«الصحفيين»: لجنة استشارية تتولى التحضيرات للمؤتمر السادس للنقابة    آمنة: زفتى في اليونسكو.. وعيسى: "شرم الشيخ" على خريطة السياحة    وزير الخارجية يتلقى اتصالاً هاتفياً من نظيرته الهولندية    حزب الله يعلن لا تفاوض إلا بعد إيقاف العدوان على غزة    «الخطيب» يزور «معلول» بالمستشفى.. ويطمئن على حالته    المندوه: تم تشكيل لجنة لدراسة أحداث ما بعد نهائي الكونفدرالية.. ومن الصعب الاستغناء عن زيزو    كريستيانو رونالدو يوجه رسالة لتوني كروس بعد اعتزاله    الإعدام شنقاً لمدرس الفيزياء قاتل الطالب إيهاب أشرف    توقعات طقس ال72 ساعة المقبلة.. الأرصاد تحذر من ظاهرة جوية مؤثرة    الإعدام لطالب جامعي وعامل والمؤبد لربة منزل في واقعة قتل طفل الشوامي    الأعلى للثقافة يُعلن القوائم القصيرة للمرشحين لجوائز الدولة لعام 2024    عبارات تهنئة عيد الأضحى 2024.. خليك مميز    خبيرة فلك: كل برج يحمل الصفة وعكسها    تفاصيل الدورة ال40 لمهرجان الإسكندرية لدول البحر المتوسط    مدبولي: الحكومة ستعمل جنبا إلى جنب مع القطاع الخاص لتذليل أي عقبة تواجه قطاع الدواء    القافلة الطبية المجانية بقرية أم عزام في الإسماعيلية تستقبل 1443 مواطنًا    البنك المركزي يسحب سيولة بقيمة 3.7 تريليون جنيه في 5 عطاءات للسوق المفتوحة (تفاصيل)    الهيئة الوطنية للإعلام تعتمد 12 صوتا جديدا من القراء بإذاعة القرآن الكريم    أسوان تستعد لإطلاق حملة «اعرف حقك» يونيو المقبل    دعاء اشتداد الحر عن النبي.. اغتنمه في هذه الموجة الحارة    النطق بالحكم على مدرس الفيزياء قاتل طالب الثانوية العامة بعد قليل    "السرفيس" أزمة تبحث عن حل ببني سويف.. سيارات دون ترخيص يقودها أطفال وبلطجية    جيفرى هينتون: الذكاء الاصطناعى سيزيد ثروة الأغنياء فقط    تأجيل محاكمة 12 متهمًا في قضية رشوة وزارة الري ل25 يونيو المقبل    مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى.. والاحتلال يعتقل 14 فلسطينيا من الضفة    أبو علي يتسلم تصميم قميص المصري الجديد من بوما    «نجم البطولة».. إبراهيم سعيد يسخر من عبدالله السعيد بعد فوز الزمالك بالكونفدرالية    تعرف على تطورات إصابات لاعبى الزمالك قبل مواجهة مودرن فيوتشر    مصدر سعودي للقناة ال12 العبرية: لا تطبيع مع إسرائيل دون حل الدولتين    كيت بلانشيت.. أسترالية بقلب فلسطينى    وزير الري: إيفاد خبراء مصريين في مجال تخطيط وتحسين إدارة المياه إلى زيمبابوي    أمين الفتوى: قائمة المنقولات الزوجية ليست واجبة    هل يجبُ عليَّ الحجُّ بمجرد استطاعتي، أم يجوزُ لي تأجيلُه؟.. الأزهر للفتوى يوضح    محافظ أسيوط: مواصلة حملات نظافة وصيانة لكشافات الإنارة بحي شرق    زوجة المتهم ساعدته في ارتكاب الجريمة.. تفاصيل جديدة في فاجعة مقتل عروس المنيا    أفضل نظام غذائى للأطفال فى موجة الحر.. أطعمة ممنوعة    الجامعة العربية والحصاد المر!    «غرفة الإسكندرية» تستقبل وفد سعودي لبحث سبل التعاون المشترك    السيسي: مكتبة الإسكندرية تكمل رسالة مصر في بناء الجسور بين الثقافات وإرساء السلام والتنمية    يوسف زيدان يرد على أسامة الأزهري.. هل وافق على إجراء المناظرة؟ (تفاصيل)    وزير الأوقاف: انضمام 12 قارئا لإذاعة القرآن لدعم الأصوات الشابة    تفاصيل حجز أراضي الإسكان المتميز في 5 مدن جديدة (رابط مباشر)    المالية: بدء صرف 8 مليارات جنيه «دعم المصدرين» للمستفيدين بمبادرة «السداد النقدي الفوري»    «بيطري المنيا»: تنفيذ 3 قوافل بيطرية مجانية بالقرى الأكثر احتياجًا    في اليوم العالمي للشاي.. أهم فوائد المشروب الأشهر    «الشراء الموحد»: الشراكة مع «أكياس الدم اليابانية» تشمل التصدير الحصري للشرق الأوسط    لهذا السبب.. عباس أبو الحسن يتصدر تريند "جوجل" بالسعودية    حفل تأبين الدكتور أحمد فتحي سرور بحضور أسرته.. 21 صورة تكشف التفاصيل    وزير التعليم: مدارس IPS الدولية حازت على ثقة المجتمع المصري    «القومي للمرأة» يوضح حق المرأة في «الكد والسعاية»: تعويض عادل وتقدير شرعي    صعود جماعي لمؤشرات البورصة في بداية تعاملات الثلاثاء    «ختامها مسك».. طلاب الشهادة الإعدادية في البحيرة يؤدون امتحان اللغة الإنجليزية دون مشاكل أو تسريبات    أوكرانيا: ارتفاع عدد قتلى وجرحى الجيش الروسي إلى 49570 جنديًا منذ بداية الحرب    حسم اللقب أم اللجوء للمواجهة الثالثة.. موعد قمة الأهلي والزمالك في نهائي دوري اليد    اليوم.. «خارجية النواب» تناقش موازنة وزارة الهجرة للعام المالي 2024-2025    ضياء السيد: مواجهة الأهلي والترجي صعبة.. وتجديد عقد معلول "موقف معتاد"    مندوب مصر بالأمم المتحدة لأعضاء مجلس الأمن: أوقفوا الحرب في غزة    بوتين: مجمع الوقود والطاقة الروسي يتطور ويلبي احتياجات البلاد رغم العقوبات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرحلة المباركة
نشر في الفجر يوم 04 - 10 - 2014

الحمد لله خلق الأفئدةَ ويعلمُ سرائرَها، وأهاجَ نفوسَ أصفيائِه لحجِّ بيته الحرام، فحرَّك منها إليها مشاعِرهَا، وجعل الحج المبرورَ ماحيًا للخطايا سرائرِها وكبائرِها، يقِي الله به من كل نفسٍ شرَّها وعواثِرَها، أحمدُ ربي تعالى وأشكرُه، قدَّسَ هذه العرَصَات وأعلى في العالمين مآثِرَها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه شهادةً تُردَّدُ في محارِيبِ المساجِد وتعلُو منائِرَها.
الحمد لله الذي جعل كلمة التوحيد لعباده حرزًا وحصنًا، وجعل البيت العتيق مثابة للناس وأمنًا، وأضافه إلى نفسه تشريفًا وتحصينًا ومنَّاً، والصلاة والسلام على نبي الرحمة وسيد الأمة، وعلى آله وأصحابه قادة الخلق وسادة الحق، وسلم تسليمًا كثيرًا.
ايها المسلمون: في هذه الأيام يستقبلُ المسجدُ الحرامُ طلائعَ الحُجَّاج ووفودَ الرحمن، وتتزيَّنُ مكةُ والمدينةُ لقاصِديها.. فقد هبَّت رياحُ الحجِّ وحلَّت أيامُه المُبارَكات، وها هُم الحُجَّاجُ ومن يتهيؤون في بلادِهم للحجِّ، تسبِقُهم أشواقُهم، وتُسابِقُهم أحلامُهم لعِناقِ البيت العتيق.
شُعورٌ يهفُو بالفُؤاد إلى الأرض المُقدَّسة، يملأ النفس أشجانًا تسمُو به الروحُ، وتأسِرُ القلب .. عواطِفُ يمتزِجُ فيها الأملُ بالوجل، والإشفاقُ بالرَّجاء، والحبُّ بالشوق والحَنين.
