ليس غريبا علي تاريخنا العربي أن تشهد له أوراق التاريخ بذيوع الصيت في التنكيل بالمعارضين وابتكار أساليب وحشية لتعذيب الفريسة التي تجرأت وعارضت السلطان.. وبقدر الدماثة والكرم والمروءة التي نتفاخر بها نحن العرب تظهر وحشية هويتنا العربية في البطش بشكل جلي وأشد وضوحاً, ولعلنا هنا نستحضر أبرز الأمثلة حين استحضر خلفاء بني أمية والدولة العباسية اختراعات تعذيب جديدة لم تعهدها البشرية بعد، منها علي سبيل المثال لا الحصر تلك العقوبة التي كلما قرأتها بكتاب «الأغاني» اقشعر لها بدني حيث يقوم الجلاد بطلاء جسد المغضوب عليه من قبل الأمير بالشحم والسمن ووضعه مقيداً علي ظهره ليكتوي برمال الصحراء كمرحلة أولي من مراحل قلي الجسد، بعدها تجتمع عليه الهوام وحشرات الصحراء العربية لتقتات علي الجسم وهو حي, فكإنما أصبح الحاكم إلهاً حين يتجرع الضحية عذاباته رويداً، وهو يري أجزاء جسده يقرضها نمل الصحراء ويحوم حولها العقبان والصقور.. ومنها إلي عقوبة السل والخصي والتعذيب بمنع النوم وعقوبات أخري نخجل من هويتنا العربية أمامها. وذاع صيت السجن كدلالة واضحة في التاريخ العربي ورمز لتجلي السلطان أمام معارضيه بهدف واحد وجملة مؤكدة ألا خيار سوي بالدوران في فلك السلطان. وربما تصدم عزيزي القارئ إذ اخبرتك أن أحد الشواهد الباقية علي أرض المحروسة تحمل تذكيراً تاريخياً لحاكم عربي عرف بالعدل والورع, سجن القلعة الرمز التاريخي الحاضر لثقافة المكبوت الغرائبي بحضارتنا العربية.. واستطاع المنسي قنديل بروعته أن يستحضر صورة قتل أحد أعلام الحضارة العربية وفلسفة التصوف وهو «السهروردي». كان بهاء الدين قراقوش يعمد إلي خدمة السلطان الفاتح صلاح الدين الأيوبي ,فقصده السلطان لمهمة لا يستطيع انجازها الا هو قراقوش الذي ضرب به المثل المصري في حكم الفرد القمعي أمام خنوع الأغلبية ويأس معارضتهم.. وأتم قراقوش المهمة التي تلخصت في تدشين القلعة التي ستحكم مصر وتكون مقراً لأولي الأمر, لكنه فوجئ بالخليفة صلاح الدين الأيوبي، يطلب منه أن يجمع الأسري الاوروبيين من الفرنسيين والصعايدة المصريين ليوكل إليهم مهمة جديدة شريطة أن تكون سرية وغاية في الإنجاز والسرعة. فما المهمة التي عهد بها صلاح الدين إلي قراقوش؟.. كانت المهمة هي بناء سجن حصين داخل القلعة, لاستقدام المخربين - بزعم كل الحكام – إلي هنا دون إن يعرف مكان اعتقالهم. ولم يكن قراقوش ولا البناءون علي دراية بأن نتاج كدهم سيبقي شاهداً علي جُرم حضارتنا العربية ومجدها الأخلاقي, واستقبل سجن القلعة السجين الذي جلبت من أجله الأيدي العاملة, وأمر السلطان بالإطاحة برقبته فكان هذا هو القربان الأول لعتبات السجن, قربان دماء السهروردي وهي تتناثر جراء تطاير الرقبة من ضربة السيف خلف العنق.. والتهمة كانت فهم العامة القاصر لمتصوف يهيم في الكلمات، واتهم الأفاقون بأنه يدعي أن النبي محمد ليس آخر الأنبياء, كانت هذه هي التهمة التي حاولوا تلفيقها للمتصوف الشيخ, ولأن هيبة الدولة وحكم السلطان يقتضي المحافظة علي عقول الجهلاء والعامة بعد أن ناظر السهروردي علماء حلب وأفحمهم, وقع الحكم وطارت رقبة السهروردي هنا بسجن القلعة. كانت البداية من هنا من الدولة الأيوبية, وتلتها الدولة المملوكية احتفاء بهذا الإنجاز المعماري في التنكيل والقمع والاعتقال، وبات سجن القلعة أحد أبرز الإنجازات المعمارية في الدولة الإسلامية متفاخرين بأنه مكان صمم لأن يكون مخيفاً للنفس ومنارة الرعب لكل أهالي المحروسة كأنما يتدلي لسان سجن القلعة للمصريين يبصق علي الهمم التي في طريقها للتنفس. وكلما تعاقب الأمراء من حكامنا البواسل تعاظم التفكير في تدشين السجن وتعليته وتوسيعه بشكل يتناسب مع المرحلة الجديدة مروراً بالخلافة العثمانية فأصدر الخديو إسماعيل قراراً بأن يكون السجن للأجانب كونه معزولا عن أوساط العوام, لكنه في عهد ابنه توفيق تم توسعته ليشمل المصريين بعدما تصالح أولي أمر المسلمين مع المحتل علي جثث عرابي وأعوانه.. ولم يكن هناك مانع أن يتدخل نفر من الخواجات بهدف وضع لمسة تعذيب جديدة علي السجن - والعهدة في ذلك للدكتور حمادة حسني أستاذ التاريخ الحديث - فوفد لوميان الفرنسي إلي