■ إغلاق مكاتب حماس قرار وزير خارجية وليس حكم محكمة وحكم حظر 6 إبريل أعادها للحياة من العدم ■ الحسبة فى قضايا الخصخصة ورطتنا فى قضايا التحكيم
■ ودعاوى سحب الجنسية من البرادعى أو القرضاوى أساءت لسمعة مصر
نحن شعب نعشق النكتة ولكن عشقنا للمحاكم أقوى وأشد، وأهم ورقة فى حياتنا هى عريضة الدعوى التى قدمها للمحكمة، كل خلاف هو نزاع قضائى، وكل خناقة بين عضوين فى حزب أو جمعية أهلية هى قضية أمام المحاكم، لم تعد مصر بلد الألف مئذنة ولكنها صارت بلد ال14 مليون دعوى سنوية، لم تعد مصر بلد الأهرام ولكنها أصبحت بلد النيابات، أظن أننا نقضى معظم حياتنا الآن فى المحاكم والنيابات، وأن مصر تحولت إلى قاعة محكمة كبرى ممتدة ليس لكل شبر فى مصر، بل لكل خلاف وأى خلاف شخصى عقائدى سياسى، لاحظ أننا لم نعد شعبا منتجا إلا فى الدعاوى والبلاغات، ولو كانت البلاغات والدعاوى التى تقدم كل يوم بل كل ساعة تتحول إلى أموال لأصبحت مصر من أغنى دول العالم، الأحكام القضائية تتصدر مانشيتات الصحف وبرامج الفضائيات ومناقشات المواطنين، وأخبار البلاغات والأهم عددها ينافس زيادة المواليد فى مصر، فمعدل نمو البلاغات والدعاوى فى مصر هو من أكبر المعدلات العالمية، وإذا كان تضخم غدة التقاضى فى مصر معروفًا وثابتًا بالأرقام قبل ثورة 25 يناير فإن التضخم صار سرطانا، سرطان ينهش فى جسد مصر ويعرض قضاها إلى محاكمة يومية وعلى الهواء مباشرة، صورة مصر عبر البلاغات والقضايا سوداء كل الناس فاسدون وحرامية وكل الخلافات السياسية تحولت إلى قضايا أو بالأحرى ورطة قضائية، وكل الرغبات والأحلام والمؤامرات أحلت أدراج المحاكم فى شكل دعاوى بشق مستعجل وآخر يمكن الحكم فيه بعد كام شهر أو كام سنة، معظم القضايا المستعجلة لا تستحق العجلة بل لم تكن تستحق أن تتحول إلى دعاوى قضائية من الأساس، ليس لأن هذه الملفات غير مهمة أو خطيرة، ولكن لأنها مرتبطة بأماكن أخرى غير المحاكم، وتتطلب قرارات وإجراءات حكومية وإدارية لا أحكام قضائية، وأغلب الظن أن الثقة فى القضاء تحولت إلى عبء على القضاة وعلى العدالة كمؤسسة والأخطر أن بعض القضايا يكلف مصر الكثير من مواردها وسمعتها.
1 - الحسبة أصل البلاء
كان نظام مبارك يعمل بنظام الوكيل، فإذا أراد أن يغلق جريدة سلط أحد أتباعه لرفع دعوى ضد الجريدة بإهانة المؤسسات، وإذا أراد مبارك أن يشد ودن الصحافة ظهر من يقاضى الصحف بتهمة إهانة الرئيس، وإذا ضاق الحزب الوطنى بحزب ما أو شعر مجرد شعور بأن الحزب صاعد، سلط أحد أعضاء الحزب بإقامة دعوى قضائية لتتنازع على رئاسة الحزب، وكأن الحزب مجرد شقه يتخانق عليها زوجان، وقد صار نظام مرسى على نفس النهج، وكان هذا الأسلوب يتطلب بشكل أساسى وجود وكيل، وكيل من حقه أن يلجأ أو يقاضى أى واحد، ويرفع دعوى فى أى حاجة وكل حاجة.
واستمرت هذه الظاهرة دون أن تجد من يحاربها أو يضع لها ضوابط حتى استيقظ المجتمع مذعورا على دعوى قضائية بالتفريق بين الدكتور والمفكر الراحل نصر حامد أبوزيد وزوجته، وكان مقدم الدعوى مواطنًا غيورًا على دينه، ومع الفضيحة الدولية والصدمة والمخاوف المصرية من تكرار الدعوى بدأ التحرك، منعنا الحسبة فى القضايا الدينية، وأغقلنا الباب على كل من يريد أن يجرجر مفكرًا أو أديبًا أو مبدعًا على المحاكم، ولكن الحسبة فى القضايا الأخرى استمرت وزادت وتشعبت حتى غطت مصر وكل ملفاتها، يندر الآن أن تجد قضية حركتها النيابة العامة من تلقاء نفسها، أو حتى بدأت ببلاغ من جهة رقابية، وذلك رغم كثرة الجهات الرقابية وتعددها، دوما تبدأ قضايا الحسبة بمواطن شريف أو مواطن متحمس أو مواطن موتور، كل أنواع وأصناف المواطنين تقدموا ببلاغات وحركوا دعاوى.
