أصبح الفساد ظاهرة تثقل كاهل كافة المجتمعات دون استثناء ويترتب عليه نطاق واسع من الآثار الضارة والمدمرة لهذه المجتمعات، فهو يقوض أسس الديمقراطية وسيادة القانون ويؤدي إلى ارتكاب انتهاكات حقوق الإنسان ويخلق الأجواء المناسبة لتفشي الجريمة المنظمة ويساعد على المساس بالقيم الأخلاقية والتنمية المستدامة كونه يعد أي الفساد عقبة أساسية على طريق التنمية وعلى نحو خاص فإن تأثيره المدمر يبدو أكثر تأثيراً في دول العالم الثالث.ولعل اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة الفساد تمثل رسالة واضحة على تصميم المجتمع الدولي على مكافحة الفساد. وقد عرف البنك الدولي وصندوق النقد الدولي الفساد بأنه استغلال المنصب العام بغرض تحقيق مكاسب شخصية. من أجل التعرف على طبيعة وماهية الفساد لا بد من التطرق إلى الخصائص التي يتمتع بها هذا الفساد والتي نوجز أهمها كالتالي: 1. تتصف أعمال الفساد بالسرية وعدم البوح بها وغالباً ما يتم اكتشافها وفضحها من خلال أجهزة الدولة الرقابية أو الإعلامية أو القضائية ومثال ذلك المخالفات الصارخة فى تقييم الشركات التى تم بيعها فى إطار برنامج الخصخصة التى كشفت عنها دائرة الاستثمار أحكام محكمة القضاء الادارى. 2. تنطوي عمليات الفساد على الخديعة والتحايل والقفز على القانون وخاصة في حالة عدم التزام الدولة ومؤسساتها بالنظام والقانون ويتضح ذلك جلياً فى الاراضى الذى خصخصتها الدولة للمستثمرين بأسعار زهيدة بملايين الأمتار. 3. تعتمد أغلب أعمال الفساد على استغلال السلطة والنفوذ الذي يتمتع به الفاسدين. 4. في أكثر الأحوال قد يشترك أكثر من شخص بعمل الفساد، وقد يكونوا مجموعة موزعة أفرادها في أجهزة الدولة المختلفة ومترابطة ومشتابكة وذلك لتحقيق أرباح مشتركة. 5. يتصف الفساد بعدم العشوائية فله نظاماً محكماً يجعله مستعصياً من الاقتراب منه وله شبكة مترابطة سرية متغلغلة في شتى المجالات وهو ما يفسر ما تواجهه الدولة المصرية من عدم الاستقرار طوال الفترة الماضية بعد ثورة 25 يناير حيث أن الفساد ينتشر فى جسد الدولة وفى شتى المجالات. عوامل الفساد من الصعب اختزال ظاهرة الفساد في عامل بعينه أو حتى مجموعة عوامل بعينها، إلا أنه يبدو أن العامل السياسي ربما يكون أكثر بروزاً وإثارة للانتباه لكنه ليس العامل الوحيد بالتأكيد، ومع ذلك يمكن القول أن ثمة عوامل ينبغي أخذها في الاعتبار، وهي عوامل أفصحت عنها بصورة أو بأخرى بعض أحكام اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة الفساد يمكن إيجازها في الآتي: 1. العامل السياسي: وهو نتاجاً لغياب قيم الشفافية والنزاهة والمساءلة وسيادة القانون، وهي قيم ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالديمقراطية كثقافة مجتمع ونظام حكم وإدارة. وهو ما أشارت إليه ديباجة اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة الفساد حيث نصت في فقرتها الأولى على((إن الدول الأطراف في هذه الاتفاقية إذ تقلقها خطورة ما يطرحه الفساد من مشاكل ومخاطر على استقرار المجتمعات وأمنها، مما يقوض مؤسسات الديمقراطية وقيمها والقيم الأخلاقية والعدالة، ويعرض التنمية المستدامة وسيادة القانون للخطر)). ويعد العامل السياسى احد أهم أسباب ثورة 25 يناير بجانب عوامل اقتصادية واجتماعية حيث عمد الحزب الوطنى الساقط إلى احتكار الحياة السياسية وإفسادها من خلال تزوير انتخابات مجلس الشعب وسن قوانين تعين عمداء الكليات ورؤساء الجامعات بالتعين والسيطرة على النقابات المهنية وفرض الحراسة عليها ومنع الطلبة بالجامعات من ممارسة حقوقهم مما أدى فى النهاية الى ثورة 25 يناير . ومما هو جدير بالذكر أن الفساد ظاهرة لا تخلو منها أحياناً أعرق المجتمعات ونظم الحكم الديمقراطية لكنه يظل في هذه الحالة ظاهرة استثنائية، كما أنه يواجه كلما ظهر عن طريق خلق المؤسسات الكفيلة بالحد منه وتحجيم نطاقه ومداه. 