على مرمى البصر من الاستحقاق الثالث والأخير لخريطة الطريق، وهو انتخابات مجلس جديد للنواب، ترتفع وتيرة المناوشات والمناورات، ويشتد الركض والتسابق، ويحتدم الكر والفر والائتلاف والاختلاف، وتظهر تحالفات وتنفك عرى تحالفات فى بيئة سياسية سائلة رجراجة تبحث عن تماسكها. وبينما الهدف واضح كالشمس فى رابعة النهار وهو تشكيل «كتلة تاريخية»، أو ائتلاف موسع من القوى والأحزاب المدنية لا يكرر أخطاء الماضى القريب ويعيد إنتاجها، ولا تلهيه المغانم عن رؤية المخاطر التى تترصد الثورة وتتآمر عليها وتُضيق الخناق حولها، فإننا حتى الآن وقد بدأ العد التنازلى ليوم القارعة نسمع -كما قال المعرى- جعجعة ولا نرى طحناً، فما إن يقترب ائتلاف سياسى من لحظة التوافق ويتأهب للظهور حتى ينفرط عقده ويتفرق جمعه، وتكشر الأنانية والأثرة وضيق الأفق الحزبى عن أنيابها فتشق صفه، لا يُستثنى من ذلك تحالف من التحالفات الثلاثة الكبرى، التى أعلنت حتى تاريخه عن نفسها؛ الأول هو «تحالف الوفد المصرى» الذى يقوده حزب عجوز سقطت أسنانه، يعيش على تاريخ أسلافه، ويسحب من رصيدهم، ويقامر بالمستقبل بعد أن صار مستقبله وراءه. والثانى هو «ائتلاف الجبهة المصرية» أو «تحالف الأمة المصرية» سابقاً، الذى يرفع شعار المصالحة مع الحزب الوطنى المنحل، ويتصدر رجاله دونما خجل -بما يحوم حولهم من شبهات- صدارة الموكب الانتخابى. وثالثها «التيار الديمقراطى» الذى يبدو بطبيعة القوى والأحزاب التى يضمها، وهى قوى محسوبة بامتياز على الثورتين ثورة 25 يناير وثورة 30 يونيو، وكأنه الضلع المعارض فى مثلث التحالفات السياسية، التى لم تصل بعد إلى توافق أو تهتدى إلى يقين، بينما أعداء بيزنطة على الأبواب يتابعون ويترصدون ويسترقون السمع قبل أن «يدقوا» أبوابها، «ويدكوا» فى طريقهم القلاع والحصون والأوتاد، وهل أمامهم سوى هذه الفرصة الأخيرة للانقضاض على الثورة والارتداد بالوطن إلى ما قبل 30 يونيو 2013، واسترداد مجلسهم الزائف المنحل أو «برلمان قندهار» البائد بوجوهه العابسة التى هبطت علينا من أشد عصور التاريخ ظلاماً، وتصدرت «مومياواته» مشهده الافتتاحى فى 2011 وكأننا أمام «كوميديا سوداء»! فإذا تم لهم ذلك أعلنوا عن إمارة «داعش» المصرية، لتصبح درة العقد فى عمامة الخلافة الإسلامية المزعومة! بعضنا -لسوء الحظ- لا يتعامل مع الخطر الزاحف بروح المسئولية، وتغريه المغانم القريبة عن المكاسب البعيدة، وبعضنا لا يتجرد من ذاتيته، ولا يكبح «الأنا» المتورمة، ولا يتسامى عن شهوة السلطة، ولا يرى أبعد من موطئ قدمه؛ مقعداً فى البرلمان، وبطاقة «حصانة»، ووجاهة مركز وقوة نفوذ، ووعوداً عريضة بالسلطة والثراء، ولا عزاء بعد ذلك لوطن رائع جميل تركناه مرتين تتخاطفه الغربان وبنات آوى. أظن -وليس كل الظن إثم- أن بعض الساسة وبعض الأحزاب الذين يديرون مناورات دمج الائتلافات والتوفيق بينها، لا يقدرون «استثنائية» الظرف أو خطورة المخاض التى يولد فيها البرلمان الجديد، ولا يرون التحديات التى تنتظره، وإلا ما طفت على السطح فقاقيع «المحاصصة» ولغو الحديث عن توزيع المغانم. عبر تاريخ مصر البرلمانى الطويل -وعمر أول برلمان ظهر فى عهد إسماعيل قرن ونصف القرن- قد يكون برلمان 2014 هو الأهم فى تاريخ مصر لأسباب عديدة، ليس أقلها وزناً التأسيس لدولة عصرية جديدة مؤمَّنة ضد عودة الطاغوت الدينى والسياسى، عصية على الاختراق الداخلى والخارجى، برلمان مهمته رأب الصدع الوطنى، وتقوية مناعة المواجهة للتحديات الكبرى، والحروب التى تدبر لنا، وطوق النار الذى يلتف حولنا. وإذا كان الحَذِر يؤتى من مأمنه فإن ضعف الأحزاب المدنية وعراك «المحاصصة» الدائر الآن بينها فى مشهد بيروتى النزعة لتقاسم غنيمة البرلمان قبل أن يرى النور، هما الثغرة التى يتسلل منها الخطر المختبئ فى عباءة الأحزاب الدينية التى «تتلمظ» هى الأخرى على رائحة الفريسة، وتتلون كالحية الرقطاء لتحصد، وأعداؤها فى ملهاة المحاصصة (وبما لا يخالف شرع الله!) نصيب الأسد من مقاعد البرلمان وتتربع فى الصفوف الأولى لا تغادر مقاعدها إلا على نداء الصلاة، بينما تبقى القلة العلمانية المارقة تنظر إلى بعضها البعض تتبادل الحسرات والمرارات! قد تكون هناك أسباب تعز على الحصر تتعثر فى حبائلها محاولات عقد التحالفات الانتخابية وبناء كتلة جبهوية حرجة، كغياب تقاليد تكوين التحالفات السياسية، ونقص خبرة العمل الجبهوى المصرى بسبب القيود التى دامت طويلاً على الحياة الديمقراطية، وغياب أرضية سياسية مشتركة تتوافق عليها الأحزاب قديمها وجديدها، وفلولها وذيولها، وإن كانت المخاطر التى تتهدد الجميع كافية فى حد ذاتها لبناء توافق سياسى بين قوى سياسية مختلفة المشارب والأهواء، تجتمع حول «برنامج حد أدنى» لمواجهة الأخطار الداخلية والخارجية التى لن ينجو منها أحد. ولكن يظل السبب الأهم فى تعثر دمج الأحزاب المدنية جميعها فى كتلة تاريخية واحدة، هو الخلاف على توزيع المغانم ونصيب كل حزب من المقاعد البرلمانية وفقاً لتشكيل القوائم الانتخابية، فبعض الأحزاب ترى لنفسها أوزاناً وأحجاماً وتأثيراً بينما للشارع رأى آخر مختلف. لكن من ذا الذى يترجم رأى الشارع إلى مقاعد تتفاوت حصصها وأعدادها بتفاوت الثقل الجماهيرى لكل حزب وشعبية مرشحيه ونزاهتهم ووزنهم السياسى والنضالى، حتى لا يظل هذا الإحساس المتضخم بالذات الحزبية عقبة كئوداً تعطل جهود المخلصين لبناء تحالف انتخابى صلب تتكسر على صخرته رؤوس الخيانة؟ والحق أننا نعيش مع الرئيس السيسى «قلقه» بشأن البرلمان المقبل، لكننا ينبغى أن نعيش معه أيضاً تفاؤله بالمستقبل!