قوله سبحانه: «فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ» (الزخرف: 54)، ومن هنا تظهر الحكمة من ابتعاث الله تعالى لسيدنا موسى عليه السلام من نسل إسحاق ويعقوب برسالة سماوية لتصحيح التدين على ملة الإسلام التى جاء بها أبوالأنبياء إبراهيم الخليل، والتى تدعو الناس إلى الصلة بالله دون واسطة بهدى التوراة ونورها، كما قال سبحانه: «إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ» (المائدة: 44)، ثم بالرسالة التدعيمية التى جاء بها عيسى عليه السلام، ليستنير الناس بهدى الإنجيل ونوره كما قال سبحانه: «وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ» (المائدة: 46). وكان المصريون هم أول من استجاب لنداء السماء بخلع النظام الكهنوتى الذى ابتدعه فرعون عندما قال: «مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ» (غافر: 29)، وذلك بعد أن عرفوا طريق الله المستقيم من غير واسطة، كما يقول سبحانه: «فألقى السحرة سجداً قالوا آمنا برب هارون وموسى» (طه: 70)، فاتهمهم فرعون بالانقلابيين كما يقول سبحانه: «قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ» (طه: 71)، وتوعدهم بقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وصلبهم فى جذوع النخل إن لم يعودوا إلى حظيرة كهنوته، فاختاروا ما عند الله، وأنه لا عود إلى الوصاية الدينية فقالوا: «لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِى فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِى هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى» (طه: 73 - 74). أما فى الجانب الشرقى الذى كان من نصيب إسماعيل عليه السلام فى مكة والحجاز فلم يعرف الوصاية الدينية إلا مؤخراً عندما بدأ ضعاف النفوس انتهاز طيبة وفود الحجاج لبيت الله الحرام وإيهامهم بأنهم أدلتهم إلى الله، ثم تدرجوا إلى مرتبة الوساطة بين الحجاج وبين رب البيت فى مقابل المال الذى يعطى لهم فى صورة تبرعات أو هبات أو صدقات أو نذور أو أوقاف. ولعل تأخر ظهور الوصاية الدينية فى الجانب الشرقى بمكة والحجاز عن ظهورها فى الجانب الغربى بالشام ومصر يفسر الحكمة من أسبقية رسالة موسى عليه السلام الذى هو من نسل إسحاق عليه السلام، لإخماد الوصاية الدينية التى ظهرت مبكراً فى الغرب، وتأخر رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذى هو من نسل إسماعيل عليه السلام لإخماد الوصاية الدينية التى ظهرت مؤخراً فى الشرق. وإذا كان المصريون قد حسموا أمرهم بالانقلاب الشريف على الوصاية الدينية التى تزعمها فرعون بمجرد ظهور آيات الله لهم على يد سيدنا موسى إلا أن أهل مكة عجزوا عن الانقلاب على الوصاية الدينية التى تزعمها كفار قريش بعد أن ظهرت لهم آيات الله على يد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، بل تركوهم يكيدون له المكائد، وكان من أشدها اجتماعهم فى دار الندوة التى جعلوا منها نصرة لوصايتهم الدينية وخاتمة لوجوده صلى الله عليه وسلم بمكة إما نفياً وإما قتلاً، وإن استقر رأيهم على الثانية، فكانت هجرة النبى صلى الله عليه وسلم إلى المدينةالمنورة تاركاً لهم مكة على أمل العود لها حين تطهر من الشرك بالوصاية الدينية، بحسب وعد الله الذى أوفاه كما قال سبحانه: «إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ» (القصص: 85). وبهذا خلص الشرق والغرب من الوصاية الدينية برسالتى السماء إلى بنى إسرائيل على يد موسى ثم عيسى عليهما السلام، وإلى العرب والناس كافة على يد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وتقوم محاولات شيطانية يائسة بين الحين والآخر للدفع بضعاف النفوس من الانتهازيين والسلطويين لإعادة الوصاية الدينية مجدداً حتى كان آخرها ما يعد نسخة كربونية من دار الندوة لتمكين الوصاية الدينية فيما سموه «بيان علماء الأمة» فى نداء الكنانة الصادر يوم الأربعاء التاسع من شعبان 1436ه، السابع والعشرين من مايو 2015م والمذيل بمسلسل يحتوى على مائة وتسعة وخمسين اسماً منهم مصريون وكثير منهم أشتات، وصفوا أنفسهم بعلماء الأمة، وأكثرهم لا صلة له بعلوم