بعد التطورات الأخيرة، يبدو المشهد الديني المصري وكأنه في حاجة إلي إعادة صياغة لمكوناته، هذه المكونات الثلاثة الآتية كانت تتراوح في تصدرها للمشهد بين حين وآخر ولعل أول هذه المكونات هو دعاة المؤسسة الدينية الرسمية وهذه لم تكن في أفضل حالاتها لسنوات طويلة وإن كان الوضع قد تغير مؤخرا بعد تولي الإمام الأكبر الجديد بروحه الإحيائية والتي ستحتاج لسنوات كي تبدو آثارها واضحة للعيان، في حين أن المكون الثاني والذي احتل المشهد مؤخرا وبشراسة هو مؤسسة الدعوة السلفية بمختلف تجلياتها وقد حظيت ببعض الدعم سابقا لسنوات مختلفة ثم اتضح حجم تجاوزاتها في الملف الطائفي والوطني والضرر الذي يحدثه هذا النوع من الدعاة علي المجتمع وعلي مستقبل الوطن بأكمله وهو ما أفضنا في شرحه مبكرا ولسنوات طويلة، في المشهد يتبقي مكون ثالث وهو ظاهرة الدعاة الجدد التي تبدو الآن قديمة بعض الشيء وربما أيضا في طريقها للتحلل والاختفاء كما سنري في التفاصيل القادمة. وإذا كان لنا أن نتحدث عن بعض مشاهير الدعاة كرموز لهذه الظاهرة فسنجد أن هؤلاء انقسموا لثلاثة أقسام أولهم قسم حاول أن يتمسح في المؤسسة الدينية الرسمية بحثا عن الشرعية وعلي رأس هؤلاء عمرو خالد وخالد الجندي، وثانيهم قسم حاول أن يلحق بالتيار السلفي في سنوات صعوده الأخيرة وتحول من تبني خطاب الدعاة الجدد إلي تبني المقولات السلفية المتطرفة وعلي رأس هؤلاء الداعيان صفوت حجازي وخالد عبدالله، أما القسم الثالث فهو تيار مازال يعبر عن خطاب الدعاة الجدد كما ظهر لأول مرة منذ عشر سنوات ويعبر عنه داعيان ينتميان للجيل الأحدث هما مصطفي حسني ومعز مسعود، وهما بالتأكيد لايحظيان بنفس التألق والذيوع الذي أحاط بهما وقت ظهورهما وإن كانا لايزالان قابعين في زاوية المشهد. وإذا كان لنا أن نتجاوز عن عمرو خالد الذي أفضنا من قبل في وصف حالته والذي استغل الأحداث الأخيرة وميل الإمام الأكبر للانفتاح علي الجميع بوصفه أكبر من الجميع، فسنجد أن عمرو خالد استغل الأحداث الأخيرة محاولا الطفو علي السطح مرة أخري ليشغل الفراغ الذي خلفه الغضب علي الدعاة السلفيين وخرج من مقابلة سريعة مع شيخ الأزهر ليطوف بوسائل الإعلام محدثا إياها عن مبادرة جديدة يطلقها بعنوان إنترنت بلا فتنة! وكانت الفتنة موجودة في الإنترنت فقط وليس في الواقع الذي مهد له عمرو خالد وإخوانه، ولم تكن هذه المبادرة الوحيدة من عمرو خالد للتمسح بالمؤسسة الرسمية سواء كانت دينية أو غير دينية ولعله سيبذل محاولات أخري في المستقبل. -- وإلي جانب عمرو خالد سنجد في المشهد أيضا خالد الجندي وهو في الأساس داعية أزهري كان واعظا في وزارة الأوقاف المصرية قبل أن يعرف طريقه لعوالم الدعوة الجديدة من خلال مسجد نادي الصيد ثم شاشة قناة الأوربت الفضائية وقد بذل محاولات كثيرة للتمسح في المؤسسة الدينية الرسمية مبكرا سواء من خلال محاولة نسج علاقة مع وزارة الأوقاف ووزيرها باعتباره واعظا في الوزارة، ثم من خلال إطلاق قناة أزهري التي حاول تصويرها علي أنها لسان حال الأزهر وهي