على سرير بالٍ، تجدها قابعة منذ 3 سنوات، هى نفسها تلك الغرفة الضيقة فى الطابق التاسع داخل المستشفى الحكومى، نفس حبال الآمال يرسمها الأطباء لإقناعها بأن عمودها الفقرى اقترب من مرحلة الشفاء، ونفس الابتسامة الصفراء لا تنقطع يومياً عن وجوه طاقم التمريض مصحوبة بعبارة «مش هنخلص من وجع دماغ مصابى الثورة»، حتى تبريرات المجلس القومى لأسر الشهداء والمُصابين حول تأخير العلاج الشهرى لم يطرأ عليها تغيير. الجديد فى حياة «منة أحمد»، التى أصيبت فى جمعة الغضب 28 يناير 2011، أنها فقدت رفيقين من مُصابى ثورة يناير بمستشفى قصر العينى الفرنساوى بعد تأخر حالتيهما الصحيتين، دون تحرك من 5 حكومات ونظامين، صموا آذانهم عن صراخ الأمهات وعويل الآباء، ها هى «منة» التى اقتربت من إتمام عامها ال23 تنتظر أن ينظر المجلس القومى لأسر الشهداء والمُصابين فى أوراقها لإعادة صرف العلاج الشهرى مجدداً بعد أن توقف سبتمبر الماضى بحجة عدم وجود مستندات تثبت إصابتها فى ثورة يناير على يد قوات الشرطة، هى لا تتذكر تحديداً عدد المرات التى تحدثت واستغاثت فيها بالإعلام للبحث عن حل لأزمتها، ولكن هذه المرة ربما يفلح الأمر فبلادنا على أعتاب «موسم الانتخابات»، ربما تنجح المحاولة، قالت ل«الوطن»: «أنا دلوقتى منتظرة المجلس يعتمد الأوراق عشان آخد علاجى كامل، لأن الدواء مابيجيليش كله». «منة» تعانى من إصابتها بكسر فى يدها اليسرى، وآخر فى الفقرة الصدرية الرابعة، وقطع فى الضفيرة العصبية بالعمود الفقرى جراء قوة التدافع فوقها فى اشتباكات جمعة الغضب 28 يناير 2011، الأمر الذى يتطلب حصولها على حقنة دورية كل 3 أشهر لتثبيت العلاج بالعمود الفقرى، فجأة توقف المجلس عن التكفل بنفقات العلاج والإقامة فى المستشفى لحين إيفاده بخطاب يؤكد إصابتها فى اشتباكات جمعة الغضب، شد وجذب مع مسئولى المجلس انتهى بتقديم أسرة الفتاة الطالبة بمعهد السياحة والفنادق للمستند المطلوب، والآن بات «الانتظار» هو المصير المفروض عليهم لحين وضع اللواء حسن الشافعى، الأمين العام الجديد للمجلس، بصمته على الأوراق. تُرى هل يفكر الدكتور عادل معوض الآن أنه كان بإمكانه أن يمنع ابنه «معوض» ذلك الطالب بالفرقة النهائية بكلية الصيدلة من المشاركة فى إسعاف المُصابين فى أحداث محمد محمود 2011، ربما كان يستطيع إذا كان يعلم أن «رصاصتين ميرى» سيستقران فى جمجمة ابنه ليدخل فى غيبوبة مستمرة حتى الآن، لا يفيق منها جزئياً إلا بفضل «العلاج فى الخارج» الذى تتخوف الأسرة من توقفه حال امتناع المجلس القومى عن إرسال الدفعة المالية المطلوبة إلى أحد المراكز الطبية فى لندن. هناك حكم قضائى من مجلس الدولة فى 31 ديسمبر الماضى حصلت عليه أسرة «معوض» يلزم مجلس المُصابين بشكل نهائى بدفع مبلغ 18 ألفاً و505 جنيهات إسترلينية لعلاجه فى لندن، وكان الحكم