أجهزة الدولة رحبت بوجوده وزملائه لأنه كان يساعدها فى إبعاد الشباب عن العنف وعندما تغير دوره.. أبعدوه ظهر لأول مرة فى برنامج تليفزيونى على القناة الثانية ينتجه صاحب ساقية الصاوى وأول وزير ثقافة بعد الثورة شاهدته لأول مرة فى مسجد المغفرة وكان يتحدث عن أفضال المسلمين الأغنياء عن الإسلام شائعة عن ارتداء زوجة علاء مبارك للحجاب بسبب دروسه أدت لإيقافه عن الخطابة فى مصر نهائيًا الشيخ صالح كامل تبناه بعد خروجه من مصر وكان يصور حلقات برامجه فى بيروت كتاباتى فى «روز اليوسف» أدت لإيقافه عن الخطابة فى مسجد المغفرة فكتبت أدافع عن حريته وأطالب بمقاومته لا منعه فى عام 2000 كانت مصر على موعد مع ظاهرة جديدة.. كانت هناك إرهاصات طوال السنوات العشر السابقة.. لكن الظاهرة أعلنت عن نفسها فى عام 2000، كان ثمة داعية جديد.. شاب.. له جماهيرية كبيرة فى صفوف المراهقين، ويلقى دروسه فى مسجد المغفرة بحى العجوزة.. ولم يكن هذا هو الظهور الأول له.. كان طوال سنوات النصف الثانى من التسعينيات يظهر بشكل متدرج.. ظهر أولًا فى مسجد نادى الصيد ضمن ظروف شرحتها من قبل بالتفصيل وسأعود لها فيما بعد.. ثم ظهر على شاشة القناة الثانية فى برنامج إعلانى كانت تقدمه المذيعة المحجبة كاريمان حمزة وترعاه إعلانيًا الوكالة المملوكة لمحمد الصاوى والذى صار وجهًا شهيرًا فى عالم الثقافة فيما بعد.. قدم البرنامج دعاة مثل ياسين رشدى.. وعمر عبد الكافى.. ثم عمرو خالد.. وكلهم صاروا من مشاهير الدعاة الذين أطلقت عليهم فيما بعد اسم الدعاة الجدد. قبل هذا الظهور الجماهيرى على مسرح الدعوة بعامين.. كانت مصر تشهد محطات مهمة لابد من التوقف أمامها.. ففى يناير عام 1998 توفى الشيخ الشعراوى أشهر الدعاة المصريين وأكثرهم قدرة على التأثير فى الجماهير والموالاة للسلطة معًا.. فى ذلك العام أيضا أعلنت الجماعة الإسلامية عن مبادرة وقف العنف للمرة الأولى وبدا أن هناك ترحيبًا لدى المتحكمين فى الملف الدينى فى مصر بظهور نوع جديد من الدعاة ينبذون العنف.. ويهجرون فكر الجهاد.. ولا يعرفون الكثير عن (الحاكمية).. ولا يتجهون بخطابهم لجموع الفقراء المستعدين للتحول لقنابل بشرية موقوتة بحثًا عن جنة السماء بعد أن عزت عليهم جنة الأرض.. فى التسعينيات أيضا كانت سياسات الخصخصة قد بدأت.. وظهرت بشائر ظهور الطبقات الجديدة فى مصر.. كانت ثمة شرائح جديدة تنضم للطبقة الوسطى، وكانت شريحتها العليا تنتعش، وكان عشرات آلاف من المهنيين الذين هاجروا للخليج قد عادوا بعد أن كانت الأجواء مواتية للعودة والاستقرار والاستثمار.. وكانت هذه الطبقة وفى القلب منها شبابها ذوو التعليم المختلف والمرتبطة وظائفهم بقطاعات الاستثمار العالمى فى مصر فى حاجة إلى مشروع ثقافى جديد.. وفى غيبة السياسة.. والثقافة والدولة ظهر عمرو خالد. المرة الأولى التى شاهدته فيها كانت فى مسجد