البلاد لمهمة قومية شديدة السرية, كانت المهمة هي بناء زنزانة اسمها زنزانة نزع الاعتراف كالتي موجودة بسجن الباستيل الفرنسي. وهتف ناصر «ارفع رأسك يا اخي فقد مضي عهد الاستعباد» غير أن الاستعباد الإنجليزي كان أرحم بكثير من الاستعباد العربي في عهد الشريف النائم, وشهد العهد الناصري ذيوعاً لسجن القلعة الذي بات فزاعة لكل الطلاب والمهمومين بالوطن. وتدافعت الأفواج لتنال حظها من اختبار الوطنية هنا بسجن القلعة الذاع تفوق صيته في عهد ناصر علي كل العهود السابقة, وأطل شمس بدران بزيه العسكري والبذلة الميري والكرباج بيده اليمني علامة شاهدة وحاضرة في ذهن كل الذين توافدوا هنا وزاروا المكان رغماً عنهم. فكان الغيطاني بمذكراته أوراق شاب عاش منذ ألف عام, شاهدة علي حجم المعاناة التي عاصرها البطل هنا, وهنا استمسك أحمد عبدالمعطي حجازي عندما كان ثائراً ومناضلاً بحديد الزنزانة وأخذ يلقي قصيدته لعبدالناصر الذي سجنه والتي حملت عنوان «قصيدة السجن»! فالسجن باب، ليس عنه من محيد والسجن ليس دائما سورا، وبابا من حديد فقد يكون واسعا بلا حدود. كالليل.. كالتيهِ نظل نعدو في فيافيه حتي يصيبَنا الهمود؟ وقد يكون السجن جَفنا، قاتم الأهداب نرخيه وننطوي تحت الجلود. ومضي ولم يكن الغيطاني ولا عبدالمعطي حجازي فقط وإنما كان سعيد الكفراوي بسبب قصته «المهرة» التي نشرها وتسببت في اعتقاله أن يكون بطل رواية «الكرنك» لنجيب محفوظ,وتبرع مهارة الكفراوي في رسم ملامح سجن القلعة من خلال رائعته الجمعة اليتيمة في مجموعته مدينة الموت الجميل، ولعلني استحضر منها ملمحاً كان دائماً ما يراودني وأنا أقرأ الكفراوي ذلك القط الذي يخرج عليك رمزاً للسجان والتنكيل.. هو إذن قط واحد يتكرر ومشاهد الراوي، يصاحبه في أكثر من مجموعة وأكثر من عمل.. ويبقي السؤال: فإذا كان القط قد تكرر في موقف السجان والاعتقال، فهل يعني هذا كما أورده د. شاكر عبدالحميد: «أنه رمز السلطة والبطش الغاشم»؟.. أم أن القط هنا يتلون، ليحمل أكثر من دلالة ومغزي؟.. لكنه في كل الأحيان هو دلالة للسجان ذي الألف وجه. ولم يذع صيت سجن القلعة إلا بتشريف الثنائي العبقري نجم وامام عيسي ,وكلمات نجم علي اوتار الشيخ أمام رحمه الله: «اتجمعوا العشاق في سجن القلعة اتجمعوا العشا ق في باب الخلق». والحق أن سجن القلعة برز واحداً من أشهر المعتقلات السياسية في مصر في العهد الناصري، وكان عمدته مدفعجي يوليو شمس بدران والشهير ببطشه وتنكيله بالمعتقلين, وفي عهد السادات أوي سجن القلعة اليساريين الذين تطاولوا علي الرئيس المؤمن!! الحقيقة التاريخية أن سجن القلعة أيضاً كان شاهداً علي قمع رموز من نماذج الفكر الإسلامي ومنهم الشيخ كشك وابن تيمية لكن الحدث الجلل الذي شهده السجن هو إعدام الشهيد سيد قطب صاحب مؤلف «في ظلال القرآن». حتي أنور السادات نفسه كان نزيلاً به عقب اتهامه بقتل أمين عثمان. نختم هنا بمكونات البناء التاريخي الذي يحوي 42 زنزانة موزعة بالتساوي علي الجانبين, منها غرفة تسمي الشواية أعدت من خلال تصميم هندسي يسمح بمرور أنابيب من الغاز في طيات الجدران وبعد إشعالها تتسرب الحرارة إلي الجدران فتتحول الزنزانة إلي غرفة ساونا لنزع الاعتراف, هناك أيضاً ما يسمي ب «غرفة الفلكة والعروسة» وتلك الغرفة تحتوي علي أساليب تعذيب بدائية تهدف إلي إحداث خلل وظيفي في الجسم فيقوم المعتقل بالاعتراف مخافة أن يفقد حياته. وحتي أواخر عهد السادات تحول القلعة من السجن إلي المزار التاريخي الشاهد علي عرق مناضلي هذا الوطن, في فترة كان فيها المقاوم والمثقف وجهين لعملة واحدة وظن المصريون أن بتحويل المنفي إلي مزار انتهاء عهد القمع, إلا أن مبارك بات أشد ضراوة, ففي عهده فلم يكن هناك سجن واحد ولا قلعة واحدة, كانت هناك سجون عدة وقلاع كثيرة «طرة والقطا والعقرب وبرج العرب والحضرة». وسأورد أفضل ما قيل في شعر السجون علي لسان الشهيد هاشم الرفاعي في قصيدته «في ليلة تنفيذ الحكم»: هذا كتاب إليك من زنزانة مقرورة صخرية الجدران لم تبق إلا ليلة أحيا بها وأحس أن ظلامها أكفاني ستمر يا ابتاه لست أشك في هذا وتحمل بعدها جثماني الليل من حولي هدوء قاتل والذكريات تمور في وجداني.