هنا المترو.. مجتمع مصغر يمثل كل أطياف المجتمع وفئاته، فيه ترى آلام الناس وأوجاعهم، وتستطيع من خلاله قياس مدى وعى المجتمع وثقافته وآرائه السياسية، التى قد تنقلب إلى جدل سياسى، قد يمثل استفتاءً شعبيًا بصدق وفطرة. ففى عرباته يختلط عرق أصحاب البدل وأصحاب العمم، ويقول المثل الشعبى إن أردت أن تسمع أوجاع الناس انزل لهم واجلس بجوارهم، وهو ما فعله محررو «الصباح». المشهد الأول البداية كانت فى مترو الدقى، يشكل 3 شباب دائرة فى زاوية إحدى العربات، أحدهم يمسك بكاميرا فى يده اليمنى، موجها سؤاله إلى زميله عن موقفه تجاه الأزمة القائمة بين نقابة الصحفيين ووزارة الداخلية، ليرد الأخير بأن هناك حقوقًا مشروعة لنقابة الصحفيين، ولكن توسيع دائرة مطالبهم إلى اعتذار الرئيس كان سببًا فى انقلاب الرأى العام ضدهم، وتم توسيع دائرة المعركة بصورة عكسية، ليرد الثالث، بأن هذه الأزمة ستنتهى كما بدأت. مناقشة أخرى فى آخر عربية المترو، ذاتها، يجلس 3 كبار السن يتحدثون عن ارتفاع الأسعار، سيدة ورجلان يظهر من حديثهم أن هناك صلة قرابة تربطهم ببعضهم البعض، تبدأ السيدة الخمسينية الحديث عن ارتفاع الأسعار، قائلة إن الطبخة الواحدة تكلفها عشرات الجنيهات، لدرجة أن كيلو الأرز وصل إلى 8 و9 جنيهات، وكل ذلك على الطبقة الفقيرة والمتوسطة التى لا تتحمل ذلك، يرد عليها أحد الرجلين - فى الستين من عمره -، بأن الوضع أصبح مذريًا، وأن التجار يستغلون الأزمة لتحقيق أرباح كبيرة لصالحهم، ووقف الثالث صامتًا، وتتجمع على ملامحه علامات الغضب والحزن. فى محطة الشهداء نزل ركاب، وركب آخرون، بعد تشابك عنيف بين الطرفين، بعد محطتين من محطة الشهداء، بدأت مناقشة بين 3 مواطنين، اثنان جالسان على الكراسى، وثالث يقف ممسكًا باليد البلاستيكية الموصلة بسقف المترو، ليتحدثوا عن أزمة العمالة فى مصر مقارنة بدول مثل سوريا والعراق وليبيا بعد الأزمات التى مرت بها البلاد مؤخرًا. بدأ الحديث بأحد الجالسين قائلًا «الحمد لله هنا متوظفين، وبنقبض كل شهر ومستورة، ما بالك بقى بدول زى سوريا والعراق وليبيا، الناس مش قادرة تعيش، كلها دمار وخراب وقتل وتعذيب، لكن مصر الأوضاع مستقرة والحمد لله»، يستكمل الحديث المواطن الذى يجلس بجواره، وظهر من خلال حديثه أنهما يعملان فى جهة حكومية واحدة، بقوله «الكلام دا صحيح تمامًا، ويا ريت كل الناس اللى بتتظاهر تحس بالنعمة اللى هيا فيها وترحمنا». تدخل فى الحديث المواطن الذى يقف مواجهًا لهما، ليؤكد أن هذه الوظيفة هى حق مشروع ولا يستطيع أحد إنكار أن الوضع فى مصر أفضل من غيره بكثير، لكن أيضا هناك حقوق مشروعة كفلها الدستور والقانون، وهو الحق فى العمل والتعبير عن الرأى والخدمات من كهرباء ومياه، وضوابط للسلع والأسعار وغيرها، وإشراك الجمهور فى اتخاذ الرأى مثل قضية تيران وصنافير على سبيل المثال، لينتهى الوضع بالقول إنه «إخوان»، لينزل فى محطة روض الفرج مسرعًا. حوار من نوع آخر، كان بين شابين فى المترو، فى العشرين من عمرهما، يتحدثان عن قصة حب واحد منهما، يقول الأول «والله يا صاحبى بحبها وهيا مش معبرانى، المشكلة فى الحب اللى من طرف واحد، بس أنا نهيت الموضوع بعد ما شفتها مع واحد تانى»، يرد عليه زميله «طبعا دى حقيقة، بس الموضوع انتهى خلاص، طنش، بس