حرمة الدماء والأموال في ضوء خطبة حجة الوداع، موضوع خطبة الجمعة القادمة    "البحوث الفنية" بالقوات المسلحة توقع بروتوكول مع أكاديمية تكنولوجيا المعلومات لذوي الإعاقة    وزارة العمل: توفير 7 ملايين و240 ألفا فرصة عمل فى الداخل والخارج منذ 2014    المشاط: ترفيع العلاقات بين مصر واليابان يؤسس لمرحلة جديدة لتلبية تطلعات البلدين    إزالة 465 حالة إشغال طريق مخالف بمراكز البحيرة    تدشين 3 خطوط جديدة للشركة الوطنية مصر للطيران بالقاهرة خلال يوليو المقبل    ارتفاع أسعار المكرونة واللحوم وانخفاض الجبن اليوم الجمعة بالأسواق (موقع رسمي)    اليوم تسيير 27 رحلة جوية إلى الأراضي المقدسة    وزير الخارجية السوداني: روسيا من الدول التي ستشارك في إعادة إعمار السودان    منظمة العمل العربية: متابعة طلب فلسطين بالعضوية الكاملة فى "العمل الدولية"    بايدن يعتذر لزيلينسكى عن تأخير المساعدات العسكرية لأوكرانيا    غدا.. الأهلى يواجه النجوم ودياً استعداداً لفاركو فى الدورى    القائمة النهائية لمنتخب إسبانيا المشاركة في يورو 2024    أول تعليق من وسام أبو علي بعد ظهوره الأول مع منتخب فلسطين    مقتل سوداني بمساكن عثمان بأكتوبر    تسهيلات لراحة الحجاج.. بعثة الداخلية تستقبل آخر فوج بالمدينة المنورة| صور    مصرع شخصين داخل بيارة أثناء التنقيب عن الآثار بالبحيرة    بدء تلقى تظلمات الشهادة الإعدادية بكفر الشيخ الأحد    نيللي كريم تستعرض إطلالتها الساحرة في حفل زفاف جميلة عوض | فيديو    تشييع جنازة نادر عدلى في العاشر من رمضان اليوم والعزاء بالمعادى غداً    أحكام الأضحية.. ما هو الأفضل: الغنم أم الاشتراك في بقرة أو جمل؟    مفتى السعودية يحذر من الحج دون تصريح    الأوقاف: افتتاح أول إدارة للدعوة بالعاصمة الإدارية الجديدة قبل نهاية الشهر الجاري    مواعيد صلاة عيد الأضحى 2024    «مفيش بشر».. شوارع الوادي الجديد خالية بسبب ارتفاع درجة الحرارة    «التعليم العالي»: تحالف جامعات إقليم الدلتا يُطلق قافلة تنموية شاملة لمحافظة البحيرة    الانتخابات الأوروبية.. هولندا تشهد صراع على السلطة بين اليمين المتطرف ويسار الوسط    وزير الزراعة يعلن فتح اسواق فنزويلا أمام البرتقال المصري    قوات الدفاع الشعبي والعسكري تنظم عددًا من الأنشطة والفعاليات    مذكرة تفاهم بين مصر وجامبيا للتعاون في إدارة الأنهار المشتركة والتحلية    مصر وروسيا تبحثان سبل تعزيز التعاون في مجالات التجارة والصناعة والاستثمار    الموسيقات العسكرية تشارك في المهرجان الدولي للطبول والفنون التراثية    عيد الأضحى- فئات ممنوعة من تناول الممبار    بروتوكول تعاون لاستقطاب وافدين من أوروبا والخليج للعلاج بمستشفيات «الرعاية الصحية»    في ذكرى ميلاد محمود مرسي.. تعرف على أهم أعماله الفنية    صلاح يفوز بجائزة أفضل لاعب في موسم ليفربول    ضبط المتهمين بالشروع في قتل سائق وسرقة مركبته في كفر الشيخ    إخماد حريق داخل محل فى حلوان دون إصابات    بمناسبة عيد الأضحى.. زيارة استثنائية لجميع نزلاء مراكز الإصلاح والتأهيل    أيام البركة والخير.. أفضل الاعمال في العشر الأوائل من ذي الحجة 1445    أكسيوس: فشل اجتماع القاهرة لإعادة فتح معبر رفح    الأنبا باخوم يترأس قداس اليوم الثالث من تساعية القديس أنطونيوس البدواني بالظاهر    بعد غيابه عن الملاعب.. الحلفاوي يعلق على مشاركة الشناوي بمباراة بوركينا فاسو    تفاصيل موعد جنازة وعزاء المخرج المسرحي محمد لبيب    اليوم.. سلوى عثمان تكشف مواقف تعرضت لها مع عادل إمام في برنامج بالخط العريض    التعليم العالى: إدراج 15 جامعة مصرية فى تصنيف QS العالمى لعام 2025    ضياء السيد: حسام حسن غير طريقة لعب منتخب مصر لرغبته في إشراك كل النجوم    يونس: أعضاء قيد "الصحفيين" لم تحدد موعدًا لاستكمال تحت التمرين والمشتغلين    وزيرة الثقافة وسفير اليونان يشهدان «الباليه الوطني» في الأوبرا    علي عوف: متوسط زيادة أسعار الأدوية 25% بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج    المتحدة للخدمات الإعلامية تعلن تضامنها الكامل مع الإعلامية قصواء الخلالي    محافظ أسوان: طرح كميات من الخراف والعجول البلدية بأسعار مناسبة بمقر الإرشاد الزراعي    إصابة 7 أشخاص في انقلاب سيارة ميكروباص على الطريق الدائري في القليوبية    خلاف داخل الناتو بشأن تسمية مشروع دعم جديد لأوكرانيا    مداهمات واقتحامات ليلية من الاحتلال الإسرائيلي لمختلف مناطق الضفة الغربية    توقعات الأبراج اليوم الجمعة 7 يونيو 2024.. ترقيه جديدة ل«الحمل» و«السرطان»يستقبل مولودًا جديدًا    مجلس الزمالك يلبي طلب الطفل الفلسطيني خليل سامح    غانا تعاقب مالي في الوقت القاتل بتصفيات كأس العالم 2026    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قبسات من روائع البيان - سورة الإسراء
نشر في الفجر يوم 01 - 10 - 2011