المحاولة التي تصدي لها مجمع البحوث الإسلامية بشدة عبر بيان له، لكن هذا لم يمنع الجندي من محاولة التسلل لشيخ الأزهر الراحل محمد حسين طنطاوي وسط استياء تلاميذ الشيخ ورجاله المقربين وهو الاستياء الذي عبر عن نفسه بعد تولي الإمام الطيب الذي صك الجندي وقناته بعد توليه مباشرة بتصريحات شديدة اللهجة كانت تعني أن الجندي لا يعبر عن الأزهر ولا عن مؤسسته لا بقناته ولا بغيرها، أما علي مستوي وزارة الأوقاف فمازال الشيخ سالم عبدالجليل وكيل الوزارة ورجلها القوي يشغل منصب مدير عام القناة التي يملكها الجندي، أما علي مستوي الإعلام الرسمي فما زال الجندي يطل بشكل أسبوعي عبر الشاشة الرسمية وإن كانت أسهمه قد تراجعت كثيرا بعد ظهور الفقيه سعد الهلالي الذي بات يشاركه الفقرة أحيانا ويستأثر بها وحده أحيانا! الجندي، عبر كل هذه السنوات، لم ينجح سوي أن يكون واعظا بأجر ينقل الفتاوي عن الفقهاء، ويسعي للتعريض بالآخر الوطني كلما أتيح له ذلك وهو في سنواته الأولي كان سعودي الهوي بدرجة كبيرة، وبشكل عام لم ينجح في صوغ رسالة اجتماعية أو فقهية خاصة به ولم ينجح في خدمة شيء سوي مشروعه الشخصي، وبشكل عام أيضا لايوجد من يمكن أن يجيب عن السؤال ما الذي استفاده المجتمع من وجود خالد الجندي طوال هذه السنوات سوي تهديده للمفكر جمال البنا بالذبح، وتصدره لتوافه الأمور. وإذا كان انحسار ظاهرة الدعاة الجدد عبر تقلص القناتين «اقرأ» و«الرسالة» وتوقف شركات الإنتاج التي أفرزت الظاهرة، وصعود التيار السلفي، قد دفع عمرو خالد وخالد الجندي للتمسح في المؤسسة الدينية الرسمية، فإن هذا الانحسار قاد كلا من د.صفوت حجازي والداعية خالد عبدالله إلي طريق آخر تماما، حيث التحقا بالتيار السلفي في سنوات صعوده الأخيرة، والحقيقة أن د.صفوت حجازي كان ينطوي علي ميل سلفي كامن جاء عبر سنوات ثمانية عمل فيها في المدينةالمنورة كمهندس مساحة ودرس فيها الفقه في الحلقات السلفية المختلفة، لكن تكوينه كإخواني سابق وضعه في المنطقة الوسطي، وبعد سنوات كان فيها حجازي واحد من الذين يطرقون موضوعات الدعوة الجديدة من خلال التركيز علي الرقائق وقصص التاريخ الإسلامي، والموضوعات الاجتماعية، التحق خالد الجندي في السنتين الأخيرتين بقناة «الناس» السلفية، بل إنه كان يشغل منصبا إشرافيا فيها، وقد ساهم عبر برنامجه في طرق الملف الطائفي وخصص حلقات منه لمناقشة قضية كاميليا شحاتة فضلا عن إقدامه علي تكفير الشيعة والتحريض عليهم علي خلفية هجوم شيعي علي السيدة عائشة رضي الله عنها، وقد كانت حلقات برنامجه أحد مبررات إغلاق القناة التي ينتمي إليها بسبب طرقه للموضوعات الطائفية والمذهبية أيضا، وهو حاليا بلا منبر إعلامي وإن كان قام مؤخرا بتأسيس رابطة علماء السنة المسلمين التي يشغل حاليا منصب أمينها العام. -- أما الداعية خالد عبدالله فهو مهندس رياضيات ندي الصوت بدأ حياته مؤذنا وقارئا للقرآن الكريم ثم تحول إلي داعية من الدعاة الجدد علي خلفية حالة فراغ أعقبت سفر عمر عبدالكافي ثم عمرو خالد خارج البلاد، خالد