فى زاوية غير متسعة من شارع محمد على بقلب القاهرة التجارية يقع «نادى المشير». هكذا تعلن اللافتة الصغيرة التى تتصدر واجهة المقهى العتيق قرب منطقة باب الخلق، هو المقهى الذى لا يزال يقصده قدامى الموسيقيين والآلاتية الذين عرف بهم الشارع قديماً، وعرفوا هم بالشارع، وقت أن كان يزدحم بعشرات العوالم والراقصات والعازفين المتخصصين فى إحياء الأفراح والليالى الملاح. ورغم أن الشارع نفسه تغير بعد أن هجره عدد كبير جداً من سكانه، إلا أن المقهى لا يزال على حاله، ربما لكى يشهد على فترة شديدة الثراء من تاريخ الشارع الذى أنشأه ذات يوم الخديو إسماعيل تمجيداً لاسم جده الراحل محمد على مؤسس الدولة العلوية، فيمده من ميدان العتبة، حتى ميدان الخليفة حيث تطل قلعة صلاح الدين. يظهر مدخل المقهى وسط محلات الموبيليا التى تملأ الشارع، يحتفظ لنفسه ببابين من الخشب لا يبدو أنهما ينغلقان فى النهار أو السحر، الأول يطل على شارع محمد على مباشرة، والثانى مفتوح على ناصية شارع جانبى، يحمل الأخير لافتة زرقاء مكتوباً عليها باللون الأصفر «نادى المشير»، يراها السائرون بوضوح بفضل المصابيح الكهربائية الطويلة المتراصة على الحائط. داخل المقهى تزدحم الجدران بلوحات لآيات قرآنية، مختلطة بصور قديمة لأسرة صاحب المقهى. فى زاوية ضيقة بالداخل توجد «نصبة الشاى»، أمامها مباشرة يقف رجل خمسينى يتولى إعداد المشاريب للزبائن، فيما يتولى توصيل تلك الطلبات شاب عشرينى، يتحرك بخفة ونشاط بين الجميع. حوائط المقهى الخارجية مطلية بلون بنى مائل للحمرة، يزيدها قدماً وبهاء، إلى جوار الباب المطل على شارع محمد على يجلس عبدالرحمن عبدالعزيز أحد أفراد فرقة «حسب الله» بصحبة صديق خمسينى مثله، يقتلان وقتهما بلعب «الطاولة»، تعوّد كل منهما على الجلوس فى هذا المكان منذ بضع وثلاثين عاماً كما يروى عبدالرحمن صاحب الشعر الفضى. يعود عبدالرحمن بظهره للوراء ليسنده إلى ظهر المقعد قبل أن يقول «أنا بقعد على القهوة دى من وأنا فى إعدادى، وكانت أول يومية قبضتها من الريس 175 قرش». على ما يبدو فإن حديث الذكريات يزيد من حماسة عضو فرقة حسب الله، تلمع عيونه وهو يواصل «وقتها كان شارع محمد على ملتقى لكل الموسيقيين والفنانين، وكان بيفيض بمحلات الآلات الموسيقية»، لكن اللمعة تختفى من عينه عندما يتنهد ويقول بنبرة تفقد حماسها «معظم قهاوى الفنانين فى الشارع قفلت، زى قهوة التجارة، وكازينو شريف، وحلاوتهم، والدِمس، وما بقاش فاضل لنا إلا قهوة المشير». يلتقط عبدالرحمن أنفاسه ولم يقبل أن يقول «أنا لازم آجى هنا كل يوم، واليوم اللى ما باجيش فيه هنا باحس إن فيه حاجة نقصانى، م الآخر كده باحس إنى زى السمك اللى عايش جوه الميه. ينفع السمك يعيش بره الميه؟». يحكى عبدالرحمن عن الشارع قديماً، كما يحكى عن نفسه، تاريخه جزء من تاريخ الشارع، يقول إنه تعلم العزف على آلة الترومبيت منذ صغره، ووجد فرصته فى سكن الشارع والانضمام لفرقة حسب