إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.أما بعد. فحديثنا اليوم عن بعض آيات من سورة الإسراء، والتي تُسمَّى بسورة بني إسرائيل؛ وذلك لأن سورة الإسراء افتتحت في أول آية منها بالحديث عن الإسراء إلى المسجد الأقصى، وفي الآية الثانية شرعت في ذكر مرحلة مهمة من مراحل بني إسرائيل والإخبار عن إفسادهم في الأرض. إن القرآن تحدَّث عن بني إسرائيل في مراحل تاريخهم، فمرة يتناولهم بالمدح وإعلاء الشأن والتنويه بالمكانة، يقول رب العزة: (وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنْ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدْ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32)) (الدخان). فقد كانوا ذات يوم الشعب المختار، وإن اختيارهم لم يكن عن مجازفةٍ أو عن إيثار فيه محاباة، بل كان اختيارهم على علم، يقول سبحانه وتعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنْ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17)) (الجاثية). وفي آيات أخرى يذمهم المولى تبارك وتعالى فقال جل شأنه: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)) (الأعراف). وإذا وقفنا مع آيات سورة الإسراء عن بني إسرائيل نجد أن الله عز وجل بعدما ذكر أنه أسرى بعبده محمد صلى الله عليه وسلم عطف بذكر موسى عبده ورسوله وكليمه أيضًا، ثم ينادي على بني إسرائيل بقوله: (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)) (الإسراء)؛ أي يا ذرية مَن حملنا مع نوح فيه تهييج وتنبيه على المنة، أي يا سلالة مَن نجينا فحملنا مع نوح في السفينة تشبهوا بأبيكم فإنه كان من الشاكرين، ثم يعرض الحق- تبارك وتعالى- عن مرحلة من مراحلهم لم تذكر في القرآن الكريم إلا في هذه الآيات بقوله تعالى: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)) (الإسراء)؛ أي أن الله أخبرهم وأعلمهم في الكتاب الذي أنزله عليهم أنهم سيفسدون ويتجبرون ويطغون ويفجرون على الناس مرتين، ثم يعلون بعدهما علوًا كبيرًا، وفي حديثنا عن الوعد الأول والثاني نجد أن المفسرين تكلموا كثيرًا في تفسير هذين الوعدين، فمنهم من قال: إن الوعد الأول حينما بعث الله عليهم (جالوت)، وقال بعضهم بل حينما بعث الله عليهم ملك بابل (بختنصر) فاستباح بيضتهم وجاس بجنوده خلال بيوتهم وأذلهم وقهرهم، فرجعوا إلى ربهم، وأصلحوا أحوالهم، وأفادوا من البلاء المسلط عليهم.. (إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) (الإسراء: من الآية 7). ولقد عادوا إلى الإفساد فسلَّط الله عليهم المسلمين فأخرجوهم من الجزيرة العربية (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا) (الإسراء: من الآية 7)، ثم يذكر الله السنة الماضية إلى يوم القيامة بقوله: (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا) (الإسراء: من الآية 8)، أي أنهم إذا عادوا إلى الإفساد في الأرض، فالجزاء حاضر، وليس هذا ببعيد فلقد سلَّط الله عليهم في العصر الحديث هتلر.. ولقد عادوا اليوم إلى الإفساد في صورة "إسرائيل" التي أذاقت العرب أصحاب الأرض الويلات، وليسلطن الله عليهم مَن يسومهم سوء العذاب، تصديقًا لوعد الله