"الخال" مالئ الدنيا وشاغل الناس حتى بعد أقل من عام على رحيله، الغائب الذي واراه الموت لكنه حاضر في قلوب الناس طلة وطلعة، وصوتاً هادراً، ونهرًا هادئًا، العائش في الحقيقة "زي أولاد الغلابة". "الخال في سطور" جاء من صعيد مصر بشهامته ونخوته معه ذكريات "الأرض والعيال"، مرتحلاً إلى الشمال ليبدأ رحلة طويلة من المشاغبة لكن "بعد التحية والسلام" التي يلقيهما على الحضر بتمايزاته واختلافاته ليعيش في "الزحمة"، ولم ينس أن يحمل معه في وجهه الأسمراني المحبب خصب النهر ليوزعه زهرًا ووردًا وسلامًا على الناس الغلابة والبسطاء، وينثره أحيانًا شوكًا في حلوق الظالمين. حياته الطويلة رحلة زاهد متصوف يفضل العيش فى "الأحزان العادية" ويرسل للعالم عالمًا رحبًا كرحابة نفسه الصافية في "جوابات حراجى القط" ويملّى عينه ب"وجوع على الشط"، ويتوقف في محطة أخيرة هي الأشد ثورة وعنفوانية لا تناسب سنه، لكنها تناسب إرثه وإنسانيته الطاعنتين في الأصالة والمصرية، ليقف بصوته الهادر زاعقًا في "الميدان" ويصرخ حاسمًا "آن الأوان ترحلي يادولة العواجيز"، وتستمر ثورته بروحه التى لم تتأرجح فى مسألة الحرية بين "المد والجزر" زهدًا لا طمعًا كان أقصى مراميه أن يعيش على مبادئه الراسخة بين دفتي "المشروع والممنوع" حتى ولو كلفه ذلك موتًا مهملاً ك"الموت على الأسفلت"، كل ذلك لم يهمه بل أن يعيش قانعًا هادئًا زي الغلابة "تحت السجر" في كل "الفصول" قابضًا على "المربعات" الثورية مطالبًا بالعيش الكريم والحرية غير المشروطة والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، وسيظل مشرقًا خالدًا مهما "عدى النهار". عبدالرحمن الأبنودي، شاعر القصيدة العامية الأعظم، صاحب الفتوحات والتجليات البسيطة كأحزانه العادية، صاحب السير الهلالية الملحمية التي تعيش في أيامه الحلوة، العائش على نبض لحظات الانتصار والانكسار التي يمر بها الوطن، والمعبر عن هموم البسطاء وآلامهم، والباحث بشعره عن متنفس للفقراء من أجل الحرية والثورة على الظلم والفساد والقهر، عاش ما يربو على العشرين عام يكتب نفسه والناس في شعره ودواوينه. استقى الأبنودي موهبته من التربة المصرية، نيلها وشمسها وجنوبها، فمنحته خلود الكلمات فلا أحد يستطيع أن يُنكر موهبته الشعرية، وتأثير كلماته التي أخذها من لسان الشعب المصرى، وأعادها إليه مرَّة أخرى في شكل مواويل وقصائد وأغنيات تعبّر عن حال هذا الشعب، فقد تكلم بلغته، البسيطة السهلة والعميقة جداً في الوقت نفسه، لغة تحمل حضارة هذا الشعب، وطبائع الإنسان المصرى الحالم والمُسالم دوماً، والغاضب أحياناً. ولد "الأبنودي" في مثل هذا اليوم، في 11 أبريل 1939 بقرية أبنود بقنا، وأتاحت له البيئة التي نشأ بها خيالا خصبًا، فكان خير معبر عبر عن الجنوب وتطلعاته وعاداته، لكن ذلك لم يمنعه من الانشغال بالهم العام طول الوقت، فبدأ كتاباته الشعرية باللهجة العامية منذ صغره ونظم عدد من القصائد الوطنية. "الخال" والثورات وعاصر جيل الحداثة في مصر وشهد تحولات سياسية واجتماعية مختلفة في عهد عبد الناصر وأنور السادات ووجه انتقادات إلى كلا النظامين بقصائده الساخرة، حتى اسماه البعض "شاعر الثورة". و كان الأبنودي من أشد المؤمنين بثورة يوليو 1952 التي أطاحت بالملكية، فصدح شعره تأييدًا لها، ورغم ذلك دخل الأبنودي سجون نظام يوليو بسبب موالاته للشيوعية في بداياته .