«أنا مش مجنونة.. ولادى تاهوا فى زلزال 92 ولسه بادوّر عليهم».. هكذا فاجأتنا «لبلبة» فى بداية حديثها، وأضافت: «ليه كل الناس بتخاف منى وما بترضاش تعدى من جنبى؟ الناس بقت قاسية أوى وقلوبها حجر، خدنى يا رب وريحنى». «لبلبة» امرأة خمسينية ترتدى ملابس شديدة الاتساخ، وكيس بلاستيكى على رأسها بدلاً من الطرحة، يُظهر شعراً أبيضَ، تجلس دوما على رصيف فى محطة مصر بالإسكندرية، لا يؤنس وحدتها سوى الحيوانات الضالة من قطط وكلاب، لا يحضرها سوى ذكرى طفليها إسماعيل وبسمة، اللذين فقدتهما فى زلزال 1992. تكتفى السيدة بترديد همهمات بصوت غير مسموع، قبل أن تلتفت لنا لتؤكد أن اسمها ليس «لبلبة»، وأن هذا الاسم أطلقه عليها زملاء الرصيف من بائعين ومقيمين بالمنطقة، عندما عثروا عليها شاردة هائمة على وجهها فى الشوارع والأزقة والحوارى والطرقات. تفتح «لبلبة» كيسا شديد الاتساخ، لتخرج منه لقيمات من الخبز، لتأكل منه، وتقول ل«الوطن»: «أنا هافضل أدور على إسماعيل وبسمة عيالى، مهما طال الزمن، يا رب ألاقيهم». تقول أم كارم، السيدة التى تجاور «لبلبة» وتشاركها الرصيف لتبيع الخردوات والمناديل والحلوى للأطفال: «إحنا لقيناها بعد 3 سنين من الزلزال، وكان حالها يصعب على الكافر، بتدور على عيالها الاتنين: إسماعيل، اللى كان فى الصف الثانى الابتدائى، وقت الزلزال، وبسمة، التى لم تكن قد أكملت سنتين». وأضافت: «منذ اختفائهما وهى بتدور عليهم فى كل حتة، بعد ما بيتها وقع فى منطقة الحضرة، ومالقتهومش ولا تحت الأنقاض ولا فى الشارع ولا عند قرايبهم، وأبلغت أقسام الشرطة وبحثت فى المستشفيات، ولم تجد لهما أثرا». وتشير «أم كارم» إلى ملابس «لبلبة» الرثة والخفيفة، وتقول: «فى عز البرد ده هى بتبقى قاعدة على الرصيف وبينزل عليها المطر، وفى النوة اللى فاتت اللى البلد كلها ما كانتش مستحملاها هى قعدت على الرصيف من غير ما حد يقف جنبها». وتضيف: «منه لله جوزها قبل الزلزال كان مسافر العراق، ولما عرف اللى حصل ما رضيش يرجع ولا حتى يطلقها وسابها زى البيت الوقف ولا بيصرف عليها ولا بيساعدها تدور على العيال، وأصيبت بأمراض القلب والسكر والضغط وحاجات تانية كتير، ناس قلوبها حجر». ووسط استدراك «أم كارم»، تقطع «لبلبة» الحديث بصوت مرتفع لتقول: «أنا مش مجنونة، ليه كل الناس بتخاف منى وما بترضاش تعدى من جنبى؟ الناس بقت قاسية أوى، خدنى يا رب وريحنى»، وقبل أن تسمع سؤالاً جديداً، قالت: «يلا بقى امشوا من هنا، ما هو اللى هيقرا الكلام ده فى الجرنان هيضحك علينا، ومش هنصعب على حد، ولا حد هيساعدنا، الناس ما بقتش تحس ببعضها».