تكتسب زيارة الملك سلمان بن عبدالعزيز إلى مصر، الخميس المقبل، أهمية استراتيجية خاصة، ذلك أنها الزيارة الأولى التى يقوم بها خادم الحرمين الشريفين إلى القاهرة، كما أن جدول الأعمال المشترك بينه وبين الرئيس عبدالفتاح السيسى يتناول التحديات والمخاطر التى تواجه الأمة العربية وسبل التصدى لها. وليس من شك فى أن ملف العلاقات المصرية - السعودية وتطورها يقلق الكثيرين، خاصة أمريكا ودول الغرب، وقد بذلت الأطراف المعادية جهوداً مكثفة فى فترات سابقة لإثناء السعودية عن دعمها لمصر، إلا أن المملكة أكدت أكثر من مرة أن أمن السعودية من أمن مصر، وأنها ترفض أى إملاءات أجنبية تستهدف ضرب العلاقات بين البلدين. لقد سبق للملك سلمان بن عبدالعزيز أن أكد أكثر من مرة أن موقف المملكة تجاه مصر واستقرارها وأمنها هو موقف ثابت لا يتغير، وقال: «إن ما يربط البلدين نموذج يُحتذى به فى العلاقات الاستراتيجية والمصيرية المشتركة، وإن علاقة المملكة ومصر أكبر من أى محاولة تستهدف تعكير العلاقات الراسخة والمميزة بينهما». وليس من شك فى أن سجلّ العلاقات بين البلدين هو وحده الكفيل بالرد على الادعاءات والأكاذيب التى تروّجها بعض الصحف ووسائل الإعلام الغربية بين الحين والآخر، ذلك أن هذا السجل زاخر بالمواقف العملية والفعلية التى أكدت كثيراً رسوخ هذه العلاقات ومتانتها فى مواجهة كل التحديات والضغوط. لقد لعبت المملكة العربية السعودية طيلة فترات التاريخ الحديث أدواراً هامة إلى جانب مصر فى أزماتها المختلفة وعلى مدى حقب زمنية عديدة، إيماناً منها بأهمية الدور التاريخى والاستراتيجى لمصر فى أمن المنطقة العربية ودعم نهوضها. فى أثناء العدوان الثلاثى 1956 وقفت المملكة بكل ثقلها إلى جانب مصر، وقدمت فى 27 أغسطس من نفس العام مساعدة مالية بلغت «100 مليون دولار» بعد سحب العرض الأمريكى لبناء السد العالى، وكان لهذا الموقف أثره الكبير فى صلابة الموقف المصرى ضد الشروط الغربية لبناء السد العالى. وفى 30 أكتوبر أعلنت المملكة التعبئة العامة لجيشها لمواجهة العدوان الثلاثى على مصر، وشارك فى هذه الحرب عدد من أبناء المغفور له الملك عبدالعزيز آل سعود وهما الملك الحالى سلمان بن عبدالعزيز والملك الراحل فهد بن عبدالعزيز. لقد وضعت المملكة فى هذا الوقت كل جهودها وإمكاناتها للدفاع عن مصر، فقامت باستضافة الطائرات المصرية فى شمال غرب المملكة خوفاً من تعرضها للغارات المعادية، كما قامت بوضع مقاتلاتها النفاثة تحت تصرف القيادة المصرية. وفى حرب أكتوبر 1973 لا ينسى أحد دور الملك فيصل بن عبدالعزيز الذى أصدر قراره التاريخى بالاشتراك مع أشقائه العرب بقطع إمدادات البترول عن دول الغرب، وهو القرار الذى كان له أثره الكبير فى مواجهة المخططات المعادية التى استهدفت النيل من مصر وحقها فى تحرير أراضيها. وعندما تولى الملك سلمان شئون الحكم فى المملكة فى يناير 2015 راحت الصحافة الغربية، وأيضاً بعض وسائل الإعلام المصرية والعربية - للأسف - تروّج بأن هناك متغيرات سوف تطرأ على سجل العلاقة بين البلدين، وأن سياسة المملكة فى العهد الجديد ستختلف حتماً عن السياسة فى عهد الراحل (العظيم) الملك عبدالله بن عبدالعزيز. لم ترد المملكة على هذه الادعاءات، ولكن الأفعال وليس الأقوال هى التى ردت عملياً على هذه الأكاذيب، إذ شهدت العلاقات بين البلدين تطورات إيجابية هامة على الصعيد السياسى والاقتصادى والأمنى، بما حقق لها مزيداً من الفعالية والتطور. وإذا كان المصريون لن ينسوا للمملكة دورها فى فترات التاريخ الحديث دفاعاً عن مصر ووقوفها إلى جانبها فى الأزمات، فإن موقف المملكة بعد ثورة الثلاثين من يونيو كان