المغفرة.. كان المشهد أشبه بمهرجان شبابى.. المسجد مكتظ بمن فيه والشوارع المحيطة تحولت لجراج كبير لمختلف أنواع السيارات.. الميكروفونات الضخمة تنقل الصوت لمسافة بعيدة والناس باقون فى سياراتهم يسمعون الدرس على طريقة (التيك أواى).. كان درسًا معدًا مسبقًا وكان بائعو الفيديو كاسيت أمام المسجد يبيعون شرائط تحتوى على نفس الكلام الذى يردده الداعية على المنبر.. من اللحظة الأولى كان عمرو خالد يصيغ خطابًا طبقيًا باقتدار.. كان يختطف الإسلام لحساب الأثرياء والموسرين والطبقات الجديدة التى تشكل منها جمهوره فيما بعد. كان الدرس عن أهمية الثروة فى الإسلام، وكان الداعية يخاطب جمهوره عن أهمية أن يكون المسلم ثريًا حتى يستطيع أن يقنع الناس بالإسلام (عاوز أبقى غنى.. علشان أعزم الناس وأحببهم فى دين ربنا)!! كان ثمة أخطاء تاريخية وثقافية واضحة، وكان هناك خطاب طبقى تكرر فى خطاب زملاء عمرو خالد من الدعاة الجدد بشكل عام.. كان هناك مزج بين مناهج التنمية البشرية التى تهدف إلى بيع حلم النجاح للشباب وبين التدين على طريقة عمرو خالد. وكان من اللافت أنه غير ملم بأبسط قواعد الحديث أو حتى ملامح السيرة النبوية.. لفت نظرى أنه كان يشجع الشباب على تعلم اللغات الأجنبية، ولكنه فى سبيل ذلك روج كذبة كبيرة تقول إن صحابة النبى أقاموا معسكرًا لتعلم اللغات الأجنبية حتى يتمكنوا من حمل رسائل الرسول (صلى الله عليه وسلم) لملوك الممالك المحيطة بالجزيرة العربية، ولم يكن ذلك سوى كذبة كبيرة، فالصحابة الذين كتبوا الرسائل ثم حملوها فيما بعد كانوا من أهالى الدول التى حملوا إليها الرسائل، فذلك سلمان الفارسى، وهذا صهيب الرومى، وذاك بلال الحبشى.. وكانت هذه القصص الخاطئة التى صاغها عمرو خالد وغيرها العشرات مؤشرًا له دلالته، ولعل ضحالة ثقافته ونقص علمه قد استمرا معه فيما بعد رغم أن شهرته قد طبقت الآفاق. على أن خداع عمرو خالد لجمهوره لم يتوقف على صياغة القصص الخاطئة فقط، ولكن كانت ثمة خدعة أكبر، فالداعية الصاعد قدم نفسه لجمهوره على أنه داعية اجتماعى لا تربطه علاقة بالسياسة، وكان ذلك مرضيًا ومطمئنًا للقاعدة العريضة من جماهيره الجديدة التى اطمأنت لداعية يستطيع أن يغير من سلوك المراهقين دون أن يبحر بهم فى بحار السياسة المضطربة. لكن الحقيقة كانت غير ذلك على نحو أكيد فلم يكن عمرو خالد سوى واحد من أبناء جيل الثمانينيات فى جماعة الإخوان المسلمين، وهو جيل له خصائص مختلفة عن جيل السبعينيات الذى تولى عملية إحياء الجماعة.. كان عمرو واحد من أبناء هذا الجيل، وكان رئيسًا لاتحاد طلاب جامعة القاهرة ومرشحًا على قوائم الجماعة الإسلامية فى انتخابات الجامعة فى 1988، وبحكم سكنه فى حى الدقى كان عمرو أحد أفراد الفريق الانتخابى المعاون للمستشار مأمون الهضيبى فى انتخابات مجلس الشعب عام 1987، كان عضوًا منظمًا فى جماعة الإخوان المسلمين.. ولم تكن هذه المعلومات سرًا بطبيعة الحال.. لكنها أيضا لم تكن متاحة خارج نطاق جماعة سرية مثل جماعة الإخوان المسلمين، وقد أمدنى بها محام شهير من أبناء نفس الجيل فى جماعة الإخوان اختلف مع الجماعة ثم عاد إلى أحضانها بعد أن صعدت لسدة الحكم تمامًا، كما فعل عمرو خالد فيما بعد..وقد أحدثت المعلومات ضجة كبيرة حين نشرتها فى «روز اليوسف» عام 2000، وكان الغريب حقًا هو نفى عمرو خالد لأى علاقة تربطه بجماعة الإخوان المسلمين !! والحقيقة أن عمرو خالد لم يكن الداعية الوحيد الذى نشأ فى صفوف الإخوان ثم فضل أن يقدم نفسه بعيدًا عنها بحثًا عن تأثير أكبر، أو ممارسة لفكرة التقية، أو هربًا من قواعد الطاعة الأبوية التى تفرضها الجماعة على المنتمين إليها وتبقيهم بها فى إطار من التقزيم والتبعية حتى ترى أمرًا آخر. وقد قدم لى الباحث الكبير وحيد عبد المجيد تفسيرًا آخر لنفى خالد المستمر لعلاقته بالجماعة التى ربته ورعته قائلًا إن هناك قاعدة تحكم التنظيمات السرية بشكل عام، وتقول إن أى عضو يحقق قدرًا من الشهرة يفوق شهرة قادة التنظيم فإن عليه أن يغادر.. حيث تفقد قاعدة السمع والطاعة معناها، وهو تفسير رأى أنه قد ينطبق على حالة عمرو خالد. والحقيقة أن كتاباتى فى «روز اليوسف» عن عمرو خالد أحدثت قدرًا كبيرًا من الضجة وقتها سواء بين جمهور مؤيديه أو معارضيه، وإن كان انطباع الأغلبية عنها وقتها إيجابيًا (ولا ظن الحال هكذا الآن)، وقد انبرى الكاتب المعروف إبراهيم عيسى للدفاع عنه فى جريدة الميدان التى كان يكتب لها وقتها عقب إيقاف جريدة الدستور.. على أن أبرز ردود الفعل بعد حملة استمرت شهرًا كاملًا كان إيقاف عمرو خالد عن الخطابة فى مسجد المغفرة بحجة تعطيل الدروس التى يلقيها لحركة المرور فى المنطقة.. وأذكر أننى دخلت فى خلاف مع مجلس تحرير المجلة وقتها، وكانت وجهة نظرى أن مجلة مثل «روز اليوسف» تدافع عن حرية الرأى التعبير لا يجب أن تؤيد منع أى أحد حتى ولو كان من أعدائها.. وأذكر أن رئيس التحرير الأستاذ محمد عبد المنعم انحاز لوجهة نظرى ضد الأغلبية.. فكان أن كتبت مقالًا بعنوان قاوموه ولا تمنعوه.. أطالب فيه الدولة بالقيام بدورها نحو الشباب بدلًا من تركه لعمرو خالد ليختطفه عقليًا.. وهى رسالة لم تصل لا للدولة ولا لعمرو خالد الذى أرسل لى رسالة مع محررة شئون رجال الأعمال فى المجلة يقول لى فيها إنه يدعو علىّ فى الثُلث الأخير من الليل.. وكان ردى أننى لو أعرف أن مثله مستجاب الدعاء لما هاجمته من الأساس. اختراق الملا كان عمرو خالد وزملاؤه يستهدفون التأثير فى الطبقات الغنية واختراقها واستمالتها نحو المشروع الإسلامى، كان الهدف هو أن تحقق دروس الدعوة ما عجزت عن تحقيقه محاولات الانقلاب والاغتيالات وجولات الانتخابات وهى كلها طرق جربتها الجماعة الأم وفشلت فيها، كان ما يحدث جزء من مخطط أسميته وقتها (الأسلمة من أسفل)، والمعنى أن يتم تغيير المجتمع من القاعدة لا من القمة، وأن يترك الدعاة الصراع على رأس السلطة ليغيروا المجتمع من القاعدة ويتحولوا هم أنفسهم إلى سلطة اجتماعية تحكم وتتحكم. أما خطة اختراق النخبة فقد عبر عنه الداعية عمر عبد الكافى أستاذ عمرو خالد وأحد الذين قدموه حين قال فى حوار صحفى إنه يعتبر نفسه داعية الملا..