ارتبطت الحضارة بالموسيقى، وفي مصر عشق أهلها الموسيقى، وعندما ذهبت الحضارة، بقيت الموسيقى ودائما و أبدا كانت "المزيكا" للجميع، تعبر عن مشاعرنا مهما اختلفت، وكأنها روح تُبعث داخل عشاقها و تَبعث فيهم أكثر من حياة، وفي زمن كان فيه المصريين مازالوا "أصحاب مزاج " استنبتوا البهجة من الموسيقى فقدمت لهم عظماء يملكون نغمها، وظهرت فرق من هواة الطرب إستخدموا روح الموسيقى الشرقية لإمتاع نفوسهم و تفريغ طاقاتهم، عرفوا ب"الصهبجية"، وكانوا مجموعات من البسطاء لكل منهم صنعته البعيدة تماما عن الفن، فقط جمعتهم صحبة الغناء من أجل "الروقان" في ليال سكنها الغناء والطرب، يتنفسون الدور والموشحات – وهم يعتبرون المدرسة المصرية الأولى لغناء الموشحات – لم يحترفوا الغناء قط، فقط اكتفوا بأن يجمعهم الليل بعد انتهاء عناء اليوم في العمل جالسين في مقهى أو حفل زفاف في دائرة يتوسطها رئيسهم عازف الدف "آلة الإيقاع" ليخلقوا بهجتهم الخاصة عبر ألحان وآهات وليالي. وضمت الأحياء الشعبية موائد البهجة المستديرة، فانتشر الصهبجية في حي المغربلين وبولاق بالقاهرة، ينشدون كلاما غير موزون خاصة وأن أغلبهم لم يتعلم القراءة والكتابة لكن يردد الموشحات عن طريق التلقين، و كان من بين أغانيهم الكثير الذي لا يحمل معنى و لا وزن موسيقي كالأغنية التي تقول جابو رواية من حدا الكسباني نغزل صمولي للطحال الضاني ويطلعوا منها الفراخ كتله زي الجاموس يطرح بلح حياني وكل بلحة فيها معمل طرشي وان خمّروها تطلع فول سوداني ويذكر أن الفنان كامل الخلعي – وهو شاعر وملحن من أعلام الموسيقى العربية – أراد أن يختبر مغني الموشحات من الصهبجية في المقامات الموسيقية العربية والضروب فوجدهم لا يفقهون عنها شيئا، فألف قصيدة غاضبا ونشرها في جريدة "الجلاء" قال في جزء منها : و مغن أن تغني أوسعُ الندمان غماً دفه يدوي كصوت الرعد للآذان أصماً خارج عن كل وزن يبدل التكات تماً أحسن الجُلاس حظاً من كان أصماً وربما كان الصهبجية تعبيرا عن روح العمال والحرفيين البسيطة، الذين طلبوا البهجة في الموسيقى، وبرغم جهلهم بالقراءة والكتابة حفظوا الموشحات ورددوها واستمتعوا بها، لكنهم لم يتوقفوا بل تطوروا و تحولت الصهبجية إلى مدرسة جمعت كثيرا من مؤدي الموشحات كان من أشهرهم انذاك الشيخ محمد البوشي - وعبد العزيز البولاقي - والشيخ درويش الحريري - و محمد رزق - وحسنين المكوجي - والحاج شحاتة الحلواني - وابراهيم سطوحي النجار - ومحمد المغربي النقاش - وعبد الحمدي الجزمجي - ومحمد مراد - ومحمد الشنتوري - وعبد الرحيم المسلوب - و محمد سلام العجوز، لقب أغلبهم على أساس حرفته التي يعمل بها صباحا بمنتهى البساطة، فلم يكن لهم أي هدف من التغني بالموشحات سوى الأنس، وكان أكثرهم شهرة و تأثيرا في الحفاظ على فن الموشحات، وابتكار الدور الغنائي هو "عبد الرحيم مسلوب " الموسيقي الذي عاش مائة وخمسة وثلاثين عاما، ومن أشهر ما لحن موشح "لما بدا يتثنى "، وعلى يده خرج تلاميذ عظماء مثل "صالح عبد الحي" الذي تأثر كثيرا بالإستماع للموشحات التي غناها الصهبجية، و"عبده الحامولي" الذي نقل سهرات الصهبجية من المقاهي إلى مجالس تعقد خصيصا لهم في القصور، و"محمد عثمان" الذي لحن العديد من الموشحات و أشهرها موشح "ملا الكاسات"، ويعتبر أيضا "سلامة حجازي" و"داوود حسني " فنانين أنجبتهم مدرسة الصهبجية التي حفظت الموشحات الموروثة وأضافت وطورت في فن الموشحات و الإرتجال . ويمكن وصف الصهبجية بأنهم "صوت الشارع" الذي عبر عن عمال فقراء أغناهم صوتهم، فاغتنوا واستغنوا به عن أي سبل أخرى للرفاهية، وربما كان سبب ارتباطهم بالموشحات هو بساطتهم و جهلهم بالقراءة و الكتابة كما أن الموشحات – خاصة غير الموزونه - تغنى بشكل سلس و يمكن تلحينها على أي وزن موسيقي أكثر من القصائد ذات الوزن و القافية ، لذلك يمكن الربط بين اختفاء فرق "الصهبجية " و بين إختفاء فن "الموشح" الذي اختفى مع بدايات القرن العشرين مع ظهور مدارس موسيقية "غنائية" أخرى . اختفى الصهبجية كما ندرت البهجة، لكن ظلت سيرتهم وبعض أغانيهم يرددها الموعودون، و كتب لهم وعنهم "صلاح جاهين أغنية "يا صهبجية"، و لحنها "سيد مكاوي" ، وغناها محمود عبدالعزيز بعد ذلك بسنوات في فيلم "الكيت كات". Video of يا صهبجيه- من فيلم الكيت كات