أتردد كثيراً قبل أن تواتينى الجرأة للكتابة عن قضية لا تتعلق مباشرة بالشأن المصرى، فمصر مثقلة بهموم داخلية تنوء تحتها الجبال، ولا أحد فيها لديه بقية من طاقة يهدرها فى القراءة أو التفكير فى شىء آخر. أبشركم بأن هذا الحال لن ينتهى سريعاً، ليس فقط بسبب الوضعية الخاصة لمصر، ولكن أيضاً لأن هذا هو ما تنتجه الثورات فى كل مكان، وقد اخترنا الثورة، أو انزلقنا إليها، لا فرق. المهم بما أن هذا الحال المضطرب سيبقى معنا طويلاً، فعلينا أن نعتاد الحياة فى ظله، وأن نمارس حياتنا الطبيعية تحت وطأته، فنمارس اهتماماتنا المعتادة كما لو كنا مجتمعاً يمر بظروف طبيعية. كل هذه المقدمة الطويلة لأبرر الكتابة عن الشأن الروسى - الأوكرانى. فرغم المعارضة والعقوبات الغربية أوشكت روسيا على استكمال ضم شبه جزيرة القرم. وكان قرار الحكومة الأوكرانية بسحب قواتها من شبه جزيرة القرم هو المشهد الأخير فى هذه الأزمة، فيما يوحى بتسليم أوكرانيا بالمطالب الروسية من الناحية الفعلية، حتى لو واصلت رفضها رسمياً. ما نشاهده فى شبه جزيرة القرم هو أحد المظاهر المتأخرة لانهيار الإمبراطورية السوفيتية/الروسية، وليس توسعاً وإمبريالية روسية حسبما يدعى الأمريكيون والأوروبيون. فما نشهده فى روسيا ومحيطها حالياً هو حرب تفكك الإمبراطورية الروسية التى لم تحدث دفعة واحدة فى لحظة الانهيار والتفكك الأولى قبل عشرين عاماً. إنها الحرب التى تحدث متأخرة عن وقتها بعدة سنوات، والتى تتم على مراحل فى شكل عدة حروب صغيرة لكل منها عنوانها الخاص، فمرة هى حرب الشيشان، ومرة هى حرب التدخل فى جورجيا، ومرة ثالثة هى عملية ضم شبه جزيرة القرم. لقد انتهى عصر الإمبراطوريات منذ زمن طويل، وكانت الحرب العالمية الأولى هى المعركة الفاصلة فى حياة الإمبراطوريات، أى فى حياة الدول الكبرى متعددة القوميات والأعراق. ففى الحرب العالمية الأولى انهارت الإمبراطورية العثمانية والنمساوية، وخرجت من أحشاء كل منهما العشرات من الدول الجديدة المستقلة. وحدها الإمبراطورية الروسية استمرت فى البقاء طوال السبعين عاماً التالية. حدث هذا ليس لميزات وإيجابيات خاصة ميزت الإمبراطورية الروسية، وإنما بسبب الدماء الجديدة التى ضختها الثورة الشيوعية فى شرايين الإمبراطورية. تجديد الإمبراطورية الروسية على يد الحكم الشيوعى مكن الإمبراطورية الروسية من البقاء فيما وراء العمر الافتراضى للإمبراطوريات، أى عندما ظهر عالم سمته الرئيسية استقلال الشعوب، وتمكينها من ممارسة الحق فى تقرير المصير. بحلول الثمانينات كانت دماء الإمبراطورية السوفيتية/الروسية قد جفت فى الشرايين، وكان على الإمبراطورية الروسية أن تواجه المصير الذى واجهته من قبل كل الإمبراطوريات، فتفككت كما تفككت مثيلاتها من قبل. تفكك الإمبراطورية الروسية لم يكن فقط متأخراً، وإنما كان أيضاً سلمياً، فعندما حان وقت الانهيار أعلنت الأقاليم المختلفة المكونة للإمبراطورية السوفيتية/الروسية استقلالها دون أن تقابل بأى مقاومة من جانب الإمبراطورية التى كانت قد فقدت أى قدرة على الفعل دفاعاً عن بقائها. التفكك السلمى للإمبراطورية الروسية هو الاستثناء الحقيقى، فليس هكذا تتفكك الإمبراطوريات، فطبقاً للخبرات السابقة فى تفكك الإمبراطوريات فإن الحرب كانت هى الفعل المصاحب لسقوط الإمبراطورية، حرب يشنها دعاة الاستقلال من سكان الأقاليم، وحرب تشنها الإمبراطورية العجوز للحفاظ على بقائها، وهو ما لم يحدث فى حالة الإمبراطورية الروسية. السقوط السلمى للإمبراطورية الروسية أدهش العالم وأثار إعجابه، غير أن هذا السقوط السلمى نفسه خلف من المشكلات والقضايا المعلقة الكثير، وهى القضايا التى ما زال على روسيا وتوابعها السابقة أن تتعامل معها. لقد تحولت الحدود الإدارية للأقاليم السوفيتية بين عشية وضحاها إلى حدود سياسية، ووجد الكثير من الناس أنفسهم يحملون جنسيات دول لم يختاروها ولا تربطهم بها صلة. الفارق بين الحدود الإدارية والسياسية كبير. اختلاط المشاعر والهويات هذا لا يثير إلا الصراعات. روسيا والروس يشعرون أن التحول التلقائى للحدود الإدارية إلى حدود سياسية تحميها حقوق السيادة ينطوى على ظلم لهم. والجمهوريات التابعة سابقاً ترى فى السكان الروس عملاء وطابوراً خامساً لجار كبير يهدد استقلالهم. روسيا لديها من الدوافع الكثير لإعادة التفاوض حول شروط استقلال الجمهوريات التابعة سابقاً. تجاوز هذه الأوضاع الشاذة هو ما حدث خلال الحروب التى صاحبت عملية سقوط الإمبراطوريات الكبرى. فحدود الدول الناشئة لم تتحدد من خلال التحول البسيط للحدود الإدارية داخل الإمبراطورية إلى حدود سياسية للدول الجديدة، وإنما جرت عملية إعادة رسم الحدود لتعكس ميزان القوى الجديد والوقائع القائمة على الأرض، ولخلق درجة أعلى من التطابق بين ولاءات السكان وهوياتهم من ناحية، وهوية السلطات السياسية الناشئة من ناحية أخرى. أما عندما لم تتطابق الحدود الجديدة مع هويات السكان وولاءاتهم، فقد جرت عمليات تبادل سكانى، كانت أحياناً واسعة النطاق لدرجة صادمة، ففى نهاية الصراع بين تركيا واليونان الذى كان فى نفس الوقت آخر حروب تفكك الإمبراطورية العثمانية، انتقل مليونان من السكان عبر حدود البلدين، ونتيجة للصراع الذى نشب مع انهيار الإمبراطورية البريطانية فى شبه القارة الهندية، انتقل اثنا عشر ونصف المليون من السكان عبر حدود دولتى الهند وباكستان اللتين تكونتا مع انهيار الحكم الإمبراطورى، كل ذلك بهدف خلق واقع جديد تحقق فيه الدول الخارجة من الإمبراطورية درجة أكبر من الانسجام والوحدة الداخلية. هذا هو مغزى ما يحدث بين روسيا وجيرانها اليوم، والذى فيه معالجة لمشكلات تخلفت عن الماضى أكثر مما فيه من مخططات للتوسع الروسى، وفيه تصحيح لواقع إقليمى مختل أكثر مما فيه من خلق لنظام دولى جديد.