له دوره الكبير جنباً إلى جنب مع مواقف الإمارات والكويت ودول الخليج فى نجاح القيادة الجديدة فى مواجهة الكثير من الأزمات. ولن ينسى المصريون أبداً البيان الشهير للخارجية السعودية الذى جاء فى أعقاب لقاء الأمير سعود الفيصل (رحمة الله عليه) والسفير أحمد عبدالعزيز قطان (سفير المملكة فى مصر) مع القيادة الفرنسية والذى انتقد بكل قوة مسلك الغرب تجاه مصر وأعلن وقوف المملكة معها، وتحديداً فى أعقاب أحداث فض رابعة فى أغسطس 2013، وقبيل أن يرحل بقليل دعا الملك عبدالله بن عبدالعزيز، رحمة الله عليه، إلى مؤتمر للدول الداعمة لمصر، وكان بداية انطلاق لدعم سعودى غير محدود لمصر فى هذه الفترة. لقد خيّب الملك سلمان بن عبدالعزيز ظنون الكثيرين من الذين راهنوا على ضرب العلاقات المصرية - السعودية فكانت حكمته وأصالته وانحيازه لمصر أكبر من كل هذه المؤامرات. وكانت الزيارات المكوكية التى قام بها سمو الأمير محمد بن سلمان ولى ولى العهد، النائب الثانى لرئيس الوزراء ووزير الدفاع، لها دورها الكبير فى دفع العلاقات بقوة بين البلدين، وهو الأمر الذى تمخض عن إجراءات عملية بعضها معلن وبعضها غير معلن للوقوف إلى جانب مصر فى أزماتها الاقتصادية والسياسية المختلفة. وكان آخر هذه الإجراءات التى سبقت الإعلان عن الزيارة المرتقبة لخادم الحرمين الشريفين، هو هذا التوجيه الصادر من الملك سلمان بن عبدالعزيز بزيادة الاستثمارات السعودية فى مصر إلى 30 مليار ريال وتوفير احتياجاتها من البترول لخمس سنوات بقيمة تصل إلى 20 مليار دولار. وهكذا يتبلور الإيمان الحقيقى بأهمية العلاقات بين البلدين، وتعظيم دور مصر على الساحة العربية، وهو ما سيتبلور بشكل أكثر وضوحاً خلال زيارة الملك يوم الخميس المقبل فى زيارة رسمية وأخرى خاصة.. إن أهمية هذه الزيارة فى كونها تبعث بأكثر من رسالة إلى الداخل والخارج. فهى زيارة تعطى مؤشراً على تنامى العلاقات وتطورها بين البلدين، رغم كافة الضغوط التى تبذلها بعض الدول التى تسعى إلى تفتيت المنطقة لصالح المشروع الصهيونى التوسعى ولصالح تنفيذ مخطط الشرق الأوسط الجديد. وهى رسالة أيضاً إلى الغرب بأن المملكة لن تتخلى أبداً عن مصر، وأنها تدرك تماماً أن الأمن القومى العربى مستهدف، ولا يستثنى فى ذلك أحد. وهى تأكيد أيضاً أن خيار مصر للمملكة هو خيار استراتيجى، ليس فقط من منطلق الروابط الأخوية والعروبية بين البلدين، وإنما أيضاً فى مواجهة أحلام إيران التوسعية، التى بلورت نفسها فى التدخل فى شئون العديد من البلدان العربية كان آخرها اليمن. وهى إشارة أيضاً إلى أن مصر باتت آمنة ومستقرة وبأن قضاء الملك ثلاثة أيام فى إجازة خاصة فى أعقاب زيارته الرسمية هى دعوة لأبناء المملكة والخليج لقضاء إجازاتهم فى مصر وليس فى غيرها، وهو أمر لا يخلو من دلالة أيضاً. وهى أيضاً رسالة إلى الرئيس الأمريكى باراك أوباما الذى سيقوم بزيارة قريبة إلى المملكة، يلتقى فيها بقادة الخليج، بأن علاقة السعودية بمصر ليست مجالاً للمقايضة، أو التفريط، وأن عليه أن يدرك أن الأمن القومى العربى له الأولوية على العلاقات مع أى دولة أخرى. إن الزيارة المرتقبة لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز هى من الأهمية بمكان، بل ستمثل نقطة تحول فى مسار العلاقات بين مصر والسعودية، ذلك أن جدول أعمالها، والوفد المرافق للملك، يؤكد ويدلل على أن حجم الاتفاقات والتفاهمات بين البلدين سيكون كبيراً. إن مصر كلها، وعلى قلب رجل واحد، ترحب برجل قدّم لمصر ولا يزال يقدم الكثير، يقف فى صمت ودون ضجيج ويضع العلاقة مع مصر فى مكانها الصحيح، مهما كانت العواصف التى تستهدف اقتلاعها من الجذور.