من فضلك لا تلتفت إلى اللافتة، ولا تخدعنك العناوين، ولا تجهد نفسك وتضيع وقتك فى البحث عن فروق وهمية، فالفروق غير موجودة أصلاً بين داعش والقاعدة والنصرة وأنصار الشريعة والإخوان المسلمين. تعددت «الأسماء» و«الذبح» واحد! إنها عناوين شتى لتيار واحد هو الإسلام السياسى. ربما كان الإخوان -للتاريخ- هم التيار «الأم» الذى أنجب لنا كل «الدواعش»، كبيرها وصغيرها، وهو التيار الذى حسم أخيراً خياره، فقرر أن يقتل أو يذبح أو يحرق، طالما لا يجد طريقاً آخر غير «ولائم الدم» تقترب به من الحكم، ويقدم فيها جماجم ضحاياه وأطرافهم مهراً لعمامة الخلافة! الأخطر أن الدواعش، قرروا إعادة إنتاج العصور الوسطى -فى غير سياقها التاريخى- وأن يحكموا ما تحت أيديهم من أرض وبشر، بقوانينها وأعرافها وتقاليدها وثقافتها وأنماط عقوباتها من رجم وجلد وخصى وذبح وحرق وتقطيع الأطراف وسمل الأعين وتسيير محاكم التفتيش! ومع أن الإسلام السياسى تيار يجدف ضد التاريخ ويعمل عكس قوانينه، إلا أنه تيار محظوظ بخصوم طيبين سادرين فى غفلتهم، يُلدغون من جُحر الإخوان مرتين، وبين المرة والمرة لا يعتبرون ولا يتعظون. من ذا الذى يقطع بأن المذبحة الليبية التى روعت المصريين وعاشوا معها أطول ليلة رعب فى التاريخ هى آخر عهدنا بالموت ذبحاً على يد برابرة العصر وأكلة لحوم البشر؟! لقد بعثت المذبحة المروعة، قبل أن يروى الثأر غليلنا ويشفى صدورنا المجروحة برسالة قوية لكل من يهمه الأمر، رسالة لا ينبغى أن تضل طريقها، وهى أن الحرب ضد الإرهاب ليست فقط خارج حدودنا، ولكنها تحت جلودنا، وأن الدواعش الليبية والسيناوية والعراقية والشامية إن هى فقط إلا الأذرع الإقليمية لداعش المصرية التى تتحرك وتتمدد منذ أربعين سنة، وعششت فى مدارسنا وكراسات تلاميذنا، وطالت أولادنا وسكنت نجوعنا وقرانا وأسطح منازلنا. نجدها فى البراءة المغدورة فى عيون فتياتنا، وفى نعيق البوم الذى يجأر كل جمعة فى مكبرات الصوت، ينشر الكراهية والتعصب، ويجاهد فى خلق بلدين وفسطاطين ودارين؛ دار حرب ودار سلام. أربعون عاماً هى عمر «الدواعش» المصرية التى أحكمت قبضتها على «مناطق محررة» من سلطة الدولة، وأقامت فيها دويلات وإمارات إسلامية مبعثرة فى قرى الصعيد البعيدة، بعضها كان تحت سمع وبصر الدولة التى آثرت يومئذ السلامة، واكتفت بما يتنازل لها عنه «الأمراء» من «فتات» الأمن والإدارة، وفى بعض مناطق الصعيد اقتسم «الأمراء» ورجال الحزب الوطنى مواقع التأثير والنفوذ! تاريخ طويل كنا شهوداً عليه. وكان شاهداً عليه معنا نحن المعارضين لمشروعهم أمراء منهم، صدقت توبتهم فيما بعد، وصاروا مواطنين أسوياء منهم بلدياتى والصديق الودود الدكتور ناجح إبراهيم الذى لا يخامرنى شك فى أن «توبته» نصوح، وأن الله أعز بأوبته أهله ووطنه، وأفاد بشجاعته وقلمه، وكفانا من ناجح أنه كان فى «جاهليته» اسماً يبث الرعب والإرهاب فى القلوب فصار برداً وسلاماً على كل الذين عاشروه أو اختلطوا به أو قرأوا له! لقد دالت هذه الدويلات والإمارات الصغيرة وتنفست الدولة الوطنية الصعداء، لكن ثقافة «داعش» ذاعت وانتشرت ومدت جذورها