وبعد نكسة يونيو 1967 نزف "الأبنودي" رائعته "عدّى النهار"، تلك الأغنية الرصاصة، التي تحولت آثارها إلى ندبة في جبين كل نكسة لهذا الشعب الحالم بأن يأتى النهار والنصر، والأغنية جاءت انحناءً من أجل التقاط القنبلة "أبدا بلدنا للنهار بتحب موال النهار لما يعدى في الدروب ويغنى أدام كل دار"، وأقسم متحديا: "ابنك يا قدس زى المسيح لازم يعود". انقلابه على السادات بعد "كامب ديفيد" وبعد وفاة ناصر، بدأ السادات التضييق الأمني على الأبنودي الذي رفض "أمن الدولة"، ورأى في ذلك الوقت الفرصة سانحة للتفرغ لكتابة الأغنية كحل لتجنب المواجهة الجديدة بينه وبين نظام السادات، لكنّ تحرش السلطة لم ينته. استطاع الأبنودي الخروج من مصر بعدما يئس الأمن منه، اختار الشاعر لندن منفى اختيارياً لثلاث سنوات، أنهاها عبد الحليم مستخدماً سلطته في السماح له بدخول مصر. واعتقد السادات أنّ الأبنودي سيكون صوته، فأعلن رغبته في تعيينه "وزيراً للثقافة الشعبية"، وغنى في هذه الفترة لسيناء "صباح الخير ياسينا" التى يقول فيها "في الأوله قلنا جيِّنلك وجينالك، ولا تهنا ولا نسينا، والثانية قلنا ولا رملاية في رمالك، عن القول والله ما سهينا، والتالتة إنتي حِملي وأنا حمّالك، صباح الخير يا سينا". لكن علاقته الهادئة بالسادات لم تدم طويلاً، وتعكرت حين رفض الأبنودي اتفاقية "كامب ديفيد"، وكتب قصيدته الشهيرة "المشروع والممنوع"، وهي أقسى نقد وُجِّه إلى نظام السادات، وبسبب هذا الديوان، جرى التحقيق مع الأبنودي أمام المدعي العام الاشتراكي بموجب قانون سمي "حماية القيم من العيب". و يقول عبد الرحمن الأبنودي بلهجته الصعيدية الحادة: "في حياتي أخطاء بالغة القسوة، ندمت عليها، لكن في الشعر، لم أندم على شيء لأن الشعر مقدس، لا يأتي بقرار، هو هبة من الله". ابداعاته عن حياة المصريين الناس في بلاد الأبنودي تواقون للحرية والعدل والمساواة ثلاثية حفظها قلب الأبنودي وعقله فترجمها شعرا: "الشعر يا ابن عمى مش عربي وفصيح ...اللي يمس القلب هو الشعر بصحيح". والملامح التي رسمها الأبنودي لبسطاء مثل "أحمد سماعين" أو "حراجي القط" العامل في السد العالى وهو يتبادل خطاباته مع زوجته "فاطنة" مسجلا لحظات التحول التاريخية في حياة الفتى الأسمر الذى شارك في بناء السد العالى، وملاحم النضال للعمال والفلاحين ترجمها الأبنودى في بساطة تشبه حياتهم وحياته أيضا: "بيتنا الصغير الأخضرانى أبو الستاير برتقانى". وبقى صاحب كتاب "أيامي الحلوة"، حتى اللحظة الأخيرة، مرتبطًا بهموم المصريين وتطلعاتهم واشتياقهم لحياة كريمة حرة وعادلة، فيما جاءت إبداعاته