أفنى حياته وسط صناديق القمامة، لم يعد لديه الوقت ليفكر في حاله، لا يعلم تحديدًا هل يعيش حياة سعيدة أم بائسة، ولا تشغله حياته بقدر ما يشغله مستقبل أطفاله، فالسعادة بالنسبة له يراها في ضحكة من القلب ترتسم على وجوههم، وعلاماتهم في شهاده المدرسة التي ينتظرها، يعيش على أمل يستمده من هذه الورقة، التي تبشره بمستقبل أفضل لأولاده، هكذا تسير حياة محمد فاروق، العامل بهيئة نظافة القاهرة، الذي اقترب من عامه الخمسين. تشتعل الأرض تحت قدمي العامل البسيط، لكنه يظل متمسكا بمكنسته الكبيرة، يجوب الشوارع خلف أكياس القمامة الملقاة، يضنيه التعب فيقف لحظات كي يلتقط نفسه، قبل أن يستأنف عمله، يلقي عليه أحد أصحاب المحلات التحية: "ازيك يا عم محمد وازي العيال"، فيرد بنفس يملؤها الرضا "الحمد لله يا باشا.. ادعيلهم بيمتحنوا". محمد أب لثلاثة أولاد جميعهم في مراحل التعليم المختلفة، يعيش على أمل أن يرى ابنه توفيق "وكيل نيابة"، وأن يصبح نصر "ضابط"، وأن تكمل ندا دراستها الجامعية، لا تشغله تصريحات المسؤولين وأخبار السياسة، لكنه علم من أحد المارة الذي ارتفع صوته معلقا على حوار وزير العدل وهو يشير إليه ويهمس، "ابن ده ذنبه إيه يتحرم من حقه عشان ابوه زبال". كلمات أصابته بالدوار، وجعلته يتجه لأول شخص يمر عليه متسائلا "هو في حد من المسؤولين قال حاجة عن عمال النظافة اليومين دول يا باشا"، فرد عليه قائلًا: "وزير العدل بيقول ان ولاد عمال النظافة مينفعش يكونوا قضاة". "يعني مش هشوف الواد توفيق وكيل نيابة بسبب شغلي، طيب لو سبت الشغل هصرف عليه يكمل تعليمه منين".. بهذه الكلمات تمتم العامل الخمسيني، وهو يمسح دمعة غلبته وشقت طريقها على وجهه الذي ترك الزمن بصماته عليه، قبل أن يكمل حديثه قائلا: "عامل النظافة مش أقل من القاضي، هو بيشتغل وانا كمان بشتغل وبعرق عشان اربي عيالي بالحلال، لو سبت شغلي القاضي مش هيعرف يعيش، الزبالة والمرض هينتشروا، وقتها لا هيكون في عامل ولا مهندس ولا قاضي ولا أي حد، احنا بنربي عيالنا من دمنا ولحمنا عشان يكونوا أحسن مننا، ليه يتحرموا حتي من حقهم في الحلم، لأنهم ولاد ناس من وجهة نظر الوزير زبالين". يواصل محمد: "أينعم احنا ناس غلابة، بس عندنا عزة نفس وبنفكر وبنعرف نربي ولادنا، لا رحت سرقت ولا نصبت، ولو كنت لقيت شغلانة أحسن من كده كنت اشتغلت". "احنا بننضف زبالتكم ومش مكسوفين من شغلتنا، اللي لو سبناها هتموتوا، وابني مش هيستعر من ابوه ولا هقعده من التعليم ويكون مكاني عشان ابنك انت يتعلم ويكون مكانك"، هكذا علق محمد حسين عامل النظافة على تصريحات وزير العدل. لم تشغل كلمات الوزير بدر عويس عامل النظافة، الذي وقف وهو يمسك "كيس" كبير لنقل القمامة قائلا: "إيدي اللي الناس بيشوفوها وسخة، وابني اللي المسؤولين بيبصوله على إنه ابن زبال ملوش حق زي ولادهم، هيكون أحسن منهم، وهعلمه يحب البلد، وهيكبر على إن إيد ابوه شرف ليه، وسلاح يحارب عشان يوصل ويكون وزير".