فى مشهد مشابه تماماً لما كتبه الراحل سعدالدين وهبة فى مسرحيته سبع سواقى، وفى ليلة مقمرة، فوجئ عبدالمقصود، غفير أحد «الأحواش» المملوكة لإحدى الأسر العريقة بمقابر الإمام الشافعى، بثلاثة رجال حفاة غارقين فى دمائهم، يرتدون ملابس عسكرية، يسيرون وسط المقابر بإحباط شديد، استوقفهم بعدما بسمل وحوقل، بندقيته العتيقة محشوة بطلقتين، سيطلقهما على من يتجرأ ويقترب منه، حاول أن يتمالك رباطة جأشه، ازدرد لعابه وزعق: انتم مين.. إنس ولا جن.. وايه اللى جابكم هنا فى الساعة دى، مش خايفين احسن تتلبسوا؟ الجندى الأول: فين التربى اللى هنا، احنا تعبانين وعاوزين تربة بسرعة؟ الغفير: واضح عليكوا التعب يا سكران منك له، اثبت مكانك وقولى انتم مين أحسن ما أموتكم بالرصاص الميرى. الجندى الثانى: إحنا أصلاً ميتين، لكن اتقتلنا برصاص العدو، وماعدش يفرق الرصاص الميرى عن رصاص العدو اللى مابقاش عدو. الغفير: بطلوا تتكلموا بالألغاز، كل واحد منكم يقولى مين هو وايه اللبس الغريب اللى انتوا لابسينه ده، وليه غارقانين فى دمكم كده.. انتم راجعين من عركة؟ الجندى الثالث: إحنا شهداء كنا مدفونين فى سيناء، وكنا مرتاحين ومبسوطين وحاسين بالكرامة، لكن اللى حصل قلق منامنا وقل راحتنا وحسسنا بالعار وخلانا كرهنا روحنا، فقررنا نروح نشوف أى حتة تانية تلمنا، وخرجنا من سينا بدمنا وهدومنا وفضلنا ماشيين لحد ماوصلنا هنا عشان ندفن وسط بقية الأموات. وبدأ ثلاثتهم فى التقدم نحو المقابر غير مبالين بصرخاته، أطلق رصاصتين وانتظر أن يرى أياً منهم يسقط، لكن لم يبد التأثر على أى منهم، وتوقفوا أمام أحد الشواهد ثم واصل ثلاثتهم الحديث. الثانى: أنا جاد أبوالمكارم، استشهدت فى نكبة 48، قتلنى عسكرى إسرائيلى بعد ما قسموا فلسطين، حاربت بشجاعة وقتلت منهم العشرات، لكن قضاء ربنا أنى أموت بعدما اغتصبوا الأرض. الثالث: وأنا عنتر الفوال، استشهدت فى نكسة 67، حاربت بشرف لكن وقعت فى الأسر، وأعدمونا بالرصاص بمنتهى الوقاحة ودفنوا بقية زملاتى بالحيا. الغفير مخاطباً نفسه: إيه الحكاوى اللى ماتدخلش العقل دى، ويتحول إلى الجندى الأول، وانت يا جدع: إيه حكايتك؟ الأول: أنا خالد السروجى، أنا الوحيد اللى انتصرت على إسرائيل وخدت بتار زملاتى وإخواتى، واستشهدت فى الدفرسوار، لكن مت مرفوع الراس. الغفير: وإيه اللى خلاكم تخرجوا من تربكم بعد السنين دى كلها وتيجوا لحد القاهرة؟ الثانى: الحال اتغير والدم صار ميه. الأول: عدونا أصبح صديق، وكل اللى جناه علينا أصبح تاريخ، واحنا الضحية بلا لازمة. الغفير مستغرباً: إزاى يا جدع منك له، ماتقولوش كده، إنتوا أبطال، حتى اللى خسر منكم معركة بطل وفاكرينه. الثالث: من ساعة ما عرفنا أن «الرئيس» نسى الدم والعرض والأرض والتار، حسينا بمرارة وكأننا ضيعنا أرواحنا هدر. الثانى ضارباً كفاً بكف: بقى يصح يقوله وهو بيبعت له السفير «ومفوضاً من قبلى لدى فخامتكم».. هل يصير دمى بين عينيك ماء؟ الغفير: ماتكبروش المسائل، استهدوا بالله. الأول: «كيف تنظر فى يد من صافحوك.. فلا تبصر الدم فى كل كف؟». الغفير: ما يمكن الراجل مضطر؟ الثانى: يقوم يقوله «إن لى الشرف بأن أعرب لفخامتكم عما أتمناه لشخصكم من السعادة، ولبلادكم من الرغد».. بدل ما يقول: «إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك». الثالث: وبعد ده كله يوقع «صديقك الوفى».. إيه معنى الوفاء، «لا حق لحى إن ضاعت فى الأرض حقوق الأموات». الغفير: عندكم حق، طيب تعالوا ريحوا الليلة دى هنا، فى مقابر شهداء ثورة 25 يناير لحد الصبح، دول ناس أشراف زيكم ومايقلوش عنكم بطولة. الثلاثة فى نفس واحد: انت نايم على ودانك، هما كمان طفشوا من هنا لما حقوقهم راحت، شوفلنا مكان تانى ولك الأجر والثواب. يأتى صوت من الخلفية: لا تصالح ولا تقتسم مع من قتلوك الطعام وارْوِ قلبك بالدم.. واروِ التراب المقدَّس.. واروِ أسلافَكَ الراقدين.. إلى أن تردَّ عليك العظام