(سُبْحَانَ الذَي أَسْرَى بِعَبِدِهِ (1)) إنّ أمرَ الإسراء لَيَسْتَحِقّ الحمدَ والثناء والشكر لله، وهذا يُناسِبُهُ أن يَسْتَهِلَ الابتداءَ بالحمد، فيقول (الحمد لله الذي أسرى بعبده)، كما قال سبحانه في مطلعِ سورة الكهف في مَعْرَضِ المِنّة (الْحَمْدُ لِلهِ الذّي~أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ) فلمَ بدأ قصة الإسراءِ بالتسبيح دون الحمد؟ هذا من براعةِ الاستهلالِ الذي يُناسِبُ مَقَامَ المُعْجِزَةِ الخارِقة، مُعْجِزَةِ الاسراء، لِأنّهُ أمْرٌ خارقٌ لِلعادة، فناسبَ اَن يبدأهُ بلفظٍ يُشِيرُ إلى كمالِ القدرة وتَنَزُّهِ اللهُ عن صفاتِ النقص.


(سُبْحَانَ الذّي أَسْرَى بِعَبِدِهِ (1)) لِمَ وصفَ النّبي صلي الله عليه وسلم بصفةِ العبد فقال (بِعَبْدِهِ)، ولم يصفهُ بالنبوّة كأن يقول (سبحان الذي أسري بنبيِّهِ)؟ وصف اللهُ تعالى نبيهُ صلّى اللهُ عليهِ وسلُم بالعُبُوديةِ فقال (أَسْرَى بِعَبِدِهِ)، لأنّهُ أشرفُ المَقَامات وأسمى المراتِبِ العَلِيَّة، ولهذا قال القاضي عِيَاض:

وممّا زَادَني شَرفا وتِيها وَكِدتُ بِأخْمَصَي أطَؤ الثّرَيّا

دخولي تحت قولِكَ يا عِبادي وَأن صَيّرْتَ أحمدَ لي نَبيا


(وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ (13)) لننظر إلى هذا التعبير الذي يرسم أمامنا صورة شاخِصة تشِفُّ عن معناها، فقد استعار لملازمةِ الإنسانُ لِعملِهِ الذي يُجزَى بهِ استعارَ صورة القِلادة التي تلزَمُ العُنُق ولا تكادُ تنفكُ عنهُ ، وهذا كُلُّهُ لِيُقَرِّبَ لكَ أيّها الإنسان صورة الحسابِ دونَ نقص.


(وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)) لِنتأمّل هذا المَشْهد الذي يُفاجئُ به كلّ الإنسانٍ يوم القيامة، حيث يُعْرضُ عليهِ سِجِلُّ أعمالهِ في كتابٍ منشور، ووصفُ الكتابِ بالمنشور إيماءٌ إلى سرعةِ اطلاع الإنسانِ على جميعِ ما عملَهُ، فالكتابُ قد أُحْضِرَ مفتوحًا قبل وصولِ صاحبهِ لِلمُطالَعَة.


(وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (15)) الوِزْر هو الثّقَل العظيم، وإنّما عبّر بهِ ربُّنا هنا عنِ (الإثم) لِتَشْبِيهِ (الإثْمِ) بالحملِ الثّقيل لِمَا يَجُرُّهُ منَ التّعب لِصاحبهِ في الآخرة، فكما إنّ الحِمْلَ يُتْعِبُ صاحبهُ ويُرهقُ كاهلهُ، فكذلك الإثمَ فإنّهُ يَقْصمُ ظهرَ صاحبه.


(مَنْ كَانَ يُرِيد الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيْهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ (18)) وقال تعالى (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَاُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَّشْكُورًا (19)) لقد عبّرَ ربُّنا عن سعي الإنسانِ وراء الدّنيا وحرصهِ على نَيْلِها بالفعل المضارع فقال (يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ)، بينما عبّر عن إرادةِ الآخرة بالماضي فقال (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا) في هذا إيماءٌ إلى أنّ إرادةَ الإنسانِ العاجلة مُتكرِّرةٌ مُتجدِّدة، وأنَّ إرادة الآخرة أدنى من إرادةِ الدّنيا ولذلك عبّرَ عنِ الآخرة بالماضي (أَرَادَ الْآخِرَة) الذي يدُلُّ على الرّسوخِ والثّبات.


(وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئك َ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا(19)) لِمَا قَيَّد ربّنا إرادةَ الآخرةِ (بالسعي)، ثم أكّدهُ بالمصدر (سَعْيَهَا) فقال (وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا) مع أنّه كان يمكن أن يقتصر على الفعلِ فيقول (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ)، في ذكرِ المصدر (سَعْيَهَا) نتبيهٌ لنا على أنّ إرادةَ خيرِ الآخرة (من غير سعي) غُرور، وأنّ إرادة كُلّ شئٍ لابد لِنجاحهِ منَ السَّعي في أسبابِ حصوله، وللهِ دَرُّ عبد الله بن المبارك الذي قال:

ترجو النّجاة ولم تَسْلُك مَسَالِكَها إنَّ الّسَفِينةَ لا تَجْرِي عَلَى الْيَبَسِ


(لَا تَجْعَل مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعَدَ مَذْمُومًا مَخّْذُولًا (22)) القعود هو الجلوس، ومن جلس على حجرٍ إلتصق بهِ، ومن قعد مخذولًا مذمومًا فقد إلتصق بهاتين الصفتين ولازمهما.


(إمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا (23)) ننظر إلى هذا السِّيَاجِ المَنِيع الذي ضربهُ ربُّنا حول حُرْمَةِ الأبوين، فقد نهانا عن النطق ب (أُفّ)، مع أنّ النهى ليسَ المقصودِ بهِ هذه الكلمة خاصةً، وإنما خصّ النهى ب (أُفّ) لأنها أوجَزُ كلمة تُوحى الأذى باللسان، ولأنها لا تدلُ على أكثر من حصولِ الضّجَرِ دونَ شَتْمٍٍ أو ذمّ، فإن كنّا قد نًهينا عن هذا الأذى الذي لا يشْعرُ بهِ الإنسان وهو يَتَفَوّهُ بهِ، فما بالك بما هو أشدّ أذىً سواءٌ أكان باللسان أم كان بالجوارح.


(وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ (24)) لننظر إلى هذا التعبير عن التواضع للوالدين، فقد صاغه تعالى لنا في صورة تذلل الطائر عندما يعتريه خوفٌ من طائرٍ أشدِ منه، إذ يخفضُ جَناحهُ مُتَذلِّلاً، والمؤمن يتذلَّلُ أمام والديه تذلُّل رحمةٍ وعطفٍ مَشُوبًا بالخوف من غضبهما الذي يُغْضِبُ الله.


(وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةًًإِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطَهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)) لننظر إلى هذه الصورة التى تأسرُ الفؤاد، فهى صورةٌ فريدةٌ لشخصَيتَنِ متناقضتينِ تماماً، شخصيةِ البخيل وشخصية المُسرِف، فأما البخيل فقد مثَّلتهُ الصورةُ بالذي غُلَّت يدُهُ إلى عنقهِ وشُدَّت بالقيدِ خَشْية أن تذلّ يدُه فتنفقَ ولو درهمًا، وأما الصورة الأُخرى فهى على نقيض هذه الصورة تماماً، فقد رسمت صورةَ المسرف و مثَّلت حالَهُ بيدٍ مبسوطةٍ غايةِ البسط بحيث لا تحفظُ ما يقعُ فيها.


(فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)) ننظر إلى هذه الخاتمة البيِّنة، فقد جاءت مُلائمةً لِما سبقها في قوله (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطَهَا كُلَّ الْبَسْطِ) فالبخيلُ ذُكِرَ أولاً فأتى جزاؤهُ أولاً فقال (فَتَقْعُدَ مَلُومًا) لأن البخيل مَلُوم، والمُسْرِف هوَ المَحْسُور. ولكن لِمَ وُصِفَ المُسرفُ (بالمحسور) ولم يوصف بالملوم؟ إذا رجعنا إلى معنى (المحسور) رأينا أنه يُقالُ لِلبَعِيرِ (حسيرِ) إذا أتعبه السير فلم تبقى لهُ قوّة، فاستُعِيرَ هذا الوَصفُ لِلمُسرِف، لِأنّهُ عندما يُضِيعُ كُلّ مالِهِ إسرافًا إنّما يُنْهِكَ قوتَهُ ويُلْقِي بنفسَهُ إلى الرَّدَى، حيث يَغْدُو غَيرَ قادرٍ على إقامةِ شُؤونهِ، فناسبهُ أن يُوصف (بالمحسور) الذى لم تعدّ لهُ قوة.


ويقول تعالى (وَلَا تَقْتُلُوا أوْلًادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإيَّاكُمْ (31)) نقف أمام مثل من دقائقِ التعبير القرآني العجيبة ، ففي هذه الآية قدّمَ ربنا سبحانه رزق الأبناء على رزق الآباء فقال (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإيَّاكُمْ)، بينما في (سورة الأنعام) آية (151) قدَّمَ رزق الآباء فقال (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإيَّاهُمْ)، فما السر في هذا التقديم والتأخير؟ إنّ السّر في ذلك أن قتلَ الأولادِ هنا في (سورة الإسراء) كان خَشيَةِ وُقُوعِ الفقرِ بِسببهم فقدّمَ تعالى رزق الأبناءِ على الآباءِ ، وفي (سورة الأنعام) كان قتلُهم بسبب فقرِ الآباء فعلًا فقدّم رزقَ الآباء؛ فللهِ دِرُ التنزيل ما أروع أسرارهُ.


ويقول تعالى (إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)) لِمَ قال ربنا (خِطَئًا)، ولم يقل (خَطَأًً كبيرًا)؟ إنَّ سرَّ التعبير القرآني في الآية يَكْمُنُ في كسرِ حرف الخاء {خِطْئًا} لأنه يدلُ على مَن أصابَ إثمًا ، والإثمُ لا يكونُ إلا عن عَمْدٍ، وأما (الخطأ) بفتحِ حرف الخاء فهو ضِدُّ العَمْد وفعلُهُ (أخْطَأ) واسم الفاعل فيه (مُخْطِئ)، كقوله تعالى (وليْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيْمَا أخْطَأتُمْ بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدت قُلُوبُكُمْ) في هذا بيانٌ لهم بأنّ قتلهم للأولاد إثمٌ ليس فيه ما يُعْذرُ عليه فاعِلُهُ.


(وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هّذَا الْقُرْءَانِ لِيَذّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إلّا نُفُورَا (41)) لنتأمّل إلى هذا التعبير (وَمَا يَزِيدَهُمْ إلَّا نُفُورًا)، لعلك تقول أين التصويرُ والتمثيلُ في هذهِ الكلمة (نُفُورًا)؟ إنّ النفور هو هروب الدابةِ بجزعٍٍ وخشية من الأذى، فعبّرَ ربنا عن إعراضِهم عن النورِ والذكرِ (بالنفور) تنزيلاً لهم منزلةِ الدوابِ والأنعامِ وما ذاك إلا لِغَرابَةِ أن يَصْدُرَ مثلُ هذا مِن البشر.


