عندما كان عمرى ست سنوات توفى والدى لكنى لم أعرف أننى حصلت بهذا على لقب «يتيمة»؛ إذ لم أعرف الكلمة ومعناها إلا عندما جلست جدّتى رحمها الله لتحكى لنا قصة سيدنا محمّد صلى الله عليه وسلّم وقالت: كان يتيما مات أبوه عبدالله قبل أن يولد وماتت أمه آمنة بنت وهب وعمره ست سنوات ومات جدّه عبدالمطّلب وعمره ثمانى سنوات، فقلت لجدّتى: هل يجب أن يموت كل هؤلاء ليكون الإنسان يتيما؟ فهمت منها أن هناك يتم الأب وهناك يتم الأم، شعرت بعد هذا الفهم بزهو لأن هناك شيئا يجمعنى بطفولة الرسول الحبيب وظللت أحرص فى صلاتى على تلاوة سورة الضحى؛ كانت عيناى تغرورقان بالدموع عند الآية الكريمة «ألم يجدك يتيما فآوى»؟ ويأخذ صوتى الحسم عند: «فأما اليتيم فلا تقهر». تعوّدنا منذ وعينا الحياة أن نحتفل بمولد النبى؛ ليالى القرآن الكريم والتواشيح الدينية، بأصوات بلابل القراءة والمدائح النبوية، وفى أجوائها الحلوى والزينات وبرنامج خاص للأطفال بالإذاعة. لم يحدث أن كانت الاحتفالات صاخبة فى أى يوم أو مبالغا فيها، ولذلك عندما ترتفع فى بعض الأحيان نغمة متجهمة تنادى بعدم الاحتفال بمولد النبى بحجة أنها «بدعة» أتعجب؛ فالذكرى باعثة على الفرح، إنها مولد الرسول نبى الرحمة، فكيف تكون بدعة أن نفرح وهو أمر لا حيلة لنا فيه؟ آمنة بنت وهب وخديجة بنت خويلد صديقتان؛ تزوجت آمنة من عبدالله بن عبدالمطلب، قد تكون آمنة أكبر فى العمر من خديجة وقد لا تكون لا يهم، المهم أن آمنة بدأت الميلاد وأكملت خديجة الاحتضان، بعدها بسنوات، وفقا للمشيئة الإلهية. تزوجت آمنة ثم سافر زوجها الشاب، وهى تحمل له جنينا، ثم يأتى النبأ الحزين بوفاته. تتحسس آمنة حملها الذى حفظه الله فى الغيب منذ آدم ليكون نبى آخر الزمان، حيث لا نبى ولا رسول من بعده. فى عام يُسمى عام الفيل تلد آمنة طفلا وضيئا تحمله الجارية «بركة» إلى جده عبدالمطلب فيطوف به الكعبة يعلن عن فرحه ويسميه محمدا. انصرفت المرضعات عن الطفل اليتيم لكن «بركة»، جارية آمنة، تستطيع أن تجد له المرضعة حليمة السعدية؛ كانت حليمة مرضعة فقيرة انصرفت عنها الأمهات فتآلف الطفل اليتيم مع المرضعة المتروكة ليضع الله الخير فى الإطار الذى يُقدّره ويحتاجه، وعمّ الخصب بيت حليمة وفاضت البركات ثلاث سنوات حتى عاد الطفل المحروس بعين الله إلى أمه موفورا صحّة وعافية. حكت حليمة لآمنة المعجزات التى رأتها وابتسمت الأم، ولعلها كانت قد أحست البشائر يوم مولده المُشرق. أخذت آمنة صغيرها ليزور أخواله وفى رحلة العودة إلى مكة يفاجئها المرض وتموت وتُدفن بأرض كان الرسول صلى الله عليه وسلم حين يمر عليها، فيما بعد، تدمع عيناه. لم يبق للصغير من الحنو سوى جده عبدالمطلب وجارية أمه «بركة»، التى صار اسمها أم أيمن، ومرضعته حليمة التى لم تقطع صلتها به أبدا. يموت الجد عبدالمطلب فيقدّر الله سبحانه للصبى اليتيم مأواه الكريم فى بيت عمّه أبوطالب ويبدأ «محمد» فى رعى الأغنام فلا يكون بعمله عالة على أحد، ويشب شريفا يافعا ومعه تلك الرجولة التى ميّزته منذ صباه بالصلابة والثقة والأمانة والصدق وشجاعة الحق، مع الرهافة والحياء اللذين تناقضا تناقضا بيّنا مع فظاظة قريش وغلاظة الجاهلية، فأحبه الجميع وأنس إليه الغرباء والضعفاء من العبيد والمساكين. اللهمّ، فى الذكرى العطرة لمولده الشريف، آت سيدنا محمّدا الوسيلة والفضيلة والدرجة العالية الرفيعة وابعثه اللهم المقام المحمود الذى وعدته، ونسألك ياربنا ألا تلبسنا شيعا ولا تُذق بعضنا بأس بعض آآآآآآآمين.