الله، وكما اعتادت الفرقة أن تجلس على المقهى الشهير فى الشارع فى انتظار زبون يطلب منهم إحياء فرح أو ليلة، اعتاد عبدالرحمن أن يجلس معهم، ليس له معارف آخرون أو أصدقاء من خارج المهنة، يستدعى من الذاكرة محمود شكوكو فنان المونولوج الشهير الذى يقول إنه كان يجلس على القهوة قديماً، كما يتذكر شفيق جلال، وكارم محمود، وعبدالعزيز محمود. ينظر عبدالرحمن فى الفراغ ويصمت قليلاً قبل أن يكمل بصوت هادئ «زمان كنا بنقعد هنا عشان أكل عيشنا، لكن دلوقتى بنقعد عشان نفتكر أيام الزمن الجميل اللى مش هترجع تانى»، يروى عبدالرحمن أن العازفين فى فرقة حسب الله لم يكونوا يهتمون بأزيائهم «كنا بنلبس أى حاجة»، وذلك بسبب ظروف عملهم التى يقول إنها كانت تقتضى الذهاب إلى أحواش المقابر لإحياء أفراح سكانها، أو الذهاب إلى أكبر فنادق مصر. «بنطلع من البيت مش عارفين هنروح فين، وطبعاً لازم نيجى على القهوة الأول من بعد العصر نستنى الفرج». يرفع عبدالرحمن رأسه إلى أعلى ويحدق النظر فى سماء شارع محمد على المظلمة ثم يقول «عام 1995 هو بداية انهيار الفن فى شارع محمد على، وقتها كان الأورج ظهر، وحل محل عدد كبير من الآلات التانية زى الكمانجا والقانون والعود، ودى كانت بداية خراب التخت الشرقى». يكمل عبدالرحمن «سماع الطرب والمزيكا فى القهاوى زمان، كان له طعم تانى، كنا بنعلم بعض ونسمع لبعض والناس فى الشارع كانت بتستمتع وتحيينا»، ينخفض صوت الرجل وينظر إلى أسفل ويقول فى حزن «بقينا بنحس بالإحراج لو عزفنا على القهوة حتى لو على سبيل تجربة الآلة لو عطلت، بنتكسف ونتخيل الناس هيقولوا علينا مجانين». إلى جوار عبدالرحمن يجلس رفيق دربه أيمن الشامى عازف «الأورج» المعتزل، عمره يزيد على الخمسين عاماً يقول إنه يقضى قرب الساعة خلال رحلته اليومية من عين الصيرة إلى قهوة المشير رغم اعتزاله العزف بالفرق الموسيقية منذ 15 سنة «سبت المهنة لما حسيت أن فلوسها حرام» يروى أيمن الذى يقول إنه لم يبتعد تماماً عن المجال الذى أعلن التوبة عنه، حيث لجأ إلى صيانة الآلات الموسيقية متخذاً منها مهنة يعيش منها، رغم قلة دخلها على حد تعبيره. يضيف «المهنة زمان كان لها احترامها، لكنها الآن تفيض بالدخلاء». يشير أيمن إلى الشارع ويقول منفعلاً «بواكى شارع محمد على كانت أحلى حاجة بحبها فى الشارع، لكن دلوقتى المحلات بهدلتها». يتذكر أيمن واقعة طريفة حدثت معه ويقول «قبل ما أعتزل طلب منى واحد من المطربين الشعبيين اسمه عبده الإسكندرانى إنى أروح معاه فرح، وعشان كنت وقتها مشغول رشحت له واحد زميلى، لكن ما رضيش ياخده لما لاقاها لابس شبشب فى رجله، واتحايل علىّ عشان أروح معاه، وأول ما وصلنا الفرح سمعنا صوت أورج، فلقيت عبده بيقول عازف الأورج دا جامد قوى، فقلت له أنت عارف ده مين، قال لأ، قلت له ده أبوشبشب اللى ما كنتش راضى بيه»، ينهى أيمن حكايته قبل أن يضحك ويعاود الحديث «كانت الناس شكلها بسيط، لكن كانوا فنانين على حق».