هذه صفحات من كتاب «ما بعد إسرائيل» الذى صدر مؤخراً.. للكاتب السياسى أحمد المسلمانى. فى هذا الكتاب الذى نفدت طبعته الأولى فور صدوره، وتنشر «الوطن» أحد فصوله، يتحدث الكاتب عن الدين والسياسة فى إسرائيل. عن المتدينين اليهود الذين يريدون تطبيق الشريعة، ويرون أنه من لم يحكم بما أنزل الله فى التوراة هم حكام كافرون. وهم من يرون أيضاً أن الموسيقى حرام، والغناء حرام، والفنون حرام، ووجه المرأة عورة، وصوت المرأة عورة، وحياة المرأة هى رحلة واحدة من المنزل إلى القبر. وهم من ينتقدون نتنياهو كل يوم لأنه لا يطبق الشريعة ولا يُقيم الحدود من قطع يد السارق إلى جلد شارب الخمر إلى رجم الزانى. ويرى الكاتب أن تطبيق «الشريعة اليهودية» فى إسرائيل سيدفع إسرائيل للمزيد من العداء للإسلام، ولكنه سيدفع -فى الوقت ذاته- بإسرائيل إلى الهاوية.. سوف تشهد إسرائيل «ربيع الدين» ولكنها ستشهد معه «خريف الدولة». (1) وإذا كانت علاقة الإسلام باليهودية فى إسرائيل علاقة مرتبكة وناقصة وباهتة المعالم.. فإن علاقة اليهودية بالمسيحية داخل إسرائيل هى علاقات مسكوت عنها تماماً.. ولا يعرفها الكثيرون. وشأن حالة الإسلام واليهودية.. فإن المسيحية تعتبر اليهودية جزءاً من الإيمان المسيحى والتوراة شطراً من الكتاب المقدس.. غير أن اليهودية لا تعترف بالمسيحية ولا تؤمن بنبوّة السيد المسيح، وترى أنه جاء ثمرة لخطيئة ارتكبتها السيدة مريم، وأن المسيحية برمتها نوع من الكفر.. ولذا كان طبيعياً أن يقوم اليهود بصلب المسيح.. الذى لم يكن مسيحاً، لأن المسيح الحقيقى سيأتى فى آخر الزمان. وهو المسيح الذى تنتظره الديانات الثلاث.. الإسلام والمسيحية واليهودية، غير أنه فى الإسلام والمسيحية هو ذاته عيسى -عليه السلام- أو يسوع المسيح، ولكنه فى اليهودية ليس ذلك النبى الذى جاء، فظهوره سيكون آخر الزمان.. وللمرة الأولى. وترى الأصولية اليهودية والمسيحية معاً.. أن المسيح سيظهر فى فلسطين أو المنطقة المحيطة بها، ومن ثم فإن هذه المنطقة ستشهد كارثة ما قبل عودة المسيح، حيث سيموت ملايين الأشخاص.. والمعركة الشهيرة لتلك الأحداث فى آخر الزمان هى معركة «هرمجدّون». (2) حسب نظرية هرمجدون.. المسيطرة على الأصولية المسيحية.. فإن الله قد خلق العالم عام 4000 قبل الميلاد، وعمر العالم الآن طبقاً لذلك هو (6000) سنة. وأن الله الذى خلق العالم فى ستة أيام واستراح فى اليوم السابع.. سوف يوقع كارثة كبيرة فى نهاية الألف السادس تتبعها ألف سنة من الحكم الذهبى للمسيح.. أى إن العالم كله بناء على ذلك سبعة أيام من أيام الله، وإذا كان يوم الله بألف سنة من يوم الإنسان، فإن يوم الراحة السابع هو ألف سنة فى راحة البشرية فى حضور المسيح. ويذهب الكاتب «محمد السماك» إلى أن الإيمان بذلك يعود إلى السنوات الأولى للمسيحية، ثم عاد الإيمان بقصة «هرمجدون» فى العصور الوسطى من أجل دعم الحروب الصليبية، وفى القرن التاسع عشر وضع «جون نلسون» سيناريو لنهاية العالم من خلال نبوءات التوراة فجعل تاريخ العالم سبعة عصور.. والعصر السابع يتوج بعودة المسيح الثانية. وقد سيطرت هذه النظرية على الحركة الإنجيلية طيلة القرن العشرين، وصدر كتاب «هال لينسى» عام 1970م طبقاً لهذه النظرية وبيع منه 40 مليون نسخة، وعنوانه «الكرة الأرضية.. الفقيدة الكبيرة». والسيناريو الجذاب الذى جاء فى هذا الكتاب يجرى على النحو الآتى: مسيحيو الشرق يتعرضون للاضطهاد والطرد.. أعداء المسيح ينتصرون ويحكمون سبع سنين.. حرب نووية كبرى يعود بها المسيح. (3) الأخطر فى كل هذا الفكر.. هو أن قيام إسرائيل عام 1948م، يمثل أهم علامة على صحة هذا الفكر وتزايد الإيمان به والقتال لأجله.. إذن لا بد من إسرائيل قبل ظهور المسيح، ولا بد أيضاً من هدم المسجد الأقصى وإعادة بناء الهيكل الذى هدمه الرومان عام 70 ميلادية! وفى الولاياتالمتحدةالأمريكية زاد الإيمان بهذه النظرية، وفى ظل عملية الإحياء الدينى فى الولاياتالمتحدة.. تنامت الحركة الأصولية المسيحية. وداخل الحزب الجمهورى الأمريكى يشكل «التحالف المسيحى» مركز قوة كبيراً داخل الحزب، وهو المحرك ل«حملة الحرية الدينية وإنقاذ مسيحيى الشرق»، وتمثل حركة «حماة العهد» التبشيرية الإنجيلية، التى نظمت مظاهرة عام 1997م وحضرها مليون مؤيد أمام البيت الأبيض، قوة كبرى داخل الولاياتالمتحدة.. وبين الفريقين تحالف كبير. وهكذا.. التقت الأصولية اليهودية والأصولية المسيحية على إيمان واحد.. بقاء إسرائيل. (4) يمثّّل التحالف الجارى بين الأصوليتين اليهودية والمسيحية.. تحولاً عن مسار العلاقة بين الديانتين على مر التاريخ.. فالخلاف الجوهرى حول نبوّة المسيح وحول مسئولية قتله وصلبه حالَ دون الالتقاء قروناً طويلة. وقد كان الفاتيكان من أشد المعارضين للحركة الصهيونية منذ مؤتمر بازل عام 1897م، ورفض البابا بيوس العاشر فى لقائه مع تيودور هرتزل عام 1904م دعم الحركة الصهيونية وهجرة اليهود إلى فلسطين، كما لم توافق الكنيسة الكاثوليكية على وعد بلفور عام 1917م. ثم بدأ التنازل تباعاً.. فأعلن الفاتيكان الحياد إزاء إعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948م. ثم كان إصدار البابا يوحنا الثالث والعشرين عام 1964م وثيقة تقضى بتبرئة اليهود من دم المسيح. ولاحقاً.. أصدر البابا يوحنا بولس الثانى وثيقة تؤكد الأصل اليهودى للمسيح. وفى عام 1994م، بدأ التبادل الدبلوماسى رسمياً بين الفاتيكان وإسرائيل، وفى 1998م.. اعتذر الفاتيكان لعدم تدخله لإنقاذ اليهود من أيدى النازيين. والمشهود من تلك التطورات، أن الأصولية المسيحية ومعها رأس الكنيسة الكاثوليكية فى الفاتيكان.. تمضى فى اتجاه التوافق والتطبيع مع اليهود ديناً ودولة.. ولكن إسرائيل لم تقطع ذات الشوط فى الاتجاه المعاكس.. حيث يضمر الإسرائيليون ازدراء للمسيحية وعداء شديداً للتبشير بها فى الأوساط اليهودية. وفى عهد نتنياهو تجمع مئات اليهود أمام مكتبه للمطالبة بطرد المبشرين المسيحيين من إسرائيل وإحراق نشراتهم، كما ضربوا العديد من موزعى البريد الذين حملوا هذه النشرات. وأمر الحاخام «عوفاديا يوسف»، زعيم حركة شاس، موزعى البريد الإسرائيليين بحرق النشرات التى ترسلها الجماعات التبشيرية المسيحية باعتبار ذلك واجباً دينياً. وفى سبتمبر 1996، حظرت إسرائيل نشاطات جماعات التبشير المسيحى تماماً، وهو ما جعل أعضاء «الحركة العالمية لشهود النبوءات»، التى تأسست فى بريطانيا فى وقت سابق، إلى الشعور بالإحباط. وهذه الحركة تعمل بالأساس على التبشير بالمسيحية فى إسرائيل، إلى أن تهتدى إسرائيل إلى المسيحية. (5) ويذكر «سهيل ديب» أن الكاتبين «تارفورد» و«ماكنيكول» صاحبى كتاب «مرجل الشرق الأوسط «The Middle East Couldran».. . قد اكتشفا.. «أن التبشير هو أقوى سلاح يمكن به محاربة إسرائيل». ويشعر الإسرائيليون بالفزع من محاولات جذب اليهود إلى المسيحية، ولا يستشعرون الرضا تجاه الفاتيكان ولا مؤسسات أو رموز الدين المسيحى. وحين قام البابا يوحنا بولس الثانى بزيارة إسرائيل فى عام 2000م، نظم 2500 من الحاخامات والأصوليين مظاهرة قبل مجيئه لرفض أى محاولة من البابا لاختراق الدين اليهودى.. أو أن يكون له نوايا تبشيرية بتحويل اليهود للمسيحية. ولهذه الحساسية اليهودية تجاه المسيحية أصول تاريخية، فقد عانى اليهود من المسيحيين الكثير، وفى أوقات الشدة لم يكن لهم مخرج سوى اعتناق المسيحية. ويفسر البعض ذلك.. بكون العداء الذى واجهه اليهود، والذى كان يتراوح ما بين الاضطهاد والقتل، إنما صدر عن الصليبيين، ومحاكم التفتيش، ومارتن لوثر، وروسيا القيصرية. ولقد ظل هذا العداء قائماً حتى نهاية القرن التاسع عشر، ومن كان يعتنق المسيحية كان ينجو بنفسه. ويعترف الكاتب الأمريكى «ماكس ديمونت» المتخصص فى اليهوديات.. بأن «الفتح الإسلامى لشبه جزيرة أيبريا وإسبانيا والبرتغال.. قد وضع حداً لإكراه اليهود على اعتناق المسيحية. فتحْتَ حكم المسلمين الذى استمر خمسة قرون، نشأت إسبانيا ذات الديانات الثلاث والحضارة الواحدة، حيث شارك المسلمون والمسيحيون واليهود فى صنع حضارة امتزجت فيها ثقافاتهم ودماؤهم وأديانهم. حدث ذلك من قرون.. وقد ردت اليهودية على الإسلام بجزاء آخر؛ احتلال وتدمير، ثم إنكار لتقاليد عريقة فى الحوار والحياة المشتركة، وكأن هذا التاريخ لم يكن ذات يوم». - من كتاب «ما بعد إسرائيل»، طبعة دار ليلى، القاهرة، 2013.