(وَإن مِّن شَئٍ إلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ (44)) لِما نفى اللهُ عنّا فِقهَ تسبيح الكائنات ولم ينفي عنا علمَ تسبيحهم؟ في قوله (لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) إشارةٌ إلى أن (المكسي) هو تسبيح الكائنات قاطِبَةًً هوعلمُ دقيقٌ جدًا لا قدرةَ لنا على إدراك كُنْهِهِ مهما أُوتينا من العلمِ والإدراك.


(وَإذَا قَرَأَتَ الْقُرْءَانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذِّينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)) لِننظرْ إلى هذا الوصف وما يُضْفِيهِ على الموصوفِ من إيغالٍ وقوة، فقد وصف ربنا (الحجابَ المستور) بالمبالغة في حقيقةِ جِنْسِهِ، أيّ هو حجابٌ بالغُ الغاية في حَجْبِ ما يَحْجُبُهُ، حتى كأنهُ مستورٌ بساتِر، وكأنّهُ يقول: وجعلنا حجابًا فوق حجاب.


(انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيْعُونَ سَبِيلًا (48)) نحن نعلمُ أن المُشركين نَسَبُوا النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى السّحْر، وممَثَّلُوهُ بالمَسْحُور، وهذا مثلٌ واحد، فلِمَ جمعَ ربنا (الأمثال) فقال (ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ)؟ جَمَعَ ربنا (الأمْثَال) وإن كان المَحْكِييُ عنهم أنهم مثَّلُوه بالمسحور وهو مثلٌ واحد لأنّ المقصودَ التعجيبُ من هذا المثلِ ومن هذا الضّلال، وهل رأيتَ أعجبَ من نِسْبَةِ الحبيبِ محمد صلى الله عليه وسلم إلى السحر !


(إنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُُ بَيْنَهُم (53)) لِمَ يُوصف عمل الشيطان (بِالنّزْغِ) ولا يوصف بالفساد؟ أن (النَّزغ) هو الضعف السريع، فعبَّر ربنا عن إفسادِ الشيطانِ (بالنزغ) إشارةً إلى أنّه إفسادٌ سريعُ الأثر.


(وَرّبُّكَ أَعْلَمُ بِمَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وءاتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)) لِمَا خَصّ ربنا داوود عليه السلام بالذكر عقبِ تفضيل بعض الأنبياء على بعض ، ولم يذكر نبيًا من أولي العزم لِيُناسبَ مَقامِ التفضيل؟ في ذكرهِ داوود إيماءٌ إلى أن كثيرًا من الأحوالِ المَرْموقة في نظر الجاهلينَ وقاصري الأنظار -الأحوال التي يَقْصُرُونها على فئة الشرفاء- هي حقيقةًً مِلْكٌ للجميع وليست حكرًا على شرفاء القوم دون فقرائهم، وهي مراتب لا تعوق الفقراء وقليلي ذاتَ اليَد من الصعودِ في مَدَارِجِ كمالِها، وأنّ النبوّةَ والرسالة لا تنشأُ عن عظمةٍ سابقة، فها هوَ داوودُ عليه السلام كان راعِيًا من رُعاةِ الغنم في بني إسرائيل فصيَّرَهُ اللهُ مَلِكًا رسولًا، فيه مِثالٌ للنبي الذي تَجْلَّي فيه اصطِفاءُ اللهِ تعالى لِمن لا يكن ذا عظمةٌ وسِيَادة.


(وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)) انظر إلى هذا الإعجاز والتحدي في الأسلوب القرآني. فقد خصّ ربنا بالذكر عذاب ثمود دون غيرهم وذلك لأن ثمود ,وآيتها قد اشتهرت بين العرب. ولأن آثار هلاكهم في بلاد العرب قريبة من أهل مكة يُبصرها صادرهم وورادهم في رحلاتهم بين مكة والشام. وما من شك بأن آثار العذاب تُرجف القلوب لأنها شواهد صادقة على ما حلّ بالأمم التي عاندت. خلافاً للعذاب الذي استأصل أمماً لم تر العين آثاره. فإنه لا يزرع الخوف كما يزرعه الأثر ولذلك دلّل على بطشه بذكر ثمود.


(قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62)) الاحتناك هو وضع الراكب اللجام في حنك الفرس ليركبه ويسيره. فلِمَ قال ربنا على لسان الشيطان (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ) إذن؟ والذرية هي نسل آدم؟ هذا تمثيل وتنبيه لكل مؤمن بأن الشيطان يتخذ الفاسق كدابّة تُساق إليه. فهو يُغوي ابن آدم ويسيّره كما يسيّر الراكب الفرس وفق رغبته وما يريد. فلتحذر أيها المؤمن أن تكون مُساقاً لأهواء الشيطان.


(وَكَانَ الْإنْسَانُ كَفُورًا (67)) لننظر إلى هذا الوصف لِنَفْسِيَة الإنسان فهو كَفُورٌ لِنِعَمِ الله، فلمَ قال اللهُ (كَفُورًا) ولم يقل (جاحِدًا)؟ خصّ ربنا الإنسانَ ب (الْكَفُور) دون (الكافر) للمبالغة في كُفْرِهِ بِنِعَمِ اللهِ، وقال (كَفُورًا) دون (جاحدًا) لأنّ الإنسانَ يعلمُ نِعَمَ اللهِ ولكنّهُ يَسْتُرُهَا، يُنكِرُها ويَنسِبَها لِنفسِهِ، فناسبَ الكُفر الذي هو السِّتر، وناسَبتِ المُبالغةُ في كُفْرانِ النِّعم لِأنّ إعرَاضَهُ عن الشُّكرِ يتكرَّرُ في كل موقف سواءٌ أكان ضلالًا أم كان سَهْوًا أو كان غَفْلَةً لِإسنادِ النّعم إلى أسبابها لا إلى مُسبِّبِها.


(عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)) المقام هو مَحِلُّ القِيام، ولا شك أن المقام هو منزلةٌٌ عظيمة سَيَنالُها الحبيبُ محمد صلّى اللهُ عليه وسَلَّم، فلِمَ عبَّر عنها ربنا بالمقام؟ عبّر عن المنزلة ب (المقام ) لما في هذا اللفظ من التعظيمِ لمنزلة محمد صلّى اللهُ عليه وسلّم، فمكانُ القيامِ هو مكانٌ معدودٌ لِأمرٍ عظيمٍ لأن من شأنِه أن يقومَ الناسُ فيهِ ولا يجلِسوا، ومقامُ النّبي صلّى اللهُ عليه وسلّم عظيم يستحِقُّ أن يقومَ الناسُ لأجلهِ ولا يقعُدُوا.


(وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)) الفعلِ (كان) في هذا الموقع هل يمكن أن يحذف فتكون الآية (إنّ البَاطِلَ زهوق)؟ إنّ الفعل (كان) في الآية دلَّ على أن الزُّهُوقَ هو شأنُ الباطِلِ في كلِّ زمان، فما إن تَراهُ يعلُو ويَظْهر حتى تُبْصِرَهُ قد اضمَحَلَّ وانزَوَى، فللهِ دَرُّ البلاغةِ القرآنية!.


(وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٍ (89)) إنّ التصريف في القرآن سابقٌ نُزُولُهُ للناس، فلِمَ تقدّم الجار والمجرور (لِلنّاس) على قولِهِ (فِي هَذَا الْقُرْءَان)؟ إنّ ذكرَ(الناسِ) في هذا المقام أهَمّ، لِأنَّ الكلام كُلُّهُ مَسُوقٌ من أجلِ تَحدِّيهم وإقامة الحُجَّةَ عليهم، وإن كان ذكر (القرآن) أهمَّ بالأصالة.


(وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا (97)) لِمَ كان جزاؤهم المشيَ على وُجُههم خاصّةًً؟ هذا المشىُ كان جزاءً مُناسبًا للجُرْمِ الذي اكتسبوه، فهم رَوَّجوا الضّلالة في صورةِ الحقِّ، وَوَسَمُوا الحق بِسِمَاتِ الضلال، فكان جزاؤهم أن حُوِّلَت وجوهُهُم أعضاءَ مَشْيٍٍ عِوَضًا عن الأرجُل، والغايةُُ من ذاك كُلِّهِ هوَ الجمعُ بينَ التشْوِيِهِ والتعذيبِ، لأنّ الوَجْهَ أرقُّ تَحَمَّلًا منَ الأرْجُل، فضلًا عن ما في المشي على الوَجْهِ منَ المهانةِ لِصاحبهِ.