القاطع، وفاقًا لسنته التي لا تتخلف.. وإن غدًا لناظره قريب! ويختم الله السياق بمصير الكافرين في الآخرة لما بينه وبين مصير المفسدين من مشاكلة.. (وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا) (الإسراء: من الآية 8)؛ تحصرهم جهنم فلا يفلت منهم أحد، وتتسع لهم فلا يند عنها أحد. وإن كان هذا هو تفسير الوعد الأول والثاني الذي ذكره كثير من المفسرين إلا أن هناك تفسيرًا آخر لبعضهم حينما عبَّر عن الوعد الأول بأنه: حربهم مع النبي صلى الله عليه وسلم وإخراجهم من الجزيرة العربية، والوعد الثاني هو: حرب المسلمين لهم بعدما احتلوا القدس بعد وعد بلفور وهذا الوعد (بلفور) لمصلحة المسلمين، فالله أذن لهم بالتجميع حتى إذا أخذهم المسلمون قضوا على شأفتهم، فلا يصبح لهم وجود بعد ذلك إلا أقليات متفرقة في الدول يعاملون كما عاملهم النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، ولهذا قال ربنا: (وَعْدُ اَلآخِرَةِ) فكلمة الآخرة تدلُّ على أنها المرة التي لا تتكرر، ولن يكون لليهود غلبة بعدها، ومما يستدل به أصحاب هذا الرأي أن كلمة (عِبَادًا لَنَا) لا تطلق إلا على كل مسلم. وسواء كان تفسير الوعدين بأي من التفسيرين فإن لنا دروسًا وعبرًا من ذكر هذه المرحلة من مراحل بني إسرائيل في القرآن الكريم ومنها: 1- أن الله يختبر بالخير والشر: من الغباء أن يحسب أهل جيل أن الفلك سُمِّر وأن من ارتفع اليوم ستبقى رفعته له غدًا، ومن الغباء أن يظن الناس أن كتاب التاريخ صفحة واحدة تبقى ماثلة أمام الأعين. إن التاريخ صفحات متتابعة يطوى منها اليوم ما يطوى، وينشر منها غدًا ما ينشر!! هنا ما بدَّ أن نفهم العبرة، العبرة أن الله جلَّ شأنه يختبر بالرفعة والوضاعة، يختبر بالزلزلة والتمكين، يختبر بالخوف والأمن، يختبر بالثروة يعطيها وبالفقر يرسله، يختبر بالضحك والبكاء، قال تعالى: (وأن إلى ربك المنتهى(42) وأنه هو أضحك وأبكى (43) وأنه هو أمات وأحيا (44)) (النجم) يختبر بالأمرين، وعندما يختبر فهو عالم بخلقه، ولكن القاضي لا يحكم بعلمه، إنما يحكم بين العباد بما يظهر من أمرهم حتى تنقطع الأعذار، وتخرس الألسنة التي مرنت على الجدل، فإن ناسًا سوف يبعثون يوم القيامة وهم مشركون ويقولون لله (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) (الأنعام: من الآية 23)، فما بد من إقامة الدليل على الناس من عملهم هم. يعطي المال ويقول لصاحبه أعطيتك المال لا لأنك عبقري، لأن عباقرة يمكن أن يموتوا جوعًا!! ولكني أعطيتك المال أختبرك!! نجد اقتصاديًّا كبيرًا مثل قارون يقال له: إن الله موَّلك ومنحك اعرف حق الله فيما آتاك، اتق الله فيما بسط عليك من رزق، اطلب الآخرة بما أوتيت في الدنيا لا تنس الله. يضيق الرجل بالله وذكر الله ورقابة الله وتقوى الله ويقول لهم: ما هذا بعطاء الله، هذه عبقريتي أنا!! (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي) (القصص: من الآية 78).. هذا المال لم يأتني منحة من السماء، إنه ذكائي وعبقريتي، وتجربتي وخبرتي بشئون الأسواق والمال هي التي جعلتني كذلك، فكان هذا الشعور بداية الدمار الذى طواه! (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ) (القصص: من الآية 81).. هذا اختبار سقط فيه رجل من بني إسرائيل. اختبار آخر لرجل من بني إسرائيل هو "سليمان" عليه السلام اختبارٌ بالسلطة.. فإن سليمان عليه السلام وهو في فلسطين طلب أن يُجاء له بعرش بلقيس وجيء له بعرش بلقيس، ونظر الرجل العظيم فوجد أن سلطانه واسع، وأنه أوتي بسطةً في القوة غير عادية، فهل اغترَّ؟ لا، بل تواضع لله وقال: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (النمل: من الآية 40) الحقيقة أنه بالنسبة للأفراد والجماعات، كلنا يُختبر. 2- قصة بني إسرائيل توعية للمسلمين: هل قصَّ الله علينا قصة بني إسرائيل تسلية للمسلمين؟ لا بل توعية للمسلمين، كأنه سبحانه وتعالى يقول للمسلمين هذا تاريخ من سبق، يُقرأ عليكم وحيًا معصومًا، وتتلونه في الصلوات وفي مجالس الرحمة قرآنًا يُذكِّر الناسين، ويوقظ الغافلين لكي يتعلموا، فهل تعلمت الأمة الإسلامية من تاريخ بني إسرائيل أن تستبقي أسباب المدح وأن تستبعد وسائل القدح؟ يقول صاحب الظلال: "وقصة بني إسرائيل هي أكثر القصص ورودًا في القرآن الكريم والعناية بعرض مواقفها وعبرتها عناية ظاهرة توحي بحكمة الله في علاج أمر هذه الأمة الإسلامية وتربيتها وإعدادها للخلافة الكبرى، والقرآن لا يعرض هنا قصة بني إسرائيل، إنما يشير إلى صور منها ومشاهد باختصار أو بتطويل مناسب. وقد وردت القصة في السور المكية بغرض تثبيت القلة المؤمنة في مكة بعرض تجارب الدعوة وموكب الإيمان الواصل منذ أول الخليقة، وتوجيه الجماعة المسلمة بما يناسب ظروفها في مكة، وأما ذكرها في القرآن المدني بغرض كشف حقيقة نوايا اليهود ووسائلهم وتحذير الجماعة المسلمة منها، وتحذيرهم كذلك من الوقوع في مثل ما وقعت فيه قبلها يهود، وبسبب اختلاف الهدف بين القرآن المكي والمدني اختلفت طريقة العرض، وإن كانت الحقائق التي عرضت هنا وهناك عن انحراف بني إسرائيل ومعصيتهم واحدة. ومن مراجعة المواضع التي وردت فيها قصة بني إسرائيل هنا وهناك يتبين أنها متفقة مع السياق الذي عرضت فيه متممة لأهدافه وتوجيهاته. 3- الإحسان والطاعة من شروط النصر والتمكين يقول الله عز وجل بعدما ذكر ما حدث لبني إسرائيل من إفساد وبعد عن منهج الله ثم استعلاء وقرب من الله أدَّى بهم إلى العلو من جديد، يذكر ربنا – تبارك وتعالى- ويقول: (إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) (الإسراء: من الآية 7)، فهذه هي القاعدة التي لا تتغير في الدنيا والآخرة، والتي تجعل عمل الإنسان كله له، بكل ثماره ونتائجه، وتجعل الجزاء ثمرة طبيعية للعمل، منه تنتج، وبه تتكيف؛ وتجعل الإنسان مسئولاً عن نفسه، إن شاء أحسن إليها، وإن شاء أساء، لا يلومنَّ إلا نفسه حين يحق عليه الجزاء. وهذه سنة من سنن الله الكونية "مَن استحقَّ الغلبة فهي له"؛ لأن الحق تبارك وتعالى منزهٌ عن الظلم، حتى مع أعداء دينه ومنهجه. هكذا إذا أراد المسلمون النصر والتمكين فعليهم بمنهج ربهم- تبارك وتعالى- ومنهاج نبيهم صلى الله عليه وسلم؛ ففيهما نصرهم وقوتهم وتمكينهم في هذه الأرض، (وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (الحج: من الآية 78). اللهم انصرنا ولا تنصر علينا، ومكِّن لنا، وافتح لدينك ودعوتك قلوب الناس.