2 - الحسبة السياسية
آخر قضايا الحسبة السياسية هو حكم 6 إبريل، البداية كانت مواطنًا أقام دعوى بحظر انشطة 6 إبريل، وصدر الحكم عندما كان وزير الخارجية نبيل فهمى «بيقول يا هادى» فى رحلته الأمريكية الأولى منذ 30 يوليو، وكان الحكم بحظر أنشطة 6 إبريل فى مقدمة اعتراضات وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى، وبالطبع ليس من حق كيرى أو غيره التعليق على أحكام القضاء المصرى أو التدخل فى السيادة المصرية، ولكن السؤال الملح جدًا: هل يحتاج حظر انشطة 6 إبريل لحكم قضائى وقضية فى المحاكم أم أننا إزاء قرار إدارى تتخذه وزارة التضامن، وذلك ضمن سلسلة إجراءات تطبق على الجميع، وتذهب بعد هذه الإجراءات 6 إبريل إلى القضاء؟!
خذ عندك نموذحًا آخر أو دعوى أخرى، المواطن الذى أقام دعوى بحظر أنشطة حماس بمصر وإغلاق مكاتبها، لقد كانت حماس ممنوعة لفترة خلال حكم مبارك دون حكم قضائى أو آخر، فالخارجية تستطيع القيام بهذه المهمة من خلال قرار للوزراء أو مجلس الوزراء، وفضلا عن دور المخابرات بالطبع فى مثل هذه الملفات، لكننا أدمنا بالفعل توريط القضاء فى قضايا سياسية لا علاقة لها بالدور المهم والمحورى لمؤسسة العدالة، وإذا اتخذ وزير الخارجية قرارًا بإغلاق مكاتب حماس فلن تذهب حماس للمحاكم المصرية للتظلم من قرار إغلاق مكاتبها، ولكن الحسبة السياسية أوصلتنا لمأزق، فبدلا من التعامل السياسى المحترف مع حماس وتجاوزاتها أو جرائمها ضد مصر تحول الأمر إلى خبر رئيسى فى كل وكالات الأنباء، مصر تغلق مكاتب حماس، مصر تحظر نشاط حماس، وظهرت قيادات حماس مرتدية ثوب البراءة فى كل مكان، فالدولة المصرية كلها ضد حماس، من باب الاستفادة من التاريخ، من باب تذكر السوابق، فبعد مذبحة غزة الثانية واضطرار مئات الألوف من الغزاوية لدخول سيناء، كان القرار المصرى هو السماح للفلسطينيين بدخول سيناء، وكان متخذ القرار فى مصر يعلم جيدا أن قيادات حماس كانت تسعى لإحراج مصر، وأن حماس سربت بعض مئات من شبابها المسلحين ضمن المواطنين الفلسطينيين، وتصرفت مصر بحكمة، فلم تلجأ للمحاكم، لم تترك الأمر للمواطنين الشرفاء، لكنها بهدوء وسرية تتبعت عناصر حماس فى كل محافظات مصر وقامت بعملية هادئة بإعادتهم، وسمحت للمواطنين من غزة بشراء البضائع والاحتياجات من سيناء وزيارة أهلهم فى رفح ثم عادوا من حيث جاءوا، فقضية التعامل مع حماس أو بالأحرى تجاوزاتهم لا تتم عبر المحاكم ولا بالقضايا، مرة أخرى الحسبة السياسية لا تصلح لمثل هذه الملفات الحساسة والشائكة، مرة ثالثة وألف هذه القضايا لا تحل بالمحاكم.