(كُلَّمَا خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيرًا (97)) (الخَبْوُ) هو نقصُ اللهيب، وهذا فيهِ إشكال إذ كيف تخبو نارُ جهنّم واللهُ سبحانه يقول (فَلَا يُخَفَّف عَنْهُمُ الْعَذَاب)؟ نحن نعلم أن الكَفَرةُ هم وَقُودُ النار، فإذا أحرقتهم النار زالَ اللهبُ الذي كانَ مُتَصَاعِدًا من أجسامهم، فلا يلبثونَ أن يُعَادوا كما كانوا فَيَعُودُ الإلتهابُ لهم، ف (الخبو) وزيادةِ الاشتعال يكونُ بالنسبةِ إلى أجسادِهم لا في أصل نارِ جهنَّم، ولهذهِ النكتة سلَّطَ ربنا فعل (زِدْنَاهُم) على ضمير المشركين للدَّلالَةِ على أنَّ ازدِيادَ السعير كان فيهم، فكأنَّهُ قال (كلما خبت فيهم زدناهم سعيرًا) ولم يقل (زدناها سعيرًا).


(كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)) يحملُ في طَيَّاتِهِ التَّهكُّم والاستِخْفاف بعقولِ المشركين، فقد بدأت الآية بما يُطْمِعُ أصحابَ النارِ وَيُقَلِّصُ مِن ألَمِهِم، فقد ذكرَ ربنا خَبْوَ النار- وهو نقصُ لَهِيبِها - ولكنه قضى على هذا الأملِ باستعمال (كُلَّمَا)، فجعل إزديادِ السعير مُقْتَرِنًا بِكُلِّ زمانٍ من أزمِنةِ الخَبْو، فما إن يحصُلُ الطمعُ بحُصُولِ خَبْوٍٍ لِوُرُودِ لفظ (خَبَتْ) حتى يَؤُولَ الطمعُِ إلى يأسٍٍمنهُ لِدَوَامِ سعيرِ النارِ في كلِ الأزمان لاقْتِرَانِ ازديَادِ سَعِيرِها بكُلِّ أزْمانِ خَبْوِها، فإن خَبَت استعرت، فأنَّى لها أن تهدَأ وتَخِفّ.

(قُلْ ءَامَنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤمِنُوا (107)) هذا إسلوبِ للإنتقاصِ منَ المشركين، فقد جعل ربنا إيمانَهم وعَدَمَهُ سواءً، فهم لا قيمةَ لهم ولا يستحقُّونَ إلّا الإعراضَ عنهم واحتقارَهم وقلَّةِ المبالاةِ بهم، ناهِيكَ عن ما هذهِ الصِّيغة من الإيماءِ بتسليةِ النّبي صلَّى اللهُ عليه وسلّم بأن لا يكْتَرِثَ بهم لأنهم أقلُُّ من أن يُؤْبَهُ لهم.


(وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107)) الإنسانُ المؤمن لا يملِكُ نفسهُ من أن يَخِرُّ بين يديِّ اللهِ ساجِدًا على جبينهِ ولكن كيف يسجدُ للذَّقنِ؟ ذكرَ ربنا الَّذقنَ في السّجودِ لِيَصِفَ لك الحالةَ النّفسيّةَ للمؤمن، فهو مُتَطلِّعُ للسجود بين يَدَيِّ الله، حريصٌ عليه، ولذلك عبّرَ عن هذه الرغْبَةِ بالسجودِ على الأذقان لِيَدُلَّكَ على تَمْكِينِ وُجُوهَهُم كلَّها من الأرض من قوّةِ الرّغبةِ في السجود لِمَا فيهِ منَ استحْضارِ الخُضُوعِ للهِ تعالى، وزاد هذهِ الرغْبَةَ دِلَالةًً بِتَعْدِيَةِ الاسمِ بِحَرْفِ الجَرِ (اللام) (لِلأْذْقَان) دون (على)، أي (على الأذقان) لِما فى (اللامِ) من الدِلالةِ على مَزِيدِ التّمَكُّنِ من الشئِ الدّاخِلَ عليه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.