مُورُ بالنفس تلك العواطِفُ والأشجان منذ أن عزَمَت على الرحيل إلى بيت الله الحرام، فتتمثَّلُ لها مكةُ ومُقدَّساتُها، وطيبةُ وأنوارُها، وتصعَدُ بها ذاكرتُها إلى الماضِي البعيد، فتستعرِضُ قُريشًا وآثارَها، والدعوةَ الأولى وأسرارَها، وأماكِنَ إن ذُكِرَت أهاجَت القلبَ الساكِنَ، وحرَّكَت الغرامَ الكامِن.. وما ذِكراها إلا رمزٌ لكل ما تعلَّق بها من مشاعِر وذِكريات.
إليك إلهي قد أتيت مُلَبيا *** فبارك إلهي حجتي ودعائيا
قصدتك مضطراً وجئتك باكيا *** وحاشاك ربي أن ترد بكائيا
كفانيَ فخراً أنني لك عابد *** فيا فرحتي إن صرت عبداً مواليا
إلهي فأنت الله لا شيء مثله *** فأفعم فؤادي حكمة ومعانيا
أتيت بلا زاد، وجودك مطعمي *** وما خاب من يهفو لجودك ساعيا
إليك إلهي قد حضرت مؤملاً *** خلاص فؤادي من ذنوبي ملبيا
أيها المسلمون: هبَّت رياحُ الحجِّ وحلَّت أيامُه المُبارَكات.. ومعها تتشوَّقُ النفوسُ إلى الظَّفَر بالفضل العظيم، وحجِّ بيت الله الكريم، مُستجيبةً لنداء الرحمن {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97].
وقولِ النبي صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس! إن الله كتبَ عليكم الحجَّ فحُجُّوا» (رواه مسلم).
ذكر المفسرون ابن جرير وابن كثير وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن الله لما أمر خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن يؤذِّن في الناس بالحج قال: يا رب: كيف أبلّغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟! فقال: نادِ وعلينا البلاغ، فقام على مقامه، وقيل: على الحِجْر، وقيل: على الصفا، وقيل: على أبي قبيس، وقال: يا أيها الناس: إن ربكم قد اتخذ بيتًا فحجوه، فيقال: إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع من في الأرحام والأصلاب، وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة : لبيك اللهم لبيك".
الحج ركن من أركان الإسلام، جمع الله فيه العبادة القلبية بالإخلاص وغيره، وجمع الله فيه العبادة المالية والقولية والفعلية، والحج وزمنه تجتمع فيه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، أعظم ركن في الإسلام، وتجتمع فيه الصلاة وإنفاق المال، والصيام لمن لم يجد الهدي، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصبر والحِلم، والشفقة والرحمة، والتعليم للخير والبر، وجهاد النفس ونحو ذلك، واجتناب المحرمات.
والحج آية من آيات الله العظمى على أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الدين الحق، فلا تقدِر أيّ قوة في الأرض أن تجمع الحجاج[ ] كل عام من أطراف الأرض ومن جميع أجناس البشر وطبقات المجتمعات وأصناف الناس بقلوب مملوءة بالشوق والمحبة، يتلذذون بالمشقات في الأسفار، ويفرحون بمفارقة الأهل والأصحاب والأوطان، ويحسّون أن ساعات الحج أسعد ساعات العمر، ويعظمون مشاعر الحج بقلوبهم، وينفقون الأموال بسخاوة نفس وطيب قلب، فلا يقدر على ذلك إلا الله عز وجل وتباركت صفاته وأسماؤه.
فوائد الحج:
للحج فوائد عظيمة وآثار كبيرة تعود على الفرد وعلى المجتمع وعلى الأمة بالخير العميم.
من هذه الفوائد الكثيرة: أن الحج برهان عملي على أن المسلم يفضل حب الله عز وجل على ماله وأهله وعمله ودياره فيتحمل مشاقّ السفر ومخاطر الطريق؛ استجابة لأمر الله عز وجل وابتغاء لرضوانه.
وفي الحج -أيها الإخوة الأحبة- تعويد للمسلم على الصبر وتحمل الشدائد وتدريب عملي على صعوبة العيش، وعلى ترك أسباب الراحة والرفاهية حتى إذا ما دعا داعي الجهاد خرج سبّاقًا لبذل كل غالي ورخيص في سبيل الله تبارك وتعالى.
