أوضحنا في المقالات السابقة أن الاختلاف في الرأي شيء طبيعي، وأنه ناتج عن اختلاف في الأهواء والاعتقادات والتفضيلات بين البشر، كما أوضحنا أن العاقل فقط هو من يختلف مع الآخرين، لكنه يحترم وجهات نظرهم ويتفهمها ولا يجعل هذا الاختلاف سببًا للخلاف أبدًا، وقد يؤدي الاختلاف إلى الحِجاج، وهو محاولة كل طرف من أطراف النقاش إثبات صحة وجهة نظره أو تفنيد وجهة نظر الطرف الآخر حتى يثبت بطلانها. تقول خديجة محفوظي (2006) "إن السبب الأول للحجاج هو وجود اختلاف بين طرفين حول فكرة معينة واستخدامهما آلية الإقناع لدعم أو دحض هذه الفكرة"، وهذا القول بالغ الأهمية، حيث يوضح أن آلية كل طرف من أطراف الحوار في إثبات صحة وجهة نظره للطرف الآخر هي "الإقناع". ومعنى هذا أنه ينبغي على كل طرف أن يستخدم الإقناع كي يثبت صحة وجهة نظره وبطلان وجهة نظر الطرف الآخر، لكن أحيانًا كثيرة يلجأ أحد أطراف النقاش إلى استخدام آراء لا يدعمها أي دليل، لكنه يصر على أن رأيه هو الحق وأن ما عداه الباطل، ثم لا يقدم أي دليل على رأيه هذا. ومن هنا يتضح العنصر الثاني من عناصر ما لا يمكن أن يعد حجة على الإطلاق، والتي ذكرتها إجمالًا في مقالي "وبضدها تتميز الأشياء"، وهذا العنصر هو "النقاشات التي تحتوي على آراء لا يدعمها دليل حقيقي". عزيزي القارئ، إذا كان لديك وجهة نظر فينبغي أن يكون لديك دليل أو مجموعة أدلة تثبتها وتقويها، وإلا فلا حجة لرأيك على آراء الآخرين، ولا احتجاج به على شيء أيضًا، ويبقى من الأحرى والأفضل لك أن تحتفظ برأيك لنفسك ولا تحاول أن تقنع به أحد. لقد كثرت في محادثاتنا عبارات مثل "اسمع اللي بقولك عليه، أهو كده، هو زي ما بقولك كده، عشان كده"، لكنني اسأل كل من يلوك تلك العبارات بفيه ليل نهار: ما معنى "كده"؟ لماذا يجب علينا جميعًا أن نصدقك إذا كان دليلك على صحة كلامك هو "كده"؟ لماذا تعتقد أن تلك الكلمة تحوي من السحر ما يجعلها تكون سببًا قويًا لنا أن نسلم بما تقول ونصدقه ونؤمن به ونعمل به؟ وقد تتبعت هذه الكلمة الغامضة في استخدام الكثيرين لها، فوجدت أن السر وراءها هو الإفلاس الشديد وعدم امتلاك أي حجة أو دليل، ولو أنك واجهت أي متحدث ممن يطلب منك أن تقتنع بوجهة نظره "عشان كده" فستجد أنه لا يمتلك أي دليل على كلامه. كان هذا عندما وجدت أن هذه الكلمة يكثر استخدامها بشدة بين الأطفال عندما يعجزون عن متابعة الكلام مع الكبار، فتجد صغيرًا يطلب منك هاتفك المحمول كي يلعب به قليلًا، فتقول له: لماذا تريد الهاتف؟ فيجيبك: عشان ألعب بيه، فتقول: ولماذا تريد أن تلعب به؟ فيجيبك: عشان أتبسط، فتسأله: ولماذا تريد أن "تتبسط"؟ فيقول لك وقد عجز عن الإجابة: عشان كده بقى. وأغلب ظني أن تلك العبارة تعلق بأذهاننا حتى مع التقدم في العمر، فتجد رجلًا كبيرًا محترمًا يحدثك حديثًا لا تقبله ولا تعقله، وعندما تشكك في كلامه فتراجعه فيه متسائلًا: ما الدليل على ما تقول؟ لماذا يجب أن أصدق ما تقول؟ فيرد عليك بثقة كاذبة: اسمع بس اللي بقولك عليه، هو كده. عزيزي القارئ، تلك العبارات تدل على الإفلاس وعدم امتلاك الحجة والدليل والبرهان، لا يجب علينا أبدًا أن نستمع إلى ما يقوله أي شخص على وجه الأرض طالما التحف بالغموض وظن أننا لا نستحق أن نعرف دليله على ما يقول. نسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا.