سُلطة المذيع، بضم السين وليس بفتحها، لأن الخلاف بينهما كبير، رغم أن كثيراً من المذيعين يخلطون بين الاثنتين، ويمارسون السُلطة على المشاهدين والضيوف، وفى الوقت نفسه يخلطون بين أشياء متناقضة تماماً كطبق السلطة -بفتح السين- لكن اليوم أناقش فقط سُلطة المذيع أو مقدم البرامج. المذيع أو مقدم البرامج لديه فى العالم سُلطات واسعة، فهو يمتلك الشاشة، ويدير الحوار، ويطرح الأسئلة على الضيوف، ويحدد وقت كل متحدث.. وكل هذه السلطات ليست مطلقة وإنما مقيدة بقواعد مهنية وبسياسة الإذاعة أو القناة، علاوة على مواثيق شرف إعلامية، لكن فى مصر المذيع سُلطاته واسعة ومن دون قيود، تماماً كرئيس الجمهورية فى الدستور القديم والجديد. عبقرية المذيع المصرى أنه يتحدث أحياناً أكثر من ضيوفه، ويعبر عن وجهة نظره وموقفه السياسى قبل أن يسأل ضيوفه، فالمذيع المصرى يبدأ برنامجه غالباً بمقدمة إنشائية طويلة، يعلن فيها رأيه السياسى، وربما انتماءه الحزبى، وبعد المقدمة يطرح المذيع الأسئلة، وقد يجيب عليها. وفى كثير من البرامج تكون الأسئلة سطحية وموجهة، مثل «ما رأيك فى القرارات المهمة التى أصدرها رئيس الجمهورية مؤخراً وأدت إلى تخفيض الأسعار عن محدودى الدخل؟»، وعندما تأتى إجابات أحد ضيوف البرنامج بما لا يتفق والتوقعات الشخصية للمذيع أو سياسة القناة فإنه يقاطعه ويمنعه من استكمال حديثه، من خلال تعليق استفزازى أو طرح سؤال جديد لا علاقة له بالسؤال الأول، أو نقل السؤال لضيف ثان، وأحياناً تقديم فاصل أو فقرة إعلانية.. المهم يقمع المذيع الضيف المخالف ويمنعه، وقد يمتد هذا المنع إلى عدم دعوته فى المستقبل للمشاركة فى البرنامج، بل ومنعه من الظهور فى برامج القناة كلها. سُلطة المذيع هنا ناعمة لكنها باطشة، فهو يلعب دوراً فى منع أو حجب شخصيات معينة من الظهور على الشاشة، لكن السُلطة الأخطر هى اختيار الموضوعات المثارة فى البرنامج وتوجيه النقاش وتحديد الوقت المخصص لكل موضوع وللمتحدثين. لا يعرف المذيع أن سُلطته مستمدة من فرضية -قديمة ومشكوك فى صحتها الآن- تدعى أن المذيع ممثل للرأى العام، وبالتالى عليه أن يعكس كل اتجاهات ومواقف الناس، ولا يتحيز لموقف منها، أى أن يكون متوازناً ولا يعبر عن رأيه الشخصى أو موقفه السياسى. لكن هل يعنى ذلك أن المذيع والإعلامى عموماً لا رأى له على الشاشة؟ الإجابة: نعم، بحسب القواعد المهنية المعمول بها فى الدول الديمقراطية، والتى تعنى أيضاً أن المذيع من حقه إبداء رأيه السياسى خارج نطاق الشاشة، فهو مواطن قبل أن يكون مذيعاً، ومن حقه المشاركة فى النقاش العام أو حتى الانتماء لأحد الأحزاب، لكن بعيداً عن مجال عمله، ودون خلط أو توظيف لهما. ومع زيادة التسييس فى الإعلام وظهور القنوات الخاصة والدينية انتشر المذيع الخطيب أو الداعية، الذى لا يستضيف أحدا، ولا يقدم تقارير مصورة، بل يكتفى بذاته، وقد تكون ذات جاهلة أو مغرضة، ومع ذلك يتحدث للجمهور فى كل شىء وعن أى شىء، ويعلن مواقفه السياسية فى أسلوب وعظى أو تحريضى، المهم أن يتحدث بلا توقف، لدرجة أن المشاهد يستطيع متابعته من دون أن يرى الشاشة، لأن هؤلاء المتحدثون بلا توقف حولوا التليفزيون إلى مذياع. والكارثة أنهم يحصلون على أجور مرتفعة جدا لاتتناسب وقدراتهم الإعلامية أو ثقافتهم، بل إن هذه الأجور هى الأعلى بين كل المذيعين ومقدمى البرامج فى العالم العربى!! أخيراً، عزيزى القارئ.. ما أسباب ظهور وانتشار المذيع المستبد، والداعية السياسى والمحرض؟ أظن أنك تعرف الإجابة.