هو الثانى من نوعه الذى تحصل عليه الأسرة بعد رفض حكومة هشام قنديل، رئيس وزراء حكومة الإخوان، التكفل بعلاجه فى الخارج، رغم توصيات المستشار الطبى للسفارة المصرية فى إنجلترا. والدة «معوض»، نجاة صلاح، قالت إن ابنها «صحته تتحسن نسبياً، الأمل فى إرسال الأموال من أجل فرصة أفضل للحياة بدلاً من الانتكاسة مرة أخرى»، كانت هذه هى مطالب السيدة، إرسال المبالغ المادية المطلوبة كون ابنها فى المرحلة الثانية للعلاج، وتستمر مدة 3 أشهر، بناء على تحسن حالته الصحية، لأن ذلك سيؤهله لدخول مرحلة أخرى متطورة من العلاج، فيما تحتاج المستشفى الإنجليزى صرف مستحقاتها لاستكمال العلاج، مؤكدة أن التقييمات الطبية للحالة تؤكد أنه يتحسن بشرط استمرار العلاج. الأم تشير إلى أنها اضطرت لرفع دعوى قضائية ثانية بسبب رفض الدولة تنفيذ الحكم الأول، مؤكدة أنها تلقت تأكيدات من القائمين على اللجنة الطبية فى المجلس بأن الأمور فى طريقها الصحيح للابن الأكبر للأسرة بين 3 أشقاء، كان شعورها: «هصدق المرة دى إن الدنيا هتمشى من غير تعقيد عشان صحة ابنى وسلامته». فى 3 يونيو 2013، استقل مصطفى عبدالدايم الطائرة المُتجهة إلى لندن بتذكرة حكومية، أملاً فى علاج وصفه الأطباء المصريون ب«الصعب»، من قطع كلِّى فى الحبل الشوكى جراء تعرضه للإصابة فى أحداث مجلس الوزراء ديسمبر 2011، لكن سرعان ما حول تشخيص خاطئ للمستشار الطبى للسفارة المصرية فى بريطانيا حياته إلى «جحيم»، بعدما أوصى الدكتور سميح عامر فى ديسمبر 2013 المجلس القومى بأن حالة «عبدالدايم» الصحية ليست فى حاجة إلى تجديد العلاج والإقامة الطبية فى العاصمة الإنجليزية، ليعود بعدها صاحب ال26 عاماً إلى القاهرة مُحملا بخفَّى «اليأس والميول الانتحارية». والده الذى سبق أن تظاهر فى 2011 أمام ديوان محافظة القاهرة، رافعاً لافتات يُطالب فيها إسرائيل بعلاج نجله على نفقتها بعدما أهملته الدولة المصرية، قال إنه لن يتردد مجدداً فى الإقدام على تلك الخطوة ما دامت الحكومة قررت دفن ابنه ب«الحيا»، حسب تعبيره. قال الأب إن نجله منذ العودة إلى القاهرة وهو يرفض الخروج من غرفته، الأمر الذى زاد من ميوله الاكتئابية، وجعلها تتطور فى بعض الأحيان إلى رغبة فى الانتحار، مؤكداً أن المجلس القومى أبلغه أن قرار العودة جاء كون مصاريف العلاج «باهظة» وتبلغ 20 ألف جنيه إسترلينى شهرياً. يحاول الأب الآن مقابلة اللواء حسن الشافعى لإقناعه بضرورة استئناف العلاج الخارجى ل«عبدالدايم»، موجهاً رسالة لمن وصفهم ب«أصحاب الضمير»: «إحنا مالناش دعوة بالسياسة، إحنا عايزين حقوقنا وعلاج عيالنا، اللى يمسك يمسك، عايزين نعيش». فى الغرفة الأخيرة بالطابق السابع لمستشفى قصر العينى الفرنساوى، كانت ترقد رافضة التصريح أو التسجيل الإعلامى، مُقتنعة بأنه لا فائدة من الهرولة نحو روشتة علاج