الشعرية، التي كانت وستبقى علامة في شعر العامية المصرية، لتجسد الموقف لشاعر ومثقف مصري كبير، كان بحق صديق الشعب ولسان حال رجل الشارع، فهو الذي أبدع ديوان "أنا والناس" بالانتصارات والانكسارات، حيث يلخص هذه الحالة بقوله: "أنا مطرح ما مصر بتكون أنا بكون موجود". إبداعاته الوطنية وبأشعاره المبدعة، غنى عبد الحليم حافظ وشادية ووردة الجزائرية وفايزة أحمد ونجاة الصغيرة وصباح ومحمد رشدي وماجدة الرومي ومحمد منير، للحرية والحب والوطن لتصل إبداعاته لأكبر عدد ممكن من الجماهير على امتداد الأرض العربية، وكان يرى في الشاعر "صوت الأمة وضميرها اليقظ المنتبه والسابح ضد التيار". ولعل الشخوص التي ابتكرها الأبنودي في شعره أو كانت موجودة فعلاً وتتقاطع مع دائرة حياته الشخصية الضيقة، كلها كانت حية تابضة في وجدان الأبنودي آثر أن يخاطبها شخصيًا ويطارحها ذات نفسه، ويبثها أحلامه وأماله وطموحاته وتطلعاته ليس معبرًا عن نفسه فقط بل عن الفقراء والمهمشين والغلابة الذين يستكنون فى خلاياه ومن أجلهم فقط يكتب قصائده وينزف روحه، سائرًا على درب سابقيه ومجايليه من الشعراء الكبار أمثال: بيرم التونسى وفؤاد حداد وصلاح جاهين وأمل دنقل. آن الآوان ترحلى يا دولة العواجيز ظل الأبنودي قابضا على جمر الثورة والنضال من أجل قيم الحرية والعدل والمساواة وحين انطلقت ثورة المصريين في 25 يناير أعادت له روحه الشعرية فأعلن انحيازه دون مواربة ليضخ في شرايين الشعر مفردات تليق بعظمة الحدث، فكتب عشية موقعة الجمل قصيدته "الميدان"، التي هاجم فيها نظام مبارك وطالبه بالرحيل: " أيادي مصرية سمرا ليها في التمييز.. ممددة وسط الزئير بتكسر البراويز.. سطوع لصوت الجموع شوف مصر تحت الشمس.. آن الآوان ترحلى يا دولة العواجيز". وعلق على الثورة أحلامًا عريضة وأنها كانت حلمه المؤجل يقول : "هاقولها بالمكشوف: خايف أموت من غير ما أشوف تغير الظروف. تغير الوشوش.. وتغير الصنوف. والمحدوفين ورا متبسمين في أول الصفوف. خايف أموت وتموت معايا الفكرة لا ينتصر كل اللي حبيته.. ولا يتهزم كل اللي كنت أكره.. اتخيلوا الحسرة". عارض "الأبنودي" نظام الرئيس المعزول محمد مرسي، وكتب مربعات نشرتها جريدة "التحرير" لمهاجمة الإخوان وقادتها: "قولّلي انت مصري ولا إخواني؟.. وأنت شرعي ولا أنت مُعارض؟.. وانت اشتراكي ولا نصراني؟.. ولا أقتلك وبعدها نِتْفاوض؟. نهاية الرحلة وهكذا كانت رحلته السمراء كنيل مصر رافعًا علامة نصر في الدلتا محتضنًا "ميدان" العاصمة ليطمئن الأبنودي على أن حلمه في الثورة قد تحقق ويقبل على الموت تنفيذًا لوصية عمته يامنه " "إذا جاك الموت يا وليدي.. موت على طول.. اللي اتخطفوا فضلوا أحباب ..صاحيين في القلب.. كإن ماحدش غاب.. واللي ماتوا حتة حتة.. ونشفوا وهم حيين..حتى سلامو عليكم مش بتعدي من بره الأعتاب". غيب الموت الأبنودى فى 21 أبريل 2015، ولكنه يبقى حيًا نابضًا يمتد فى دماء الناس الغلابة ويعيش بينهم ويجمعهم للسمر "تحت السجرة" وسط "الميدان".