فى تربة مخصبة بالجهل والخرافة والفقر والبطالة والتعليم الناقص. وبينما اكتفت الدولة باحتكار واجهة حضارية براقة، تركت أفنيتها الخلفية لدويلات داعش غير المعلنة ومؤسساتها الموازية، مدارس ومستوصفات ودور رعاية اجتماعية وجمعيات خيرية، حتى إذا ما حانت ساعة الصفر قامت هذه المؤسسات الموازية بتسليم مفاتيح الدولة ومفاصلها ودواليب الحياة فيها على «طبق من فضة» لجماعة الإخوان، الأم التى أنجبت كل «الدواعش» من عُرب ومن عجم، لولا أن تداركت الدولة الوطنية الراسخة قبل أن تسقط ثورة شعبية مدعومة من جيش الشعب فى 30 يونيو، وقبل أن يحول الحول على نظام حكم ثيوقراطى رجعى هبط على رؤوسنا بسيوف العصور الوسطى وشرائعها. نظام قرر إما أن يحكمنا، فإن عصينا فليقتلنا أو يضرم النار فينا أو يترك دواعشه الصغار يذبحون رجالنا وشبابنا فى ليبيا ويغتصبون نساءنا فى سوريا والعراق تحت قناع شرعى زائف اسمه نكاح الجهاد! قد يكون الإرهاب على حدودنا بؤراً صديدية يسكنها الموت المروع يكفى إن أردنا -بتعاون عسكرى عربى منظم مدعوم باتفاقية دفاع عربى مشترك معطلة منذ حين- حصارها وقصفها وتصفية جيوبها وطرد المغامرين والمأجورين المجلوبين إليها من كل حدب وصوب. مع الإرهاب «الرابض» على حدودنا، الحل أمنى بامتياز تجيزه إن لم تكن ترعاه اتفاقات أممية -تراضى عليها المجتمع الدولى- لمكافحة الإرهاب، لكن ما العمل مع الإرهاب «الراقد» تحت جلودنا؟ ما العمل مع الإرث الفكرى والفقهى التاريخى المتراكم والمتأصل والساكن فى تفاصيل حياتنا؟ لقد صار لدينا من الفقهاء والمتفيقهين المتكاثرين ما نباهى به الأمم يوم القيامة، وربما لا يضاهيهم كثرة وعدداً فى مصر إلا المرضى بالتهاب الكبد الوبائى! أى تجديد «لخطاب دينى» بال يقوم به غير مجددين وغير مبدعين وغير منفتحين على ثقافة الآخر وفنونه وفكره وعلوم عصره؟ وأى «إحياء» أو تجديد وأجدادنا لا يزالون منذ أربعة عشر قرناً يفكرون لنا ويتحكمون فينا، نخاصم لهم ونحارب حروبهم، وكأننا لم نغادر «صفين» أو نرحل عن كربلاء؟ أى تجديد ووراء كل مذبحة مروعة ترتكبها داعش نص دينى مختلف على سنده، مشكوك فى صدق رواته، وفتوى مجهولة، كانت مدفونة فى حفائر التاريخ قبل أن تنفض عنها داعش التراب، وتنفخ فيها من روحها الشريرة؟! هل من رجل رشيد يرد إلى ابن رشد اعتباره ويعتذر له بعد ألف عام عن حرق تراثه العقلى، ويحاول أن يصلح بينه وبين الغزالى بعد معركة العقل والنقل وصراع «التهافت» «وتهافت التهافت»! من ذا الذى يمتلك القدرة على أن يهز شجرة التعليم العجفاء وُيسقط أوراقها اليابسة؟! ومن ذا الذى يعيد إلى المصريين زمن الفن الجميل والمسرح الراقى والسينما البديعة والكتاب الرخيص؟ لا أكتمك سيادة الرئيس أنك، فى غيبة إدارة سياسية واعية للحرب على الإرهاب، قد تجد نفسك وجندك البواسل «وحدكما» فى الميدان، ظهوركم عارية من أى غطاء سياسى وفكرى واسع. يستطيع الجيش أن يدك أوكار الإرهاب، لكن من الصعب أن يبلغ الأوكار المظلمة فى العقول والوجدان، وفى المؤسسات البالية المهترئة، وفى نظم التعليم والثقافة، وفى برامج تكوين وتربية الشباب.