2. العامل الاقتصادي: وهو يبدو مزدوج الدلالة في صلته بالفساد، حيث تصبح المجتمعات الفقيرة والغنية على حد سواء معرضة في ظل غياب القيم السياسية والثقافية وآليات الحماية القانونية للسقوط في شراكه. فالفقر عامل يصعب أحياناً إنكار صلته بالفساد على الأقل في بعض صوره لا سيما في رشوة صغار الموظفين من ذوي الدخول المتواضعة أو إقدامهم على اختلاس المال العام، أما الغنى فقد يبدو بدوره عاملاً مشجعاً على صورة معينة للفساد وهو ما يعبر عنه في علم الجريمة ب(إجرام الياقات البيضاء)، ويتجلى ذلك في جرائم الاختلاس الكبيرة، وتقاضي العمولات، وغسل الأموال، كما أن النموذج الاقتصادي المطبق قد يتيح أحياناً ويزيد فرص الفساد لا سيما في المجتمعات التي تمر بمراحل تحول اقتصادي حيث تصبح قيم وآليات الليبرالية الاقتصادية التي لم تترسخ بعد بما فيه الكفاية ستاراً يخفي العديد من جرائم الفساد ووسيلة يمتطيها البعض لارتكاب هذه الجرائم مستغلين ما تتيحه هذه القيم والآليات الليبرالية من فرص و إغراءات. 3. العامل الثقافي: وهو ما يقدم تفسيراً ممتازاً لظاهرة الفساد ليس فقط على صعيد نشأة الظاهرة أو مداها، بل أيضاً على صعيد تواضع سياسة مكافحتها، فالفساد يفضح بيروقراطية التنظيم الإداري الذي ترعرع فيه وما تتسم به هذه البيروقراطية من رذائل التسلط والتحكم والاستعلاء، كما أن الفساد يغطي رقعة القصور الثقافي الذي لم يفلت منه الموظف العمومي ولا المواطن صاحب الخدمة على حد سواء، وهو قصور ثقافي لم يستوعب بالقدر الكافي حتى اليوم فكرة أن الدولة ملتزمة بأن تؤدي للفرد من خلال مرافقها العامة خدماته على النحو المطلوب، وفي وقت معقول، دون أي مقابل غير ما يدفعه الفرد من ضرائب أو رسوم. 4. العامل القانوني: وهو ما يكشف عن تواضع مردود سياسة مكافحة الفساد على الرغم مما تزخر به التشريعات من ترسانة عقابية مدججة بكل صور التجريم والعقاب، ولعل تفسير ذلك يرجع إلى أن إجرام الفساد لا سيما في العصر الحالي يتسم بالتنظيم والمراوغة والذكاء، وكل إجرام جديد وذكي ينبغي مواجهته بتشريع جديد وذكي. عواقب الفساد وآليات مواجهته: أولاً: عواقب الفساد: لعل أخطر ما ينتج عن ممارسات الفساد والإفساد هو ذلك الخلل الجسيم الذي يصيب أخلاقيات العمل وقيم المجتمع، مما يؤدي إلى شيوع حالةٍ ذهنيةٍ لدى الأفراد تبرر الفساد وتجد له من الذرائع ما يبرر استمراره، ويساعد في اتساع نطاق مفعوله في الحياة اليومية، إذ نلاحظ أن (الرشوة) و(العمولة)و(السمسرة) أخذت تشكل تدريجياً مقومات نظام الحوافز الجديد في المعاملات اليومية، الذي لا يجاريه نظام آخر، وعندما تتفاقم مضاعفات الفساد مع مرور الزمن، تصبح ((الدخول الخفية)) الناجمة عن الفساد هي الدخول الأساسية التي تفوق أحياناً ((الدخول الأسمية)) مما يجعل الفرد يفقد الثقة في قيمة ((عمله الأصلي)) و جدواه. إن الآثار المدمرة للفساد ليست مجرد قضية أخلاقية فحسب بل لها تكلفتها الاقتصادية والاجتماعية الباهضة والتي يمكن إيجاز أهمها فيما يلي: 1. يؤدي ارتفاع حجم التهرب الضريبي، بفضل ممارسات الفساد، إلى زيادة عجز الموازنة العامة للدولة، وضعف مستوى الإنفاق العام على السلع والخدمات الضرورية. 2. ارتفاع تكلفة الخدمات إلى (10%) نتيجة التكاليف الإضافية الناجمة عن ممارسات الفساد. 3. ارتفاع تكاليف التكوين الرأسمالي (المباني والمعدات) نتيجة العمولات التي تتراوح في بعض بلدان العالم الثالث ما بين 20% إلى 50% فوق التكلفة الأصلية. ثانياً: آليات مواجهة الفساد: إن مواجهة الفساد تتطلب إتباع نهجاً متعدد المحاور، أي بمعنى إتباع استراتيجية شاملة سياسية وإدارية ومجتمعية(بإشراك المجتمع الأهلي)، ووقائية واقتصادية، ثم قانونية عقابية في نهاية المطاف، ونوجزها في ثلاث محاور رئيسية: 1. محور توسيع رقعة الديمقراطية والمساءلة: ويقتضي ذلك توسيع دائرة الرقابة الشاملة والمساءلة من جانب المجالس التشريعية والنيابية، والأجهزة الرقابية، ومنظمات المجتمع المدني لتحقيق درجة أكبر من الشفافية والنزاهة والمساءلة والإدارة السليمة للشئون العمومية والممتلكات العمومية. 2. محور الإصلاح الإداري والمالي: وهو يقتضي وضع القواعد والضوابط اللازمة لمنع التداخل بين الوظيفة . 3. محور إصلاح هيكل الأجور والرواتب: كي يمكن محاصرة الفساد عند أدنى المستويات لا بد من تحسين أوضاع صغار وكبار الموظفين في الخدمة المدنية، مما يساعد في زيادة درجة حصانة صغار الموظفين وكبارهم إزاء الفساد والمفسدين.