المهم إيه أخبار مغامراتك الجديدة»، ليضحك الطرفان وينتهى الحديث. أما ما يحزن وجوه ركاب المترو، ويغضب وجوه البعض الآخرين، فهم شحاذو المترو وحكاياتهم، فأم فى الثلاثين من عمرها تحمل طفلًا حديث الولادة، وأخرى كبيرة فى السن تدفع ابنها فى عقده الأول من عمره على عجلات أصحاب العاهات التى تعوق الحركة، وآخر مسن يطلب الرحمة وإنقاذه من مرضه الخبيث، وغيره وغيره، يتعاطف الركاب مع بعض هؤلاء الشحاذين، ويتجاهلون آخرين، ليخرج أحد ركاب المترو عن غضبه قائلا «هو الشحاذة بقت مهنة ولا الفقر قتل الغلابة». المشهد الثانى فى الطريق لخط المرج، «فتحى»، هكذا عرف نفسه خلال الحوار الذى دار بينه وبين آخرين من ركاب المترو بشأن حوار عن أحداث الاغتيالات التى يتعرض لها رجال الشرطة كل يوم.. قال فتحى «الشرطة مخترقة من عناصر داخل الشرطة نفسها، يقومون بإبلاغ تلك الجماعات بتحركات أى أفراد، والدليل على ذلك أن هذا ليس كمينًا أساسيًا لهؤلاء الأفراد من الشرطة، لأنهم كانوا فى طريقهم للقيام بعملية مرتب لها من قبل الداخليه، وتم إبلاغ تلك الجماعة فسبقوا هم باغتيالهم وهم فى طريقهم».. عنا اشترك معهم آخر بقوله إن هناك نقصًا فى تجهيز وتسليح أجهزة الشرطة، وأن الشرطة لا تعمل باحترافية مقارنة بهذه العمليات التى تتعرض لها كل يوم تلو الآخر. هنا تدخل بالحديث رجل صوته أجش وملامحه عريضة، وحين تحدث سكت الجميع لضخامة صوته، وقال جملتين ونزل إلى محطة «حمامات القبة»، قائلًا «الشرطة تعلم أن حلوان بها بؤر إخوانية كثيرة جدًا ولم تتعامل معها»، وجزم بأن الشرطة تحتاج حماية الجيش لأنها لم تستطع أن تحمى نفسها، وأن «وزير الداخلية يتحتم عليه، بموجب الكرسى الذى يجلس عليه، وأن يتوقع ماذا تفكر فيه تلك البؤر بعد غد بدلًا من أن نشيّع كل يوم (كومة) من الجثامين من أولادنا». وفى نفس العربة كانت هناك مجموعة من فتيات الجامعة اللاتى يتحدثن عن تعنت بعض الأساتذة فى طرقة الشرح أثناء المحاضرات واحتسابهم شرح أجزاء معينة فى المناهج دون شرحه، اعتراضًا على أسلوب الطلاب مع أساتذتهم. وتطرق الحديث بينهن إلى أحداث الساعة، واغتيال أفراد الشرطة، وحالة الحزن التى توجد فيها صديقتهم شيماء لأن هناك صلة قرابة بين أسرتها وأسرة النقيب المغتال فى الحادث الأخير وهو من محافظة المنوفية. وعلى الرصيف طارد فرد أمن المحطة بائع أدوات منزلية كان موجودًا بالمترو، وحين رآه فرد الأمن قرر مطاردته لاختراقه القانون، حينها رد البائع وهو يجرى مهرولًا «انتوا بتقدروا علينا احنا، رحووا شوفوا اللى بيقتلوكلوا كل يوم زى الفراخ». فى مشهد آخر، وقف رجلان يتحدثان عن حريق العتبة، يلومان فيه الحكومة وفشلها فى إخماد الحريق، مؤكدين أن مركز الإطفاء يتواجد بالقرب من المكان ومع ذلك لم تستطع كل تلك العربات الاطفائية من إخماد الحريق، تدخل فى الحديث رجل آخر قائلا «هذا الأمر ليس بيد أحد، ففى كندا أحرقت الحرائق مدينة كاملة وهجرها كل من فيها، ولم تستطع عربات الإطفاء وقوات الحماية المدنية من إخماد الحريق الذى التهم كل المدينة بما فيها، وتسببت فى إصابة العشرات وخسائر بالملايين لعدة أيام»، وقف الثلاثة يتحدثون عن الأمر والباقى يستمع إليهم، الرجلان يؤكدان أنه فشل من رجال الحماية والآخر يدافع عن رجال