أو رحلة سفر ما دامت الحكومة تعتبر الثورة «مؤامرة» ومُصابيها «خونة»، هكذا كانت «صابرين» التى غيبها الموت فى فبراير 2013، نتيجة تلك الطلقة التى استقرت فى الحوض خلال تظاهرات جمعة الغضب بمحيط مسجد القائد إبراهيم فى الإسكندرية، وتسببت فى شلل جزئى بالنصف السفلى لجسدها كان أسرع من قرار العلاج الخارجى بلندن على نفقة الدولة الذى صدر لصالحها لكنه جاء مع الأنفاس الأخيرة لحياة السيدة السكندرية. «صابرين» قبل أن تخسر حياتها من أجل ثورة «العيش والحرية»، خسرت زوجها الذى انفصل عنها بعد إصابتها وتركها بصحبة طفليها اللذين لم يكملا ال15 من عمريهما، حتى تزوجت فى الأيام الأخيرة لحياتها من زميلها محمود إبراهيم، أحد مصابى الثورة. قال الأخير إن حالتها الصحية تدهورت بعد العملية الأخيرة التى أجرتها فى شهر ديسمبر 2012، مضيفاً: «محدش من المسئولين ولا من بتوع المجلس أيام مرسى عبرها». من الممكن أن تتعايش مع إصابتك ب«الشلل النصفى» ما دمت ستجنى ثمار ثورتك، ما دمت ستقتص لدماء شهدائك، ما دمت قادراً على محاسبة من أجلسك على الكرسى المُتحرك، لكن الحال انتهى بالإصابة ب«السرطان» والموت وحيداً! هكذا هو حال الدكتورة وفاء خليفة التى توفيت فى أكتوبر جراء إصابتها بسرطان فى النخاع الشوكى، نتيجة خطأ جراحى خلال علاجها من إصابتها فى أحداث محمد محمود 2011، بعدما اصطدمت قنبلة مسيلة للدموع بظهرها. وفاء خليفة، البالغة 43 عاماً، بدأت فى الأشهر الأخيرة من عمرها معاناة آلام مبرحة فى الظهر، واتضح أن «الفتحات» الناتجة عن الإصابات فى عمودها الفقرى نتج عنها مضاعفات، وأن السائل الموجود فى الغضروف جف وكوَّن خلايا سرطانية. الاتهامات السابقة للمجلس القومى لأسر الشهداء والمُصابين رد عليها الدكتور أيمن عبدالمجيد، رئيس اللجنة الطبية بالمجلس، مؤكداً أن المجلس لا يتحمل مسئولية تدهور الحالة الصحية لمصطفى عبدالدايم، بل الذى يتحملها هو المستشار الطبى للسفارة المصرية فى لندن الذى أرسل خطاباً رسمياً أكد فيه أن حالة «عبدالدايم» لا تستحق البقاء فى إنجلترا أكثر من 6 أشهر، وعليه قرر المجلس عدم التجديد له وعودته للقاهرة، مشيراً إلى أن المجلس يسعى حاليا لتوفير كرسى متحرك ل«عبدالدايم» بعد سحب الكرسى السابق منه الذى تبرع به أحد رجال الأعمال. رئيس اللجنة الطبية يواصل الدفاع عن نفسه، مؤكداً أن أزمة «منة أحمد» تكمن فى أنها تأخرت فى تقديم المستندات اللازمة عن تعرضها للإصابة خلال أحداث الثورة لاستكمال علاجها. لافتاً أنها حصلت على شيك تعويض من مجلس الوزراء ب5 آلاف جنيه منذ إصابتها، وخلال أيام قليلة سيعاد صرف العلاج لها بعد التأكد من سلامة الأوراق. واعترف «عبدالمجيد» أن المجلس أصبح مضطراً وفقاً لأحكام القضاء الإدارى أن يرسل المبلغ المالى المطلوب لعلاج معوض عادل إلى المركز الطبى فى «لندن».