عبدالله الذي أطل أيضا عبر فضائيتي اقرأ والرسالة وعرف كواحد من الدعاة الجدد عرف طريقه للفضائيات السلفية في سنوات صعودها الأخيرة، وبدأ كسلفي ملتزم يرفض مجالسة المذيعات في البرامج العادية ووقع عقدا احتكاريا مع قناة الناس السلفية وكان برنامجه من البرامج التي أثارت الملف الطائفي وساهمت في حالة التصعيد الأخيرة، وهو حاليا بلا ظهور إعلامي أو دعوي واضح، وهو أيضا بعد كل هذه السنوات يبدو بلا رسالة ولا تأثير إيجابي لا علي المجتمع ولا علي أخلاق الناس ولا علي أي شيء. أما الفريق الثالث من الدعاة الجدد فهو أولئك الذين بقوا علي حالهم في طرق موضوعات الدعوة الجديدة منذ تبلورها في بداية هذا العقد، هذا الفريق يعبر عنه الداعيان مصطفي حسني ومعز مسعود وكلاهما في بداية الثلاثينيات من حياته، مصطفي حسني يشبه عمرو خالد في بداية حياته وهو تلميذ مباشر له، تخرج مثله في كلية التجارة، وعمل مندوبا للمبيعات ثم معدا لبرنامج عمرو خالد، ثم وجد فرصته بعد رحيل خالد عن الإيه آر تي، وهو معروف بأسلوبه العاطفي الذي يجاري فيه عمرو خالد، ومازال يطل علي الجمهور عبر الإيه آر تي دون هدف واضح غير الأهداف التجارية ودون رسالة واضحة سوي الرسائل القديمة. -- ولا يشابه مصطفي حسني سوي الداعية معز مسعود وهو خريج جامعة أمريكية، وله شركة ناجحة في مجال الأعمال والإعلان، معز الذي يطل علي الجمهور عبر فضائية المحور أسبوعيا يبدو أكثر عقلانية في خطابه، وجمهوره ينتمي للشرائح الاجتماعية الأعلي والأصغر في السن، وهو لايميل للأسلوب العاطفي الفج الذي عرف به عمرو خالد ويحاول أن يصوغ رسالة اجتماعية عامة بعيدا عن أحكام العبادات والفقه، ولكنه بشكل عام لم يأت بجديد. -- بشكل عام يبدو أن هناك حالة من الخلل في هندسة المشهد الديني في مصر فقد تم إطلاق الدعاة الجدد للحد من نفوذ الأفكار الجهادية التي كانت مازالت حية في التسعينيات وانفتح علينا طوفان الدعاة الجدد من كل صوب وحدب، وفي منتصف الألفية الثانية تواري الدعاة الجدد ليظهر السلفيون بفضائيات ما أنزل الله بها من سلطان وبات المجتمع سلفيا إلا قليلا وانطبق علي الوضع المثل القائل أنه ما (أسخم) من الدعاة الجدد إلا السلفيين، وما أن تدهور الوضع في الملف الطائفي لهذه الدرجة حتي امتدت القبضة القوية تجاه السلفيين ووجدنا عمرو خالد يظهر لنا برأسه بعد سنوات من الاختفاء، مما يعني عودة الدعاة الجدد مرة أخري، ودعاة الأزهر غائبون وأمامهم فترة تعافي قد تستمر لسنوات! والحقيقة أن هذه اللعبة سخيفة وتصيب بالملل فضلا عن أنها عقيمة، وقد أطبق الدعاة الجدد والدعاة السلفيون علي المجتمع لسنوات ومكنوا من كل المنابر والقنوات والمساجد فلا الأخلاق تحسنت ولا الإنتاج زاد ولا المصريون أصبحوا أفضل حالا بمقدار ذرة، والسؤال من الذي يتولي هندسة المشهد بهذه الطريقة السخيفة والمملة؟ وهل هو مؤهل لذلك؟ وأين رجال السياسة والفكر والمثقفون؟ ولماذا لا يمكن هؤلاء من مخاطبة المجتمع والتأثير فيه لعل الحال يكون أفضل؟ علي الأقل لن يكون أسوا مما نحن فيه!