والملا هم النخبة الارستقراطية القرشية أو سادة مكة الذين كذبوا الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وعارضوا دعوته فى البداية، وبغض النظر عن دلالة التعبير الذى يعتبر النخبة الثرية فى مصر مشابهة لكفار قريش فإن الرجل كان يعرف جمهوره، وما الذى يريده منه، وقد سار عمرو خالد على نفس الطريق فى اختيار جمهوره بدءًا من المساجد التى يخطب فيها إلى لغة الخطاب التى يتحدث بها إلى طبيعة العلاقات التى صاغها مع الفئات المؤثرة فى المجتمع المصرى، ولعل هذا كان سببًا أول توقف فى رحلة صعود عمرو خالد. استمر الداعية فى رحلة الصعود وانتقل إلى مسجد أكبر هو مسجد الحصرى تحت رعاية الفنانة ياسمين الخيام، واتسع نطاق شهرته وتأثيره لكنه فجأة تعرض للإيقاف وسرت شائعة تقول إن الرجل مضى فى تحقيق خطة اختراق النخبة حتى القمة.. وأن تغييرًا كبيرًا طرأ على نمط حياة علاء مبارك وزوجته هيدى راسخ بعد أن استمعا لدروسه، وأن زوجة علاء مبارك ارتدت الحجاب تأثرا بما يقوله خالد، وضمن موجة تأثير واسعة استهدفت تحجيب الشابات من نفس الطبقة الاجتماعية التى تنتمى لها هيدى وأحدثت أثرًا كبيرًا وقتها. لم تتأكد الشائعة ولم يتم نفيها، ولم تظهر صورة واحدة لهيدى راسخ وهى ترتدى الحجاب، وإن كانت ظهرت صور كثيرة لها فيما بعد فى مظهرها العادى. لكن الأكيد أن استراتيجية السلطة فى التعامل مع عمرو خالد قد تغيرت، وبدلًا من النظر له على أنه داعية منزوع العنف وأن خطابه مضاد للخطاب الجهادى الذى أرهق الدولة كثيرا.. أعيد النظر له على أنه داعية إخوانى يهدف لاختراق النخبة وأخونتها.. تم إيقاف عمرو خالد من الخطابة وطلب منه أن يعود لعمله كمحاسب.. لكنه اختار الخروج خارج مصر. فى رعاية الشيخ صالح كامل الذى قدمه تليفزيونيًا خرج عمرو خالد إلى بيروت فى عام 2003، وهناك كان يصور حلقات برامجه المتتالية لشبكة الإيه آر تى السعودية، والحقيقة أن بيروت كانت مركزًا لتصوير برنامجه فقط، بينما كانت لندن هى مقر إقامته الحقيقى حيث أعلن أنه يدرس للحصول على رسالة دكتوراه حول التعايش فى الإسلام.. والحقيقة أن إقامته فى لندن كانت بداية لنقلة أخرى فى حياته، والمعنى أنه انتقل من اللعب فى النطاق المحلى إلى اللعب على ملعب أوسع تحول إلى لاعب دولى.. التقط خوف الغرب من الإرهاب وقدم لهم البضاعة التى يريدونها.. الإسلام المتعايش.. صاغ خطابًا جديدًا.. أو صيغ له خطاب جديد وبدا فصل جديد فى قصة الثروة والسلطة والشهرة.