تأملت حكم القضاء بعدم الاختصاص فى نظر دعوى حل حزب النور، وتأملت تصريحات حزب النور ذاته بأنه ليس حزباً دينياً، وتأملت تصريحات أحد الخبراء الأمنيين على إحدى القنوات الفضائية بأن حزب النور ملتزم بالقانون، وتأملت صمت الدولة عن وجود أحزاب دينية يقودها السلفيون رغم تعارض ذلك مع الدستور! وزادت تأملاتى فتأملت فى الصمت الفعلى عن عدم تفعيل تطوير الخطاب الدينى ومراجعة ما لدينا من أفكار لا علاقة لها بالدين الإسلامى ويتم تدريسها بالأزهر وكلياته ومعاهده ولا تنتج لنا سوى فكر مُشوّه لدى دارسيه يؤهلهم بجدارة للارتقاء على سلم الإرهاب. فزادت مخاوفى من عودة استخدام الدولة للسلفيين لمواجهة الإخوان، والإبقاء عليهم لتجنب غضبتهم فى الشارع وضماناً لتحييدهم، بمنطق «سيب وأنا أسيب»، فى ظل ظروف سياسية تفرض على الدولة التيقظ لما يحدث فى الخارج وحرب تخوضها فى الداخل. وطرأ على فكرى قصة العالم الصوفى السهروردى الذى عاش بين إيران وتركيا ودمشق فى عهد صلاح الدين الأيوبى، وأُعجب الظاهر بن صلاح الدين حاكم دمشق ببلاغته وفكره الدينى المتفلسف، فقربه منه وزاد استماعه له والاستنارة بحكمه وفلسفته وزهده. مما أوغر صدور علماء الدين فى دمشق ضد «السهروردى» وخشوا أن يُبور تجارتهم لدى العامة ويُفقدهم سلطان تأثيرهم أمام السلطان وابنه. فسعوا بكل الطرق لتكفيره مستندين إلى إعماله العقل لا النقل. ثم طلبوا مناظرته وسألوه سؤالاً كان فارقاً فى حياة الرجل وسبباً فى موته بأمر صلاح الدين الأيوبى ذاته. قالوا للسهروردى: «هل يقدر الله على إرسال نبى بعد محمد؟» فأجاب الرجل ببساطة موجزة: «نعم فقدرة الله بلا حدود». فكفروه وقالوا إن السهروردى لا يعترف بأن محمداً (صلوات ربى عليه) خاتم الأنبياء!! مع أن سؤالهم لم يتطرق لذلك، ومع أن إجابة الرجل تُصدق على قدرة الله وعدم وجود حدود لها. وأرسل العلماء المتلاعبون بالألفاظ الساعون للدنيا لا للآخرة -كعهد تجار كُثر فى حياتنا اليوم- إلى صلاح الدين الأيوبى فى القاهرة، يعلمونه أن ابنه الظاهر حاكم دمشق يستمع لكافر لا يعترف بأن ابن عبدالله خاتم الأنبياء! وقتها كان صلاح الدين الأيوبى يحارب الصليبيين، ولا وقت لديه للوقوع فى جدل العلماء بين الكفر والإيمان، خشى من قدرتهم على إثارة الفتنة بين العامة إن لم يقطع دابرها من البداية. والفتنة أشد من القتل. ولذا أمر بإحضار السهروردى للقاهرة وقتله! نعم.. قُتل الرجل لأنه أعمل العقل ورد بالمنطق على سؤال حاقديه. قُتل الرجل لأنه خرج من الصفوف ولم يشأ أن يسير فى طابور القطعان فأجاب بصدق عن سؤال يعلم غايته. وضاعت سيرة السهروردى بين طيات حكايات الناصر صلاح الدين الأيوبى الذى حارب المؤامرة الخارجية للصليبيين على بلادنا. تذكر الناس بطولات الناصر ولم يتذكروا مأساة العالم العاقل. تذكرت السهروردى لأننا ما زلنا نُحكَم بمنطق القطيع فى التفكير الدينى، يحكم عقولنا من يسيطر على الدين بدعوى امتلاك مفاتيح فهمه، وصكوك غفرانه، وشهادات الإيمان فيه. يمالئون الحاكم ويستغفلون المحكوم بقلوب فرغت من المضمون وامتهنت الدعوة وجعلتها وسيلة استرزاق. يعاملوننا بمنطق شيخ البلد القابع على نفوس الغلابة وعقل العمدة بلىّ معنى الآية الكريمة: «وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم»، فضمنوا تبعية العباد واحتياج الحاكم.. ولكن هل يمكن الاستمرار هكذا؟ هل يعقل أن نسير بذات الطريقة فى ظل مخطط يتضح لنا يوماً بعد الآخر أن هدفه أن يجعلنا نحن الفارين من الإسلام والكارهين له؟ هل يعقل أن نتركهم يرتعون بين البلاد والعباد بدعوى الدين بينما هم تجّاره المستعدون للبيع فى أى لحظة مقابل خلافة موهومة فى عقولهم؟ ويبرز السؤال لرئيس دولتى بشكل مباشر أيهما تنوى: تحقيق المواطنة وإعلاء قيمة الفكر؟ أم قتل السهروردى فى وقت الحرب؟