حتى نفهم أبعاد أوراق بنما ... علينا أن نستعيد معاً قصة ويكليكس. عندما ظهرت وثائق ويكليكس أربكت طبيعة التعاملات لدى عدد كبير من النخب الحاكمة على مستوى العالم، إذ كشفت كثيراً من المواقف التي كانت خافية في التعاملات السياسية غير الرسمية أو الخفية بين عدد كبير من الدول.
بدأت ويكليكس ب 90 ألف وثيقة تم تسريبها من الوثائق السرية للجيش الأمريكي في أفغانستان، وبالرغم من سذاجة فكرة تسريب وثائق من الجيش الأمريكي.. إلا أنه مع الوقت اشتهرت تقنية التسريبات وتحولت من فضيحة صاخبة الى حالة مستمرة ومستقرة، فقد تحولت ويكليكس الى موقع الكتروني ضخم اجتذب عددا كبيرا من الصحفيين والمهتمين بالشأن المحلى في كل بلد ضربه موقع ويكليكس. بدأ موقع التسريبات الكبير في نشر وثائق جديدة لم تكن ضمن ال 90 ألف وثيقة الأصلية، وبدأت في نشر وثائق متعددة غير معروفة المصدر لكنها اعتمدت في مصداقيتها على الشهرة الكبيرة التي حققها موقع ويكليكس الذى بات مرجعاً لكثير من الباحثين والصحفيين والسياسيين، وارتبطت بتأثيراتها تحركات ضخمة على الأرض. نجح موقع ويكليكس وقتها فى السيطرة على المشهد الإعلامي والسياسي الدولى، بعد سنوات من تراجع قدرة أمريكا على التحكم في الاعلام السياسي، وكذلك الازمة التي عاشها الاعلام الغربي وقتها مع تراجع تأثير الوسائل التقليدية كالصحف والقنوات الفضائية على شاكله ال سى ان ان والبى بى سي وغيرها من القنوات التي تراجعت قدرتها على تحريك المشهد أو حتى التعبير عن وجهة النظر للدولة التي تحملت تكلفة بثها بلغات متعددة. وهكذا نجحت واشنطن في الترويج لسياساتها لكن دون مسئولية امريكية مباشرة ، وهذه هي طبيعة العصر الذى نعيش فيه والذى يعتمد بالأساس على التأثير الناعم على ذهن المتلقى بالوسائل السلمية، وعبر وسائل تبتعد عن الخوف أو الترهيب. يقول جوزيف ناي "القوة الناعمة تعتمد على ما يجري في ذهن وعقل المتلقي.. ويفسرها روبرت غايتس وزير الدفاع الأمريكي السابق وفق خلفيته العسكرية واصفاً لها بأنها "القدرة على تحديد وتوجيه السلوك بدلاً من فرض الإرادة ، في حين عرّفها مايكل آيزنشتات الباحث المتخصص في الدراسات الأمنية والعسكرية في معهد واشنطن لدراسات الشرق الادنى7 بأنها "استخدام الأقوال والأفعال والصور الانفعالية في إطار حملة إستراتيجية للتواصل، طويلة المدى لتشكيل الحالة النفسية لبلد معادٍ لأمريكا". وقد حدّد ايزنشتات أن نسبة الأقوال والتصريحات الإعلامية يجب أن تشكل20% من حملة التواصل الإستراتيجي الناعمة، في حين تتشكل 80 % الباقية من برامج وأفعال وتحركات ملموسة على الارض8". فيما يتعلق ببنما ... الأمر أكثر انكشافاً ... فالوثائق بعيداً عن مدى صحتها وأعتقد في صحتها ... فقد جاءت بعد محاولات متكررة لإحداث ضجة باستخدام تقنيات التسريبات ... كان آخرها اختراق الايميل الخاص لهيلارى كلينتون والتي أظهرت هي الأخرى بعض ما هو خفى عن العلاقات السياسية غير الرسمية من وإلى واشنطن. الجديد في وثائق بنما أنها جاءت بممارسات فضائحية تتعلق بالفساد المالى.. لأشخاص من ذوى التأثير السياسي سواء كانوا في الحكم أو خارجه ... لكنها فضائح قديمة تم نشرها أيضاً في العقد الماضى ... جاءت أوراق بنما لتعيد احياءها مرة أخرى.
وهذا يندرج تحت بند عمليات حرق الكروت وإعادة التوظيف السياسي ... ويبدو أن ظهور عدد كبير من المشاهير غير المنتمين للسياسة قد احدث ضجة كبرى ساعدت في انتشار الموضوع ليضرب خارج وداخل السياسة.
ما يعنينا في أوراق بنما هو توقيت ظهورها، حتى بأكثر مما تعنينا الفضائح المالية التي ربما تكون حقيقية ... هذا لأنها تحولت الى عامل تحريك سياسي في كل منطقة أو بلد قصفتها الوثائق.
لعبة الوثائق هى أداة واضحة لحرق شبكة علاقات واسعة ... ومن الملاحظ مثلاً أن المناطق الرئيسية المذكوره جغرافيا فى الوثائق هى منتمية لمناطق نزاع دولى وأمريكا طرف واضح فيها وهى الشرق الأوسط ووسط آسيا والارجنتين وروسيا ومحيطها الجغرافى فى شرق أوروبا وكذلك القوقاز . المثير فعلاً أن بنما هي أكبر منطقة غسيل أموال لمجتمع المال والاعمال الامريكى .. ولم نجد وثيقة واضحة عن غسيل أموال أي من مرشحى الرئاسة الامريكية أو رجال الاعمال الامريكيين. والمدهش هو أن التسريب جاء من شركة فى دولة صغيرة الحجم والوزن كدولة بنما التى لا تتخطى مساحتها 67 الف كم مربع وبها ثلاث قواعد أمريكية وهى " قاعدة ألبروك - فيلد , قاعدة فورت كليتون , قاعدة جوارد - فيلد. يعنى بلد صغير الحجم وبه ثلاث قواعد أمريكية ... ولا يختلف كثيراً عن قطر اللى فيها قاعدة واحدة.
أخيراً ... يبدو أن توقيت التسريب دقيق ... ويلعب على متناقضات الواقع في أكثر من بلد على مستوى العالم ... ويبدو أنه استخدم الإغراء أكثر مما استخدم المواجهة ... ويبدو أنه يجهز الضربة في الموجة الثانية من التسريبات الموجهة.. لذلك فإن أوراق بنما بداية لعبة وليست نهايتها.