الشريعة فمنهم الفاشل فى التعليم لم يكمل دراسته الجامعية ولقب نفسه بالشيخ أو بالدكتور، ومنهم الفاشل فى مهنته التى تخصص فيها كالطب والهندسة والتجارة والزراعة وغيرها فقدم نفسه بلقب الشيخ ليغرر العامة بوصايته الدينية بدلاً أن يقدم نفسه بحقيقة تخصصه العلمى كالطبيب والمهندس والمحاسب، وبعضهم منتسب إلى الأزهر بعد أن انتكس على منهجه العلمى الذى يرى الناس أسياداً على أنفسهم فى اختيار الدين؛ ليتولى هو وعصابته السيادة عليهم فى دين الله. وإذا تجاوزنا عورات أوضاع الأحوال الشخصية لأصحاب بيان الكنانة سيئ السمعة فلا نستطيع تجاوز افترائهم على الله وخداعهم للناس عندما قدموا أنفسهم على أنهم علماء الأمة وكأنهم يخاطبون أهل القرن الرابع الهجرى، ولم يدركوا بعد أننا فى القرن الخامس عشر الهجرى الذى لا يعترف أهله بالعالم الممارس العام وإنما يجلون العالم المتخصص فى أحد العلوم الدينية أو الحياتية كالفقيه أو المفسر أو المحدث أو المؤرخ أو الكيميائى إلخ. إن أوصياء الدين يظنون بوصفهم لأنفسهم «علماء الأمة» أنهم قد صاروا أولياء أمور الناس، وأبواب وصولهم إلى الله، وصدق الله حيث يقول: «يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ» (البقرة: 9)، فالوسطاء يحجبون المريد عن الوصول إلى الله الذى يأبى الشرك ولا يلبى نداء إلا ممن دعاه مباشرة بغير واسطة، كما قال سبحانه: «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى فَإِنِّى قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ» (البقرة: 186). أما مضمون بيان هؤلاء المخادعين فهو مغشوش من مضمون بيان دار الندوة فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم، وهو النصرة للوصاية الدينية والقضاء على صوت سيادة الشعب التى تراها رسالة السماء حقاً مكفولاً كما قال سبحانه: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ» (الإسراء: 70)، وكما ورد فى الحديث الذى أخرجه «ابن عدى» فى «الكامل» بسند حسن عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «كل بنى آدم سيد». ويدرك القارئ لهذا البيان عدم اعتماد أصحابه على مرجعية إلا ما توصلهم إلى أطماعهم، فمع تقديمهم لأنفسهم بعلماء الأمة فى سياق دين الإسلام الخاتم إلا أنهم فى البند الحادى عشر يطالبون غير المسلمين من حكام العالم وأهل العلم والمثقفين والأحرار كافة فى العالم بسرعة السعى لحماية مصر، ثم فى البند الثانى عشر يثمنون مواقف غير المسلمين فى الدول والمنظمات الحقوقية والعلماء والإعلاميين والسياسيين الذين وقفوا فيما يتفق مع أطماعهم، ثم قالوا وسوف يسجل التاريخ لهم ذلك. يجب أن نخاطب المغرورين فى أسماء من وصفوا أنفسهم بعلماء الأمة فى هذا البيان المسىء للدين والقيم لمحاسبتهم كيف تطلبون الاستعانة بغير المسلمين على المسلمين وأنتم الذين أعلنتم تحريم ذلك فى تحرير الكويت من غزو العراق، وكيف تكافئون الشرفاء بسجل التاريخ وأنتم الذين تعدون هذا شركاً بالله على ما تقولون بأن المكافأة لطاعة الله تكون برضا الله سبحانه وليس بسجل التاريخ إلا أنكم مزدوجو الشخصية ولا ملة لكم إلا مكاسبكم المادية والاستيلاء على الحكم. إن بيان من وصفوا أنفسهم بعلماء الأمة يدعو إلى الفتن التى نهى الله عنها، ويحرض المصريين على إعلان الحرب على الله ورسوله بالإفساد فى الأرض، ويشيع الكفر فى البلاد بندائهم بالعصيان المدنى وغيره الذى يسقط الدولة فيكفر الناس بقوله تعالى: «ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ» (يوسف: 99). لم يعد للمؤمنين حق فى الصمت بعد هذا الفجور فى الخصومة، ممن وصفوا أنفسهم افتراءً على الله بعلماء الأمة، مع قوله تعالى: «وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ» (الكهف: 29)، وقوله سبحانه: «وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ» (الطلاق: 2). فقد تحتم على كل مصرى مؤمن بربه أن ينكر على هؤلاء وصفهم لأنفسهم بعلماء الأمة، وأن يعلن رفضه لإشاعة الفتنة والعصيان والحرب الأهلية؛ لقوله تعالى: «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ» (الأنفال: 25).