وفي الحج -أيها الإخوة- تقوية للإيمان وتهذيب للنفوس وتكفير للذنوب؛ حيث يتوجه المسلم للتفرغ للعبادة والطاعة وذكر الله. وطبعًا -أيها الإخوة- الذنوب والآثام التي تتعلق بحقوق الله -عز وجل-، أما حقوق العباد فلا بد فيها من الأداء لصاحب الحق أو الإبراء منه.
في الحجِّ غُفرانُ الذنوب ومحوُ السيئات، ومُضاعفةُ الأجور وإجابةُ الدعوات.
وفي الحج -أيها الإخوة- يقبل المسلم على تلك البقاع الطاهرة والأماكن المقدسة وهو متجرد من زينة الدنيا لا تشغله بهائجها الزائلة ولا تفتنه، حاسر الرأس، بادي القدم، مشتمل الإزار، ملبيًّا، ضارعًا، مستغفرًا، فيهزه جلال الموقف فيخشع قلبه وتفيض بالدمع عيناه.
ويذكّره هذا المشهد في عرفات يذكّره بذلك الموقف الرهيب حينما يخرج الناس من قبورهم لا تخفى من أعمالهم خافية. أنَّ الحاج يكتسب روح الزُّهد في الدُّنيا، إنه يَنْظُر إلى ملابس إحرامه، فيجدها تشبه الأكفان إلى حدٍّ بعيد، وينظر إلى كل مَن حوله فيجدهم مثله، خرجوا من مناصبهم وأهليهم، وأموالهم وجاههم، ومتاع الدُّنيا كله، فيما يتشابه مع المنظر العام للبشريَّة في أرض المحشر والمنشر، كأنَّ القيامة قد قامتْ، وقام الناس لربِّ العالمينَ، إنه منظر يثير في القلب مشاعر الإخبات لله تعالى مع محاوَلة إصلاح النَّفس، والتَّجَرُّد والإنابة، وكون الحجيج غرباء عن أوطانهم، فذلك يلهمهم ويُعَلِّمُهم أنَّهم في الدُّنيا دائمًا غرباء، ومِن ثَمَّ يحدوهم الشَّوق إلى وطنِهم الأصلي جنات الخُلُود، فيستعدون ويعملون لها.
وفي الحج -أيها الإخوة- المساواة التامة والأخوة الإنسانية تتجلى بأجلى صورها وأظهر معانيها لا فرق بين غني وفقير، ولا بين أبيض وأسود، ولا بين رئيس ومرؤوس؛ فتتركز هذه المعاني في نفوس المسلمين بشكل تطبيقي عملي لا نظري.
ويكتسب المسلم في الحج ثقافة واسعة وخبرة حيث يلتقي بإخوته المؤمنين القادمين من سائر بقاع الأرض فيتعرف أخبارهم ويتحسس مشاعرهم.
وفي الحج أيضًا يرى المسلم تلك البقاع التي شهدت مولد الإسلام واعتزت بموقف رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم الأطهار الأبرار المجاهدين الذين ضحوا بكل ما يملكون من غالٍ ورخيص في سبيل هذا الإسلام الذي ضيعناه فتحرك في نفوس المسلم كوامن العزة والكرامة ودوافع الجهاد باستعادة مجدنا السليب وإعادة عزتنا وكرمتنا والتحرر من التبعية لغيرنا
ويرى المسلم كم ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك البقاع القاحلة ذات الجو القاسي!! وكم لاقى!! ويعلم أن طريق الجنة محفوف بالمكاره لا بالمتع والشهوات.
وفى الحج الارتباط بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام من لدن نبينا إبراهيم وبناؤه للبيت، إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وتعظميه لحرمة مكة، فيتذكر الحاج حين تردده في المشاعر، وأداءه للشعائر تردد أولئك المطهرين في تلك البقاع الشريفة، فيرتبط في ذهنه سيرهم، ويتجذر في قلبه حبهم، والاقتداء بهم.
روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس قال: سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَمَرَرْنَا بِوَادٍ، فَقَالَ: «أَيُّ وَادٍ هَذَا؟» فَقَالُوا: وَادِي الأَزْرَقِ، قَالَ: «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى، فَذَكَرَ مِنْ لَوْنِهِ، وَشَعَرِهِ شَيْئًا لَمْ يَحْفَظْهُ دَاوُدُ وَاضِعًا أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ لَهُ جَوَازٌ إِلَى اللَّهِ بِالتَّلْبِيَةِ مَارًّا بِهَذَا الْوَادِي»، قَالَ: ثُمَّ سِرْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى ثَنِيَّةٍ، قَالَ: «أَيُّ ثَنِيَّةٍ هَذِهِ؟» فَقَالُوا: هُوَ شَيْءٌ أَوْ كَذَا، فَقَالَ: «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ عَلَيْهِ جُبَّةٌ صُوفٌ، خِطَامُ نَاقَتِهِ خَلِيَّةٌ مَارًّا بِهَذَا الْوَادِي مُلَبِّيًا».
وفى الحج تذكر الآخرة حين يجتمع الناس في صعيد واحد، في عرفات وغيرها ليس بينهم تفاضل ولا تغاير، الكل في البلد سواء، لا فضل لأحد على أحد فيه.
وأما الفوائد العامة الاجتماعية التي تعود على الأمة فهي كثيرة جدًّا منها -أيها الإخوة- تلاقي المسلمين من سائر بقاع الأرض، وتعارفهم وتآلفهم، والعمل على جمع الكلمة وتوحيد الصفوف وإزالة الحدود المصطنعة التي دروسها، ويريدون أن يتابعوا يومًا بعد يوم فيقيموا المخططات الممزقة لهذه الأمة الواحدة.
وفي الحج أيضًا تتجلى القوة الهائلة التي يملكها المسلمون لو أن هذه القوة وُظّفت التوظيف الصحيح لخدمت مصالحهم وعادت إليهم قوتهم.
وفي الحج -أيضًا- مؤتمر دوري إسلامي سنوي عالمي يجتمع فيه قادة السياسة وقادة الثقافة، وقادة الاجتماع وقادة الاقتصاد، فيدرسون مشاكلهم ويعملون على اتخاذ السبل التي تعالج هذه المشاكل ويضعون الخطط ولو على مراحل لتحريرهم مما هم فيه ولإنقاذهم من واقعهم المرير.
وفي الحج أيضًا تكتل وتوحد؛ حيث يشعر المسلمون جميعًا أنهم يدينون بدين واحد، ويؤمنون برب واحد، ونبي واحد، لباسهم واحد، وقبلتهم واحدة، وأهدافهم واحدة، ويلهجون بلسان واحد "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لبيك إن الحمد والنعمة لك لا شريك لك فتتجلى الواحدة الجامعة والأخوة الطائعة والقلوب المتلاقية.
وفى الحج: فتح باب الأمل لأهل المعاصي، وتربيتهم على تركها ونبذها في تلك المشاعر، إذ يتركون كثيراً من مخالفاتهم الشرعية خلال فترة الحج وفي المشاعر.
وفى الحج: تربية النفس وتعويدها على عدم اليأس من رَوح الله ورحمته، مهما اشتدت الخطوب، وعظمت الكروب، فإن الله بيده الفرج، فهذه أم اسماعيل كاد وليدها أن يهلك فأخذت تركض من جبل إلى آخر، تنشد الفرج، فأتاها من حيث لا تحتسب، إذ نزل الملَك فضرب الأرض وخرج ماء زمزم.
قال الإمام الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني اليماني مترجماً شيئاً من مشاعره ومشاعر المسلمين تجاه بيت الله:
وما زال وفد الله يقصدُ مكَّةً *** إلى أن يُرى البيت العتيق وركناهُ
يطوف به الجاني فيُغفَرُ ذنبُه *** ويسقُط عنه جُرْمُهُ وخَطاياه
فمولى الموالي للزيارة قد دعا *** أنقعد عنها والمَزور هو اللهُ؟
نحج لبيت حجه الرسْل قبلنا *** لنشهد نفعاً في الكتاب وُعِدناه
فيا من أسا يا من عصى لور أتينا*** وأوزارانا تُرمى ويرحمنا الله
وودعتِ الحجاجُ بيت إلهها *** وكلهمُ تجري من الحزن عيناه
ووالله لولا أن نؤمل عودة *** إليه لذقنا الموت حين فُجعناه
فضل الحج:
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: «من حجَّ هذا البيتَ فلم يرفُث ولم يفسُق رجع من ذنوبِه كيومِ ولدَتْه أمُّه» (متفق عليه).