3 - الحسبة وسحب الجنسية
اختفت أخبار الدكتور محمد البرادعى أو كادت، ولكن وجود اسم البرادعى يرفع قيمة الخبر خاصة فى الصحافة الأجنبية، ويجعله فى مقدمة الأخبار عن مصر، منذ أن ترك البرادعى منصبه وبلده، وهناك خبر رئيسى كل كام أسبوع عن البرادعى الخبر عبارة عن تأجيل إسقاط الجنسية المصرية عن البرادعى، مواطن اغضبه ما فعله البرادعى وقرر أنه خاين وقرر أيضا أن يذهب للمحكمة ويطالب بإسقاط الجنسية المصرية عن البرادعى، والنتيجة عرض مستمر فى الصحافة الأجنبية، أكثر من 14 خبرًا عن الدعوى وتحولت القضية من مجرد مواطن قرر أن يتقدم بدعوى ضد البرادعى إلى أن مصر تتخذ إجراءات قانونية لإسقاط الجنسية عن البرادعى، مواطن آخر قرر أن يتخذ موقفا مشابها مع شخصية أخرى، فتحولت دعوى إسقاط الجنسية عن القرضاوى شيخ الجماعة الإرهابية إلى عرض مستمر فى الصحف والفضائيات والوكالات الإخوانية، إسقاط الجنسية أم منحها من اختصاص السلطة التنفيذية وعلى المعترض أو المتضرر اللجوء للقضاء، فى قائمة دعوى الحسبة السياسية لإسقاط الجنسية شخصيات أخرى، كل حسب هواه والكل معرض لسيف دعوى قضائية بإسقاط الجنسية عنه لمجرد أن فلانًا أو علانًا مختلف معه أو ضده.
4 - الحسبة الاقتصادية
من السياسة للاقتصاد تظل الحسبة هى البطل الرئيسى فى المشهد المصرى، وإذا كانت صدمة نصر أبوزيد قد دفعت الحكومة للتصرف، فإن صدمة وتوابع قضايا الحسبة الاقتصادية قد دفعت الحكومة للتصرف متأخرا جدا، قبل الثورة بدأت قضايا الحسبة الاقتصادية وحرك مواطنون دعاوى ضد تخصيص أراضى الدولة لبعض المستثمرين، ولكن الأمر زاد بعد ثورة 25 يناير، ووصل عدد الدعاوى ضد صفقات بيع شركات القطاع العام أو الخصخصة وتخصيص الأراضى لنحو 37 شركة، وكلها من مواطنين أو عمال فى الشركات، وحكم فى بعض هذه القضايا بفسخ العقد، وجرى عقد عقود أخرى، وهدد المستثمرون باللجوء للتحكيم الدولى، وتحول التهديد إلى قضايا تحكيم بالفعل بشكل يهدد بإشهار مصر إفلاسها إذا خسرت ربع - مجرد ربع هذه القضايا، وعلى المستوى الاقتصادى فقدت التعاقدات المصرية رسخوها وأصبح كل مستثمر يفكر ألف مرة قبل ضخ استثمارات فى مصر، لأن الأمر تحول ببساطة إلى مغامرة تنتهى فى الغالب بالسجن أو على الأقل سحب المشروع، وعند هذا الحد تحركت الحكومة ومنعت الحسبة الاقتصادية، فيعود الطعن إلى أطراف التعاقد فقط، أى الحكومة والمستثمر، وبهذا التعديل يخرج المواطن العادى من دائرة تحريك دعاوى، هذا التعديل لا يمنع أى مواطن من تقديم بلاغ فى الشق الجنائى، ولكنه يبعد المواطن عن التحكم فى مصير العقود، فالمسئول الذى يخطئ أو يرتكب جريمة الفساد فى أى صفقة يفقد حريته ورأسه، ولكن المستثمر لا يفقد مشروعه بعدما ضخ فيه ملايين الجنيهات، وهذه القاعدة تضع حدا للحسبة الاقتصادية التى استمرت فى عروض مستمرة لمدة ثلاث سنوات.
5 - مؤسسات الحسبة
معارضو التعديل الأخير الخاص بمنع الحسبة الاقتصادية لديهم حجة رئيسية، هذه الحجة تقوم على أن التعديل يحصن الفساد ويمنع المواطن الشريف الناشط المهموم بقضايا بلده من مواجهة الفساد، وكأن المواطن فى كل دول العالم هو الذى يحارب الفساد، وكأن دعاوى الحسبة هى الطريق الوحيد لمحاربة الفساد، وكأن كل مؤسسات الرقابة فى مصر لا تكفى لمكافحة الفساد، فى قضايا الخصخصة أو عقود تخصيص الأراضى يوجد ألف عين، الجهاز المركزى للمحاسبات له عيون وموافقته ضرورية لتمرير التعاقد، وهناك الرقابة الإدارية ومباحث الأموال العامة واستجوابات البرلمان، وقبل هذا وذاك هناك النيابة العامة وهى صاحبة الحق الأصيل وممثل المجتمع لفتح تحقيقات فى أى شبهات فساد، فإذا كانت كل مؤسسات مصر عاجزة عن القيام بواجباتها، فلا يمكن تصور مجرد تصور أن المواطنين سيكونون قادرين على حماية المال العام، فدور المواطن فى كل دول العالم هو دور مكمل لدور المؤسسات، وليس بديلا عن دور المؤسسات، وإذا كان لدينا قصور أو نقص فى بعض مؤسسات الدولة فإن الحل ليس باستبدالها بالمواطن، ولكن الحل الحقيقى للأزمة هو العمل على إصلاح وتطوير هذه المؤسسات ورفع كفاءتها فى مواجهة الفساد، فاذا كانت بحاجة إلى دعم استقلالها سعينا إلى منحها هذا الدعم، واذا كانت فى حاجة إلى تطوير قدرات أبنائها وفّرنا لهم الدعم الفنى والمالى، ولكن البعض يتصرف بدافع اليأس من الإصلاح، ويعتمد على المواطن بديلا عن هذه المؤسسات، وهذه نظرة قاصرة فضلا عن كونها تضعف المؤسسات بدلا من تقويتها لأداء دورها.