الإطفاء، ويؤكد أن الفشل سببه الأساسى تجار المنطقة الذين يقومون برمى الكراتين الفارغة والأوراق والأشياء التى لا يحتاجون إليها فى أكوام قمامة خلف المخازن، مما يتسبب فى إشعالها بسرعة، نظرًا لقابلية احتراق تلك الأشياء من أتفه الأمور، كعود كبريت أو السجائر. المشهد الثالث نزلنا فى محطة المرج للخط الثالث، خط العباسية، الذى لا يكون مزدحمًا فى العادة، يجلس الجميع فى هدوء وراحة، ووسط الأغانى الوطنية والنظام، فتحنا حديثًا مع سيدة فى ال54 من عمرها كانت تجلس بجوارنا عما يحدث فى مصر من أزمات متتالية، فقالت بانفعال إنها لا تهتم لكل ما يحدث، الشىء الوحيد الذى يشغلها هى وأسرتها والمصريين على حد قولها هو ارتفاع الأسعار ونقص مخزون التموين الذى كانت تشتريه سابقًا ب40 جنيها به زيت وأرز وسكر وغيرها من المواد الغذائية، والآن لا تحصل على أغلب تلك الأمور فى تموينها بسبب نقص أغلبها من منافذ البيع، واستطردت السيدة «الجميع يعانى من حالة إحباط بسبب الظروف المادية السيئة وارتفاع الأسعار الواضح وخاصة الكهرباء والغذاء» على حد وصفها.
المشهد الرابع حديث آخر نتج عن خبر فى جريدة عن المشاريع التى تم إنجازها، وعلى رأسها أفدنة القمح التى يتم حصادها، ليتساءل أحدهم «طيب أحنا إيه اللى هيوصل لنا من ده» فيرد عليه الآخر «بالتأكيد أن تحسن الوضع العام للبلد هيعود على الجميع»، ليرد ثالث «ياسيدى طول عمرنا بنسمع عن المشاريع ونشوفها فى التليفزيون، لا مرتبنا بيزيد ولا بيقولوا ده نصيبكم فى المشروع»، فيضحك رابع «يا جماعة خلوها ماشية وخلاص»، آخر يقول «الناس مش عاجبها حاجة لا المشاريع ولا عدمها»، فيرد آخر «يا أستاذنا مش موضوع الناس مش عاجبها، بالتأكيد الناس نفسها يبقى فيه تقدم فى كل المجالات، بس المشكلة إن التحسن بينعكس على فئة بعينها فقط والباقى ولا بيوصل ليه حاجة»، تنتهى الوقفة على تمسك كل فرد بوجهة نظره، فيما يقوم قارئ الجريدة بطيها ليتوقف الحوار. لم تسلم عربات الرجال من حوار السيدات اللاتى يقتحمن عربة الرجال، فالحديث الذى نشب بسبب ركوب سيدة لعربة الرجال تحول إلى حديث سياسى، بعدما قالت «يعنى ما انتوا فى كل مكان بتتباهو إننا جمبكم وفى المترو تدايقوا، ما احنا على طول بنبقى معاكم فى كل حتة»، ليرد آخر «يعنى احنا رايحين ثورة كلها دقايق ونازلين»، وهنا يفتح الحديث بشأن الثورات التى لم يأت منها إلا الخراب، ليمتد الحديث إلى تيران وصنافير وحق الشعب، فيما أكد آخر أنه لا أحد يفرط فى أرضه، فرد ثالث « واللى بيقول كلمة حق ولا بيعبر عن رأيه بيتحبس»، ودخلت فى الحوار سيدة «يا أخويا أنت وهو ركزوا فى أكل العيش ومصاريف البيت ولا انتو بقيتوا تتحججوا إن ما فيش شغل وتقعدوا فى البيت وخلاص، والاسم البلد ما فيهاش»، ليرد آخر «يا اخوانا الشغل موجود بس كل واحد لازم يبدأ بنفسه». حوار أخير، دار أيضا بشأن ارتفاع الأسعار، وفواتير الكهرباء وأسعار اللحوم وموت الشباب فى الخارج من أجل لقمة العيش، كما أن أحدهم كان يحاول إقناع البعض بضرورة الهجرة والبحث عن مصدر رزق فى الخارج، وتساءل آخر «هل يمكن أن يؤدى الغلاء إلى خروج المواطنين، أم لا»، ليتفق الجميع على أن الشعب لن يفكر فى الخروج مجددًا، لأنه يعرف أنه لا شىء سيتحقق وأن بأى خروج سيسوء الأمر أكثر وأكثر.