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «العُمرةُ إلى العُمرة كفَّارةٌ لما بينهما، والحجُّ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلا الجنة» (متفق عليه).
وعن عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تابِعوا بين الحجِّ والعُمرة؛ فإنهما ينفِيَان الفقرَ والذنوبَ كما ينفِي الكِيرُ خبثَ الحديدِ والذهبِ والفضَّة، وليس للحجَّة المبرورة ثوابٌ إلا الجنة» (اخرجه الترمذي والنسائي).
وسُئِل النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ العمل أفضل؟ قال: «إيمانٌ بالله ورسوله». قيل: ثم ماذا؟ قال: «الجهادُ في سبيل الله» . قيل: ثم ماذا؟ قال: «حجٌّ مبرور» (رواه البخاري ومسلم).
فضل مكة والمدينة:
أيها المسلمون: لقد عظَّم الله بيتَه الحرام؛ فأقسَمَ به في كتابه فقال: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} وقال عز وجل: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين:3].
وبيَّن فضلَه بقوله: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ . فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:96-97].
ومن بركته: أن الله ضاعفَ فيها الأجور؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلاةٌ في مسجِدي هذا خيرٌ من ألفِ صلاةٍ في غيره من المساجِد إلا المسجِدَ الحرام» (رواه مسلم).
وهي أحبُّ بلاد الله إلى الله ورسولِه؛ روى الترمذيُّ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والله إنكِ لخيرُ أرض الله، وأحبُّ أرض الله إلى الله، ولو أني أُخرِجتُ منكِ ما خرجتُ» .
ومن فضلِ مكَّة حرسَها الله شمولُ الأمن لكل من فيها من إنسانٍ، وحيوانٍ، ونباتٍ؛ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إن مكَّة حرَّمها الله تعالى ولم يُحرِّمها الناس، ولا يحلُّ لأمرئ يُؤمنُ بالله واليوم الآخر أن يسفِك بها دمًا، أو يعضُدَ بها شجرة..الحديث» (رواه البخاري ومسلم).
وفي روايةٍ عندهما: «هذا البلدُ حرَّمه الله يوم خلقَ السماوات والأرض، فهو حرامٌ بحُرمة الله إلى يوم القيامة، لا يُعضَدُ شوكُه، ولا يُنفَّرُ صيدُه، ولا يُلتقَطُ لُقَطتُه إلا من عرَّفَها، ولا يُختلَى خلاه».
وتعظيمُ البلد الحرام دليلٌ على التقوى، وسببٌ لحصولها؛ قال الله عز وجل: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]، وقال سبحانه: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج:30].
وإن من أول ما يُعظَّمُ به هذا البلدُ الحرام: أن يُجتنَبَ فيه الشركُ وما يُؤدِّي إليه من البِدع والمُحدثات؛ قال الله عز وجل: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:26]. فهو بيتٌ أُسِّس على التوحيد.
كما يجبُ تعظيمُ وتطهيرُ هذا البيت الحرام وهذه البُقعة الطيبة الطاهرة من المُنكرَات والمعاصِي الظاهرة، ويتحقَّقُ ذلك بالأمر بالمعروف، والنهي عن المُنكَر، والتواصِي بالبرِّ والتقوى؛ فالأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المُنكَر من شعائِر الله التي يجبُ تعظيمُها.
بل ذهبَ بعضُ السلَف إلى أن السيئات تُضاعَفُ في هذا البلد؛ قال مُجاهدٌ رحمه الله: "تضاعفُ السيئاتُ في مكَّة كما تُضاعَفُ الحسنات".
فعلى المسلم أن يعِيَ هذه القُدسيَّة؛ مُعظِّمًا شعائِرَ الله وحُرُماته، ولتكن أعمالُه فيها مُوافقةً لأمر الله وشرعِه، وليُحسِن العمل، وينشغلُ بما جاء لأجله من طلبِ رِضوانِ الله، وليجتنِب ما يُنافِي مقاصِدَ الحجِّ؛ قال الله عز وجل: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة:197].
نسأل الله عز وجل ان يرزقنا حج بيته الحرام وان يوفق المسلمين إلى اغتنام موسم الحج فيما ينفع الامة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.