6 - الحسبة الطائرة
بين الحسبة السياسية والحسبة الاقتصادية رابط مهم، فكلا النوعين خارج السيطرة، لأنها تدخل الملفات إلى القضاء المستقل فى أحكامه ومواعيد صدورها، فى حين أن تحرك المؤسسات يمكن السيطرة عليه بما يلائم ظروف الدولة والمجتمع، فقد يكون من الأفضل للدولة ألا تحظر أنشطة 6 إبريل الآن وألا تتخذ القرار عشية زيارة وزير الخارجية المصرى لأمريكا، وقد يكون من الملائم عدم إغلاق مكاتب حماس والاكتفاء بالتعامل مع السلطة الفلسطينية المنتخبة، وأن يترك ملف التعامل مع حماس للخارجية المصرية أو المخابرات لتحدد الوقت والكيفية التى تواجهه بها تجاوزات حماس، وبالمثل فقد تكون آثار دعوى إسقاط الجنسية المصرية عن البرادعى أو حتى القرضاوى سلبية على سمعة مصر أو مواقفها الدولية.
وفى قضايا الحسبة الاقتصادية فإن قيام المؤسسات بدورها بدلا من المواطنين يحفظ المواءمة بين حقوق الوطن وحقوق المستثمرين، ويحافظ على سمعة التعاقدات، وهذه الملاءمة لا تعيب نظامًا لا النظام المصرى ولا أى نظام، فقد اتخذ النائب العام البريطانى قرارا بحفظ التحقيقات فى قضية رشوة شهيرة جدا، وكانت إحدى الشركات الخليجية قد تورطت فى القضية، واتخذ قرارًا بالحفظ حفاظًا على مصالح بريطانيا، فهناك عقود يمكن فسخها دون إلحاق أضرار بالدولة المصرية، ولكن هناك حالات أخرى يكون استرداد المصنع أقل قيمة من توابع التحكيم، فى إحدى الدعاوى كانت قيمة المصنع تساوى بعض ملايين من الجنيهات، ولكن قضية التحكيم مغامرة بملايين الدولارات ولذلك ليست جريمة أن تقرر الدولة بمؤسساتها ترك بعض الملفات لأن المكسب فيها خسارة فادحة، وهذه الأمور تترك لمواءمة صاحب القرار من المؤسسات لتوابع كل ملف وكل إجراء، أما حين نورط القضاء معنا، فنحن نفقد السيطرة تماما على مسار الأمر، فالقضاء مستقل والقاضى لا يحكمه سوى ضميره والقانون، العدالة معصوبة العينين، ولا تقيم وزنا إلا للمستندات والقانون، وهذه ميزة وحصانة كبرى فى مؤسسة العدالة، ولكن هناك بعض الملفات والقضايا تتطلب إجراء موازنات ومواءمات لصالح الدولة والمجتمع، والقضاء ليس ساحة لهذه المواءمات، ولذلك غلق منابع الحسبة هو الحل الوحيد للخروج من أزمات العديد من الملفات الساخنة التى تنفجر كل يوم فى وجه المجتمع المصرى، أصل المشكلة ليست فى الأحكام، لكنها فى الهرولة للقضاء فى أى قضية، وتحويل أى ملف وكل ملف لدعوى قضائية، وبدون منع الحسبة بكل أنواعها لن نخرج من المأزق الحالى، كل مواطن من حقه الذهاب ببلاغاته وشكوكه للنيابة العامة، ولكن النيابة هى التى تحيل البلاغ للمحكمة أو تقوم بحفظه، من دون هذه الخطوة لن يهدأ بركان القضايا فى مصر، بدون هذه الخطوة ستظل مصر كلها فى ساحة المحاكم.